مقالاتمقالات مختارة

موريتانيا.. حرب على الذات

موريتانيا.. حرب على الذات

بقلم مخلص برزق

خلال سنوات عمري كلّها، ورغم تنقلي في بلاد شتَّى، إلا أنّه لم يقع بين يديّ أيّ منتج يحمل عبارة “صنع في موريتانيا”، كما أنّني في الوقت ذاته لا أستطيع تخمين ما يمكن أن يكون قد غاب عنّي من صادرات نواكشوط إلى أرجاء الدنيا.

لكن الذي أقطع به أنّني وفي فترةٍ مبكرةٍ من عمري تعرَّفت على ما هو أنفس وأثمن وأجلّ وأغلى من الطّعام والشّراب والآلات والأدوات من خلال خلطتي بالطلبة الموريتانيين المبتعثين إلى الجامعة التي كنت أدرس فيها.

كانت العلامة المميَّزة للشناقطة نهمهم اللاّمتناهي بالعلم والتَّعلُم بكافّة مناهله، وتمتّعهم بمخزونٍ ضخمٍ جداً من الثقافة الموسوعية الطابع. حتى أننا كنّا نلمح بينهم سيبويه يتجول في أروقة الجامعة ويعتكف في مكتباتها والطبري والأوزاعي مع البحتري وأبو تمام وابن الأثير.

تعرَّفتُ بعدها على أساطين علمٍ أنجبتهم موريتانيا، غمرت أنوارُهم البرِيّة بجهدهم واجتهادهم وتفانيهم وإخلاصهم حتى لكأنَّهم جاؤوا عبر آلة الزمن من زمن الصحابة والتابعين والأئمَّة المجتهدين. كانت سمة التواضع والزّهد ورِقّة القلب قاسماً مشتركاً بينهم فضلاً عن غزارة العلم وابتعاده عن مدارس التّعصّب والحزبية والفئوية والمناطقية. أما فلسطين ومسجدها الأقصى فقد كان لهما نصيباً وافراً في عطاء أولئك العلماء وجهدهم وجهادهم ومواكبتهم للأحداث على الأرض المباركة. فأدبياتهم ومحاضراتهم وخطبهم تزخر بالدُّرر تأصيلاً وتوجيهاً لمفردات القضية الفلسطينية، وعاطفة مقدسيّة جيّاشة.

موريتانيا البعيدة جغرافياً قرَّبها أولئك العلماء كثيراً، وكثيراً جداً، وجعلوا لها حضوراً مميّزاً في محافل الخير والبذل والعطاء رغم الغياب الرسمي والانكفاء على الذّات والشّأن الداخلي.

أمثال أولئك العلماء ومعهم طلاب العلم الذين يتتلمذون عليهم كانوا يستحقون كل التكريم والتمجيد وأن يُقرَّبوا من جهات صناعة القرار في البلاد وأن تُشيَّد لهم دور العلم ويدعموا بكل ما يلزمهم لتعزيز مهمتهم النبيلة في إخراج الناس من الظّلمات إلى النُّور.

أمَّا أن يكون جزاؤهم هو جزاء سِنمَّار بإغلاق “مركز تكوين العُلماء” وسحب ترخيص جامعة “عبد الله ابن ياسين” فإن ذلك ليس سوى حرب شعواء على الذات ونقضٍ للغزل الأجمل والأحسن والأبدع من بعد قُوَّةٍ أنكاثاً..

إنها حربٌ ستجرُّ البلاد لويلاتٍ لا حصر لها، ولا حدود لتداعياتها، تؤدي -إن تواصلت- إلى تقويض أساسات الأمن المجتمعي للبلاد، واستحضار السُّنن الإلهيَّة المطَّردة في الكون بزوال الطُّغاة والظالمين والتمكين للصَّالحين المصلحين. ولا عجب، فإن من يُقحم نفسه في عشّ الدَّبابير، متجاهلاً نصائح الخبراء والمجرِّبين، عليه أن يتحمَّل وزر غبائه وحمقه، ولايلومنَّ إلا نفسه وهو يتلقّى اللّسعات من كلِّ جانب. إنَّ الذي لا يُبالي بوعيد الله وتحذيره من مساس أوليائه بسوء كما في قوله تعالى: “من عادَى لي وليّاً فقد آذنتُهُ بالحرب”، فعليه أن يتجهَّز لمواجهةِ جنود الله الأشِدَّاء الذين لا قِبَلَ لأحدٍ بهم. عليه أن يعتبر من مصير قوم ثمود حين ركبوا رأسهم وخالفوا أمر ربهم “فعقروها فقال تمتَّعُوا في داركم ثلاثة أيَّام ذلك وعدٌ غيرُ مكذوب”.

إنَّ المساس بالعلماء ودور العِلم ليس أمراً هيِّناً أو حدثاً عابراً في تاريخ الأمم، فأثر ذلك ليس قاصراً على شخص العالِم، وإنَّما على المجتمع بأسره الذي هو أحوج إلى عِلم العالِم من حاجته إلى الماء والهواء، ولنا أن نستشعر هول الجريمة وفظاعتها بحق العلماء من خلال معرفة مكانتهم ومنزلتهم التي يلخِّصها حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بقوله: “فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم”، وقوله: “إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النَّملة في جحرها وحتى الحوت ليُصَلُّون على مُعلِّم النّاس الخير” رواه الترمذي وصححه الألباني.

إنّني شخصيّاً أستشعر وأنا أمرّ على جحر النَّمل الذي أراه في طريقي إلى مقرِّ عملي يوميّاً، أنّ ذلك النّمل وهو في حركته الدّائبة لا يغفل –وإن غفلنا نحن- عن الدُّعاء للعلماء في موريتانيا، وأتخيّل أنَّني لو كنت أملك ناصية لغة النّمل -كسليمان عليه السلام- لسمعتُ الدّعوات تنهال على الذين أغلقوا مركز تكوين العلماء وجامعة عبد الله ابن ياسين!

(المصدر: هيئة علماء فلسطين في الخارج)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى