مقالاتمقالات مختارة

المناهج الفكرية عند التيارات الإصلاحية الإسلامية

المناهج الفكرية عند التيارات الإصلاحية الإسلامية

بقلم محمد الشامي

لما كانت التصورات والأفكار والاجتهادات مبنيتاً على قواعد واستدلالات كان لا بد لأصحاب التيارات والأحزاب من منهجيات علمية موضوعية ونظريات معرفية (أبستمولوجية) لتأصيل الأفكار والنظريات وبناءً على مرجعية المسلمين الشرعية التي تستند بالدرجة الأولى على نصوص الكتاب والسنة وأصول وقواعد السلف الصالح والأئمة المتبوعون في التعامل مع النصوص واستنباط الاحكام الشرعية منها اعتمدت مناهج التيارات الفكرية الإسلامية المعاصرة على هذه المناهج للخروج بالأحكام والتصورات والنظريات على كافة الأصعدة السياسة والاجتماعية والاقتصادية، التي تحقق شمولية الإسلام لكل زمان ومكان. ولكن هذه المناهج المتبعة لدى التيارات والحركات الإسلامية لم تكن على وتيرةٍ واحدة فقد تباينت واختلفت فيما بينها في الأصول والاستدلال مما أدى إلى تمايز النظريات والاجتهادات وانقسمت فيما بينها الى ثلاث فئات:

الفئة الأولى:

تعاملت مع النصوص الشرعية بتحجرٍ وسطحية فلم تراعي تغير الواقع في إنزال الأحكام ولم تفهم النصوص بعللها وأسباب نزولها وتطبيقات السلف لها بل تعاملت معها بظاهريةٍ مقيتة وحملت الأمة من البلاء ما لا تطيق وحجرت واسعاً على المسلمين وألصقتهم مرارة التكليف.

الفئة الثانية:

وهي فئة تأثرت بضغط الثقافة الغربية وانبهرت بمفاهيمها البراقة من حرية وديمقراطية فراحت تؤل النصوص الشرعية وتلوي أعناقها للتوافق مع تلك الثقافات الوضعية بتكلفٍ وتعنت فخرجت عن الموضوعية ولم تنطلق في اجتهاداتها وتأصيل نظرياتها من النص الشرعي بل انطلقت من المفاهيم الغربية والتي تتعارض بعضها مع الكثير من المسلمات من الأحكام والحدود الشرعية.

فراح أصحاب هذا الاتجاه يلتفون حول النصوص بغية التوفيق بينها وبين تلك الأفكار الغربية الوافدة فنشأ من ذلك انحرافات وشذوذات تتنافى مع تصورات الإسلام فخرم الإجماع وطعن بفقه السلف وردت كثيرٌ من المسلمات والأحكام (فلا تحتاج لكثير عناء حتى تعرف أن غاية هذه القراءة ليس الاهتداء بهذه النصوص ولا معرفة مراد الله منها ولا البحث عن الأوامر والنواهي لأجل الامتثال لها بل قد رسمت خطة سيرها بوضوح إنها قراءة موجهة قراءة ذات هدف محدد قراءة لها غاية تريد الوصول إليها قراءة لا تريد البحث عن النص وإنما تريد البحث من خلال النص لا تريد الاقتداء بالنص بل التخلص منه لا تراعي صحة تأويلها أو قربه من النص أو بعده تريد من النص أن يتحمل هذه التأويلات فهي محادة للتسليم ومناقضة للانقياد فالمقصود من هذه القراءة الوصول الى نتائج مسبقة والنصوص الشرعية حاضرة في أدبيتها من أجل أن تزاح فلا تثير إشكالاً على هذه النتائج فالنص صار مشكلاً لا دليلاً) (1).

أهمية فهم الواقع ومعرفته يجب أن تكون على شرط تحقيق تنزيل الحكم الشرعي وليس بأن يفصل الحكم على مقاس الواقع فمثل هذا لا يجعل لفقه الأحكام من قائدة لأن الواقع لا يخفى على الناس فلا حاجة للاجتهاد إذن

وهذه الظاهرة قديمة ظهرت في عصور السلف إبان تأثر البعض بالفلسفات الوافدة من الأمم السالفة كالفلسفة اليونانية، حيث يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في معالجة ذات الإشكالية (وكثير من المتأولين لا يبالي إذا تهيأ له حمل اللفظ على ذلك المعنى بأي طريق أمكنه أن يدعي حمله عليه إذ مقصوده دفع الصائل فبأي طريق اندفع عنه دفعه والنصوص قد صالت على قواعده الباطلة فبأي طريق تهيأ له دفعها دفعها ليس مقصوده أخذ الهدى والعلم والإرشاد منها فإنه قد أصل أنها أدلة لفظية لا يستفاد منها يقين ولا علم ولا معرفة بالحق وإنما المعول على آراء الرجال وما تقتضيه عقولها وأنت إذا تأملت تأويلاتهم رأيت كثيرا منها لا يحتمله اللفظ في اللغة التي وقع بها التخاطب وإن احتمله لم يحتمله في ذلك التركيب الذي تأوله وليس لأحد أن يحمل كلام الله ورسوله على كل ما ساغ في اللغة أو الاصطلاح لبعض الشعراء أو الخطباء أو الكتاب أو العامة…) (2).

