قراءة في ما وراء ظاهرة الإلحاد في العالم العربي
بقلم رمضان أحمد بريمة
لي زميل اشترك معي في الترجمة الفورية في بعض المؤتمرات ونشأت بيننا صداقة، فعلمت منه مؤخراً أنه ترك الإسلام وأصبح من أهل التفكير الحر – وهو الاسم “الحركي” للإلحاد. عقدت معه عدة جلسات لمناقشة موضوع التفكير الحر هذا من حيث جذوره ومبادئه ومنطقه وما إلى ذلك. وكنت حريصاً على الاستماع إليه لأستوعب الفكرة، فوجدته مهتزاً متشككاً لا يملك أرضية فكرية. ما خرجت به من خلاصة هي أن ظاهرة الإلحاد وسط الشباب لا تنفصل عن حالة التوهان الفكري والثقافي التي يعاني منها العالم العربي. وسنتعرف من خلال هذه المدونة على الزواج السري بين أنظمة الاستبداد وبين الإلحاد المتدثر بالعلمانية، وانعكاس ذلك على قوى التغيير بمختلف مدارسها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
الأرقام الحقيقية للملحدين في العالم العربي غير دقيقة، ولكن هناك بعض المؤشرات التي تعطي فكرة عن تنامي الظاهرة. فقد أورد موقع البي بي سي قولاً منسوباً إلى دار الإفتاء المصرية عام 2014 أن عدد الملحدين في مصر بلغ 866 بينما أشار آخرون أن عددهم يبلغ الآلاف. وهناك دراسة أجرتها مؤسسة غالوب في نفس العام أشارت إلى أن 5% من السعوديين قالوا أنهم كانوا ملحدين. وأجرى قسم المتابعة في البي بي سي دراسة على صفحات الملحدين في العالم العربي فوجد أن هناك متابعة كبيرة لهذه الصفحات.
فمثلاً صفحة الملحدين التونسيين يتباعها أكثر من 10 آلاف وصفحة الملحدين السودانيين يتابعها أكثر من 3000 آلاف بينما تضم صفحة الملحدين السوريين أكثر من 4000. وعلى تويتر يتابع صفحة الملحدين العرب أكثر من ثمانية آلاف متابع. وبعيداً عن لغة الأرقام، هناك الكثير من الشباب في العالم العربي أصبح يتبنى الإلحاد دون أن يصرح بذلك، خوفاً من المجتمع وحفاظاً على سمعته. فهؤلاء هم الملحدون المستترون في ثوب العلمانية.
قبل أن نخوض فيما وراء الإلحاد في العالم العالم العربي لابد من توضيح أصناف الإلحاد. هناك صنفان من الملحدين: الصنف الأول يمثل الكافرين بوجود الله ولكنهم لا يستطيع الإعلان عن ذلك. وهذا النوع يعادي الدين بالضرورة ويحارب كل مظاهره، من خلال المنابر التي يسطير عليها باسم العلمانية. والنوع الثاني يمثل الشباب التائه المتأثر بالحملة التشكيكية الضارية على الدين من فوق المنابر الرسمية من ناحية، ومفتتن بالتطور الذي بلغته الدول الغربية بفضل خروجها على “الدين” من ناحية أخرى!
يبدو أن الدولة العميقة في حربها على ما يسمى بالإسلام السياسي لم تعد تثق في العلمانيين من الليبراليين واليساريين والقوميين، ففضلت زواجاً سرياً مع الملحدين. هذا الزواج السري مهد لاستيلاء الملحدين على المنابر الرسمية، ولعل من أبرز تجليات هذا الاستيلاء التهجم على الدين عموماً والدين الإسلامي خصوصاً من خلال التشكيك في الثوابت، والنيل من الرموز الدينية، فضلاً عن تبني الدعوة لمراجعة المناهج المدرسية لتقليل الجرعة الدينية.
وبنفس القدر يحاول هؤلاء إيهام المجتمع بأن الدين هو سبب تدهور الأوضاع لأنه حرم الناس من الاستمتاع وبالتالي لابد من فتح مجالات الترفيه والتفسخ تعويضاً عن سنين الحرمان التي عاش فيها الناس. وفي سبيل تحقيق ذلك لابد من تكميم أفواه العلماء الذين قد يعترضون بأي شكل من الأشكال. وإمعاناً في حربها على تيار الإسلامي السياسي قربت الدولة العميقة الملحدين ولم تسلمهم المنابر الرسمية فحسب بل جعلت منهم مستشارين يوجهون سياسة الدولة. لذلك قد نستغرب كثيراً في قرارات تتخذها بعض الدول العربية ليس فيها أية مصلحة وطنية!
هناك بعض الأسباب الجوهرية التي مهدت الجو لبروز ظاهرة الإلحاد وسط الشباب بصورة عامة، أهمها:
* قمع الدولة للتنظيمات السياسية المؤمنة بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، مما أوجد جواً من الاحتقان السياسي وأصبح أمام الشباب خياران: إما الانضمام إلى تيار الإسلام المتشدد الذي لا يؤمن أصلاً بالديمقراطية من ناحية، أو معاداة الدين حتى لا يحسب هو على الاسلام السياسي إن أبدى شيئاً من مظاهر التدين.
* الاستخفاف بالدين والنيل من الرموز الإسلامية من فوق المنابر الرسمية، أدى بطريقة أو بأخرى إلى تضييق الخيارات لدى الشباب، لا سيما في ظل سطحية المادة الإسلامية المسموح بتدريسها في مدارس الدولة.
