لنقرأ التاريخ بمنهجية علمية صحيحة (1-2)
بقلم د. محمد عياش الكبيسي
التاريخ ذاكرة الأمم، وعمرها الممتد مع الزمن، بما فيه من خبرات وذكريات وصداقات وعداوات ونجاحات وإخفاقات.
كل الأمم والشعوب والقبائل تبحث عن تاريخها وتوثّقه، لأنه دليل أصالتها وعراقتها، وملهم أبنائها وأحفادها، حتى تلك التي ليس لها ذلك التاريخ تحاول أن تنبش في الآثار وفي الجبال والوهاد والقفار لعلها تجد ما تعزز به تاريخها، وتشدّ به آصرة أبنائها.
اليوم نجد بعض المثقفين العرب كأنّهم يتنكّبون لهذه الفطرة الإنسانية، ويحاولون أن يغلقوا سفر تاريخهم ويطمسوا صفحاته، وكأنه عورة يجب سترها، وهذه الظاهرة على قلّتها إلا أنها باتت تتوسّع، وهذا يعني أن هناك مبرراً ما لوجودها وتوسعها، فالتاريخ الذي نتناوله اليوم أصبح في كثير من الأحيان عبئاً وثقلاً على كاهل الأمة، فالاحتقان الطائفي الذي أحرق الأخضر واليابس إنما هو معضلة تاريخية بامتياز، ويلحق بهذا الخلاف حول شكل الدولة، ومؤسساتها، والخلافة، وشروطها، وظاهرة الاستبداد، وأسبابها، ولا شك أن التاريخ حاضر في كل هذه الملفات بقوة، وهناك أيضاً حالة الجمود الفكري والفقهي، والتي يعزوها كثير من المفكّرين إلى ظاهرة «تمجيد الماضي واحتقار الحاضر»، أما على الصعيد الخارجي فهناك تصوّر رائج أننا ربما ندفع اليوم ثمن التاريخ في صراعات دينية وحضارية لم نعد بحاجة إليها، وقد تناولنا هذه النقطة في مقال سابق على صحيفة «العرب» بعنوان «إيران والغرب وتصحيح الأخطاء التاريخية»، حيث يرى بعض ورثة الإمبراطوريات السابقة أن الفرصة قد تكون مواتية لهم للثأر من «الفتوحات الإسلامية».
تقابل هذه النزعة نزعة أخرى تساويها في القوة وتعاكسها في الاتجاه، تدعو إلى تقديس الماضي، والعيش فيه، واستصحابه في كل زاوية من زوايا الحياة، وهؤلاء يقيسون كل شيء بمعيار الماضي، حتى تسمع من بعضهم إنكار التظاهر والتجمعات الاحتجاجية، لأنها لم ترد! ومنهم من تحدّثه عن المراصد الفلكية، ودقة ما توصّلت إليه فيرد عليك بنص من «علم الهيئة» واختلاف المطالع، وكأنها نصوص من الوحي، ورأيت أحدهم يتحدّث من كتاب «الطب النبوي» لابن القيم -رحمه الله- فيقول: هذا هو الطب! والأدهى من هؤلاء من ارتسمت في ذهنه صورة معينة ومحددة من التاريخ للحق الذي يسعى لاستعادته، واستئناف الحياة على أساسه، صورة «الخليفة الزاهد» أو «الإمام المعصوم»، وبالتالي فكل الصور التي يراها إنما هي «الكفر» و «الردّة» والانحراف والضلال، ومن هنا بدأت حملات التكفير، واستباحة الدماء والأموال والأعراض.
بين هؤلاء وأولئك مساحة للتخادم، وإن كانت بغير اتفاق، فكلما زاد هؤلاء في تطرّفهم وتخلّفهم وتمسّكهم بالماضي، زادت رغبة أولئك بالتحلل من كل قيد أو فكرة سابقة مهما كانت، وربما جنحوا أكثر إلى شتم الماضي، والانتقاص منه بذريعة أو بغير ذريعة. هناك الوسط الذي يحاول أن يتجنب تطرّف هؤلاء وأولئك، لكن هذا الوسط ليس واحداً، فهو أشبه بالطيف الواسع الممتد بين الطرفين المتخاصمين، وإن كان يجمعهم التغنّي بالوسطية، والجمع بين «الأصالة والمعاصرة»، ومن هؤلاء من يخبط خبط عشواء، فتراه يأخذ من هذا ومن هذا بطريقة فوضوية لا تستند إلى وعي ولا إلى منهج علمي، فلا هو أبقى على الأصالة، ولا هو استفاد من المعاصرة.
(المصدر: صحيفة العرب الالكترونية)