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ذلك أيضا (فَلِهَذَا تَجِدُهُمْ إذَا احْتَجُّوا بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ لَمْ يَعْتَنُوا بِتَحْرِيرِ دَلَالَتِهِمَا وَلَمْ يَسْتَقْصُوا مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى؛ إذْ كَانَ اعْتِمَادُهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَالْآيَاتُ الَّتِي تُخَالِفُهُمْ يَشْرَعُونَ فِي تَأْوِيلِهَا شُرُوعَ مَنْ قَصَدَ رَدَّهَا كَيْفَ أَمْكَنَ؛ لَيْسَ مَقْصُودُهُ أَنْ يُفْهَمَ مُرَادَ الرَّسُولِ؛ بَلْ أَنْ يَدْفَعَ مُنَازِعَهُ عَنْ الِاحْتِجَاجِ بِهَا) (3).

فوا عجبا لمن تكلف تجنب مراد الله سبحانه وتعالى وتنصل من أحكامه لاسترضاء من لا يدخل جنتا ولا يقي نارا (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)) (الزمر 55 _ 56).

الفئة الثالثة:

وهي الفئة التي اهتدت بالحق واتبعت القرآن والسنة بنهج سلف الأمة من غير إفراط ولا تفريط فلم تغلو في دين الله وتكلف غير المعتبر في شريعة الله ولم ترجئ وتميع فتحمل النص على غير مراد الله بل اتبعت الصراط المستقيم فحفظ الله بها الدين وصدق فيها قول رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِك) (رواه مسلم (1920).

وقام منهجها على اتباع النصوص وفهمها بسياقاتها اللغوية والمقامية ومعرفة أسباب نزولها وعللها ودلالاتها وثبوتها وتطبيقاتها ومحكمها ومتشابهها ثم دراسة الواقع لإنزال الحكم عليه بمعرفة كونه استضعافا أم تمكينا ومعرفة فقه الواقع والأولويات والموازنات ومعرفة أحوال الناس وأعرافهم وعوائدهم وسياقاتهم الاجتماعية والسياسية وذلك من أصول الفتوى والاجتهاد حيث يقول الأمام ابن القيم “وَمَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِمُجَرَّدِ الْمَنْقُولِ فِي الْكُتُبِ عَلَى اخْتِلَافِ عُرْفِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَأَمْكِنَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهِمْ فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ، وَكَانَتْ جِنَايَتُهُ عَلَى الدِّينِ أَعْظَمَ مِنْ جِنَايَةِ مَنْ طَبَّبَ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ بِلَادِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَطَبَائِعِهِمْ بِمَا فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الطِّبِّ عَلَى أَبْدَانِهِمْ، بَلْ هَذَا الطَّبِيبُ الْجَاهِلُ وَهَذَا الْمُفْتِي الْجَاهِلُ أَضَرُّ مَا عَلَى أَدْيَانِ النَّاسِ وَأَبْدَانِهِمْ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ”.

ولا يعني ذلك أن تبنى الاجتهادات والنظريات بناءً على ضغط الواقع ومعطياته بل يعرف الواقع ويفهم لينزل فيه الحكم الصحيح مراعيا الظروف والسياقات، فأهمية فهم الواقع ومعرفته يجب أن تكون على شرط تحقيق تنزيل الحكم الشرعي وليس بأن يفصل الحكم على مقاس الواقع فمثل هذا لا يجعل لفقه الأحكام من قائدة لأن الواقع لا يخفى على الناس فلا حاجة للاجتهاد إذن) (4)، والحق لمن اذعن لقول الله تعالى (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) طه: 123-124.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر:

1- فهد العجلان _التسليم للنص الشرعي والمعارضات الفكرية المعاصرة _ص86.

2-  ابن القيم الجوزية _ مختصر الصواعق المرسلة _ ص 46.

3- ابن تيمية _ مجموع الفتاوى _ 13 / 58 – 59.

4- سعد بجاد العتيبي _ موقف الاتجاه العقلاني الإسلامي المعاصر من النص الشرعي _ ص (251).

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى