مقالاتمقالات مختارة

مغالطة «العلمانية تساوي التقدم»

مغالطة «العلمانية تساوي التقدم»

بقلم محمد أمزيل

وهم القبيلة

إن البشر يميلون بسذاجتهم إلى مغالطة منطقية تسمى التعميم المتسرع، وسماها فرانسيس بيكون «وهم القبيلة»، حيث ينزح البشر بحماقة إلى إعطاء حكم عام على أمور معينة انطلاقًا من استنتاج جزئي لأمر ما، قد يكون مشابهًا في بعض النواحي لتلك الأمور.

إنها نظرة سطحية للحياة، تُظهر مدى تفاهة العقل البشري إن لم يأخذ وقته في تدقيق المسائل والتعمق فيها عن طريق التحليل وجمع الأدلة. فإصدار الأحكام أسهل من دخول المرحاض.

ومن هذه المغالطات التافهة، هي مغالطة الربط الميكانيكي بين العلمانية والتقدم، حيث يحاول بعض العلمانيين العرب أن يؤكدوا أن سبب تخلف المجتمعات العربية من الشرق الأوسط إلى شمال أفريقيا هو عدم تطبيقهم للعلمانية، ودليلهم في هذا هو المقارنة السطحية الآنية بين المجتمعات الغربية ومجتمعاتنا. فهم اعتمدوا على منهج منطقي سطحي جدًا، يعتمد على القياس الأرسطوطالي وأسلوب المقارنة الاستاتيكية:

«الغرب متقدم، الغرب طبَّق العلمانية، المجتمعات العربية متخلفة، المجتمعات العربية لم تُطبق العلمانية. انطلاقا من هاته المسلمات نلاحظ أن من طبَّق العلمانية يتقدم ومن لم يطبقها لا يتقدم، إذن العلمانية تؤدي إلى التقدم».

هنا أمر مهم لدحض هذا الطرح المعتمد على منهج منطقي واجتماعي استاتيكي ساذج وسطحي. فالوصول إلى هذه النتيجة بهذا المنهج، يضعنا أمام مجموعة من الإشكاليات: وهي ما الرابط العِلّي (السببي) بين العلمانية والتقدم؟ هل تطبيق العلمانية يُؤدي مباشرة إلى التقدم؟ وهل التقدم هو هدف الإنسانية؟

الملاحظ أن الإشكاليات تأخذ أبعادًا تاريخية واجتماعية، لا يمكن أن نستنتج نتائج بشكل متسرع دون تحليل دقيق لظاهرة العلمانية وظاهرة التقدم، وبحث العلاقات الممكنة بينهما، وفرز السبب والنتيجة إن كانت العلاقات ميكانيكية، أو فرز التأثير والتأثر إن كانت العلاقات وظيفية.

هذا الأمر يحتاج بحثًا متعمقًا وأكثر تدقيقًا، يسير بمنهج علمي دقيق وصارم، يحيط بكل النقاط ما أمكن. لهذا لن أشرع في تحليل هذه الإشكالية أو الحديث عنها، ولكن سأقدم في هذا المقال بعض التناقضات التي تحملها مغالطة «العلمانية = التقدم».

إشكاليات واقعية وتاريخية

إن كانت العلمانية قد طبقت في الغرب، فإنها قد طُبقت بأشكال متنوعة حسب نوعية السياسة والنهج الاقتصادي المتبع داخل الدول الغربية. فالعلمانية التي طبقتها النازية ليست هي العلمانية التي طبقتها الدول الرأسمالية وليست هي العلمانية التي طبقتها الدول الاشتراكية ذات الحزب الواحد، فهل يمكن اعتبار التقدم العسكري والاقتصادي في ألمانيا تحت قيادة الفوهرر هو بسبب العلمانية أم بسبب النازية؟ وهل هذا التقدم هو التقدم المنشود من طرف الإنسانية؟ وهل العلمانية الرأسمالية (أو الليببرالية الديمقراطية) هي الأفضل؟ أم العلمانية الاشتراكية (أو الديكتاتورية العلمية)؟ وهل تقدم الرأسمالية هو المنشود أم التقدم الاشتراكي؟

لا أظن أن العلمانيين العرب ينظرون إلى التقدم بطريقة علمية تتبعه في سياقاته الإجتماعية والتاريخية والعلمية، وإنما ينظرون إليه على إثر الصدمة الحضارية التي تعرض لها بسبب المقارنة بين الحاضر الآني لمجتمعاتنا والمجتمعات الغربية في إطار التقدم التكنولوجي والاجتماعي فقط، دون نقد للوضع القائم بتجرد عن أي تصور قبلي للعالم المتقدم (بمفهوم الحاضر) وتتبع أسبابه الموضوعية التي جعلت الغرب يتقدم والمجتمعات المتخلفة من العالم التابع يعيش هذا الوضع.