* الدور السلبي لعلماء السلطان وإبرازهم للإسلام في ثوب المسيحية في القرون الوسطى، حيث كانت تشرّع للاستبداد وتضفي بعداً دينياً لسلوك الحاكم. هذه الناحية بالذات جعلت الشباب ينظرون إلى الإسلام نفس نظرة دعاة التحرر الأوربي تجاه الدين المسيحي. وبنفس القدر فإن التطرف الإسلامي المدعوم بالخفاء من الدول الكبرى عبر عملائها العرب قد رسمت صورة قاتمة للإسلام أخافت المسلمين قبل الكافرين، وهو المطلوب من رعاة الإرهاب! وبالتالي قد ينفر بعض الشباب من الدين نظراً لسطحية معرفته به.
* الأخطاء السياسية التي ارتكبها بعض تيارات الإسلام السياسي في بعض الدول وفرت مادة دسمة للملحدين المتدثرين بثوب العلمانية ليتخذوا من هذه الأخطاء كأنها أخطاء الإسلام نفسه. فأصبح بعض الشباب، لضعف حصيلتهم المعرفية بالإسلام، عرضة للاعتقاد بأن هذه الأخطاء هي فعلاً أخطاء الإسلام وبالتالي لابد من الابتعاد عن الإسلام!
إذن، الإلحاد في العالم العربي عبارة عن ظاهرة عارضة أوجدتها الدولة العميقة لمساعدتها في محاربة القوى الصاعدة باسم محاربة الإرهاب، والدولة العميقة نفسها ليس لها مستقبل وإنما المستقبل للقوى الصاعدة بكل توجهاتها الفكرية، المؤمنة بالديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها. وبزوال هذه الظروف ستزول الظاهرة لسببين:
الإلحاد معول من معاول الثورة المضادة، مقصود به القضاء على ثوابت الأمة حتى يسهل ضرب قواها الحية، والقوى المناهضة للتغيير تتبنى أساليب مستترة للإجهاز على حركة التنوير
السبب الأول: هو أن الإسلام يختلف عن المسيحية جملة وتفصيلاً. فالمسحية هي التي كانت سبباً في تخلف الغربيين وبمجرد أن تخلصوا من سلطتها على الدولة نهضوا وتقدموا. وعلى العكس من ذلك فالإسلام وجد العرب قبائل تعيش في فوضى عارمة ومتناحرة فيما بينها لأتفه الأسباب فصنع منهم أمة تحمل رسالة إلى العالمين. وجعلت منهم صناع حضارة لم تشهد البشرية مثلها من قبل ولا من بعد. حضارة متوازنة تعترف بالإنسان روحاً ومادة. وبالتالي فإن تبني بعض الشباب الإلحاد على غرار ما فعله الأوربيون للتخلص من سلطة الدين لا يعدو أن يكون مجرد تقليد أعمى!
الاختلاف الآخر بين الإسلام والمسيحية هو في مفهوم الإله، إذ خلطت المسيحية فكرة التوحيد بكثير من التراث الوثني الروماني فأصبح الإله شيئاً هلامياَ لا يستصيغه أصحاب الفكر الذين يستخدمون عقولهم. ولو كنت في مكانهم لأصبحت ملحداً معهم! وأما الإسلام فقد حسم موضوع الإله ولخص مفهومه في كلمات موجزة “ليس كمثله شيء وهو السميع البصير”. وبالتالي كفانا عناء التفكير في ذات الله. لأن تصور الإنسان لا يتجاوز الزمان والمكان والخالق سبحانه وتعالى كان قبل الزمان والمكان وسيبقى بعد زوال الزمان والمكان. ومن هنا فإن الإسلام يوجه فكر الإنسان إلى التفكر في الكون واستكشافه ليدرك فعلاً أن هذا الكون بهذا الترتيب الدقيق لابد له من موجِد، وهو الله الواحد الأحد الذي ليس كمثله شيء. ونظراً لأن الإسلام يخاطب العقل بخلاف المسيحية التي تخاطب العواطف، أصبح الإسلام اليوم الأسرع انتشاراً في الغرب.
السبب الثاني: هو أن الدولة العميقة نفسها التي أوجدت كل الظروف المؤدية إلى ما يبدو عشعشة للإلحاد في العالم العربي ليس لها مستقبل. فهي زائلة لا محالة، ليس بقوة المظلومين المضطهدين في زنازينها ولا المشردين في بلاد المهجر، ولكن بسلوكها هي نفسها. فقد أصبحت تتصرف تصرف الخائف المضطرب وتتخذ قرارات هي أول من يتضرر منها، وبذلك هي تؤجل بحتفها. ولعل من يلاحظ سلوك الملحدين المتدثرين بالعلمانية والهستيريا التي يديرون بها برامجهم عبر المنابر الرسمية يدرك مدى الخطورة التي يشعر بها هؤلاء، وهم يحسبون كل صيحة عليهم!
إذن، الإلحاد معول من معاول الثورة المضادة، مقصود به القضاء على ثوابت الأمة حتى يسهل ضرب قواها الحية، والقوى المناهضة للتغيير تتبنى أساليب مستترة للإجهاز على حركة التنوير التي انتظمت العالم العربي خصوصاً والعالم عموماً.
(المصدر: مدونات الجزيرة)