التقدم بالعلمانية أم بالاستغلال؟

إن رحلة الغرب للوصول إلى هذا المستوى من التقدم هي رحلة طويلة استمرت قرونًا عديدة، بدأت بالنهضة الأوربية وما وازاها من الكشوفات الجغرافية (أو الاستعمار الشمولي للعالم الجديد والاستحواذ على المعابر التجارية العالمية)، عابرين من سهول عصر الأنوار وما أنتجه فكريًّا من آراء سياسية واقتصادية وفلسفية وصولًا إلى الثورة الصناعية التي وازاها هي الأخرى الاستعمار التقليدي الذي ألقى بظلاله الاستعبادية على الأرض والعباد، إلى أن وضع رحالها في أدغال الإمبريالية التي تخترق العالم بالعولمة مسيطرة على دفوف الاقتصاد العالمي، مُحتكرة الصناعات لنفسها، واضعة القوائم الاستهلاكية للعالم التابع، مُغْرقة إياه في الديون والحروب، واقفة أمامه بالعوائق الاقتصادية وحق الفيتو حتى لا يستقل بنفسه اقتصاديًّا وسياسيًّا.

إذن نرى أن الغرب لم يتقدم الآن، لأنه طبق العلمانية، بل إنه تقدم لأنه تفنن في طرق الاستغلال والسيطرة، وابتكر الوسائل التقنية والاستراتيجية والتكتيكية ليُحافظ على الوضع كما هو.

العلمانية إن عزلت الدين عن العلم وفتحت المجال أمام الإنسان الأوروبي لكي يُبدع فقد عزلت الأخلاق عن السياسة وجعلت الإنسان الأوربي يستغل الإنسان الآخر خارج أوروبا، لقد أفرزت الوحش المُستعمِر الذي برر وحشيته بمفردات اقتصادية وتطورية، فأصبح لدينا الإنسان الأبيض والإنسان الآخر.

الحكم على العلمانية

العلمانية بالطبع لا تسمح للسياسة بأن تستغل الدين بطرق مستفزة من أجل المصلحة الفردية، ولكنها لا تمنع المصلحة الفردية لتفعل أي شيء من أجل تحققها. فحتى ولو أنها وضعت قوانين لممارسة السياسة حتى لا يُعتدى على حقوق الإنسان، فإنها لم تردع الفردية التي تخترع كل يوم طريقًا ملتفًا لتحقيق مصلحتها، فالعلمانية اخترعت الفردية وتُحاول ضبطها، وهذا لا يمكن، لأن الفردية الآن تمارس العلمانية لتبرر ممارستها أمام ضوابط العلمانية نفسها.

لا يعني هذا أن العلمانية شر والثيوقراطية خير، ولكن الحكم على هذا أو ذاك بطريقة دوغمائية هو الشر، فالعلمانية (سياسيًّا) نظام ممكن وليس ضروريًّا والثيوقراطية كذلك.

تعريف فوكاوي للعلمانية

إن اللبس المفهومي الذي يكتنف مفهوم العلمانية هو الذي جعل الجدل يأخذ مسارات دوغمائية أيديولوجية. فما يتداول حول هذا المصطلح هو أنه فصل الدين عن الدولة، ولكن الملاحظ أن هذا التعريف يأخذ الصياغة السياسية فقط، فهو تعريف بمقاربة سياسية، ذات بعد «سيادي-قانوني» بمصطلح ميشال فوكو، فكما يقول هذا المفكر، إن التحليل والتفكير السياسيين لم يقطعوا رأس الملكي بعد، أي أنهما لم يتخلصا من المنظور السيادي-القانوي لتدقيق المسائل السياسية، وهذا ما يمس أيضًا مفهوم العلمانية من غموض.

لهذا لو اتبعنا مسار ميشال فوكو، فسنقول بأن العلمانية منتشرة في أية نقطة في المجتمع تغطي الممارسات اليومية للناس، فهي أي سلوك يمارس بهدف أناني أو اجتماعي بعيدًا عن أية أهداف بعيدة عن الواقع، فترضيع المرأة لابنها هي علاقة علمانية، وممارسة الرياضة مع الآخرين هي علاقة علمانية، والترشح للانتخابات هي علاقة علمانية. ولكن أية ممارسة تدخل في سياق العلاقات اليومية، يلزمها ضوابط لتنظيمها. فهناك ضوابط الدين وضوابط التقاليد وضوابط الأعراف وضوابط القوانين وضوابط العلم. فالممارسة التي تلتزم بضوابط الدين هي ممارسة دينية، والتي تلتزم بالتقاليد هي ممارسة تراثية أو تقليدية، والني تلتزم بالقوانين هي ممارسة مدنية والتي تلتزم بالأعراف هي ممارسة قبلية أو بدوية والتي تلتزم بالعلم هي ممارسة علمية.

إذن نرى أن العلمانية تنتشر في العلاقات بين البشر داخل المجتمع، أما الدين والأعراف وغيرها من الضوابط هي تخص الممارسة.

وبالتالي فالصراع، بهذا المفهوم الفوكوي، بين العلمانية والثيوقراطية، هو صراع بين الضوابط القانونية والضوابط الدينية، أي بين الممارسة المدنية والممارسة الدينية. والسؤال المطروح هنا، هو هل الضوابط الدينية تمنع من التقدم؟ وهل الضوابط القانونية هي التي يجب أن تسود من أجل التقدم؟

(المصدر: ساسة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى