مقالاتمقالات مختارة

علماء السوء والبحث عن البديل

علماء السوء والبحث عن البديل

بقلم حامد العطار

أصبحت ظاهرة (علماء السوء) تمثل تهديدا للدين نفسه، فمهما قيل في وجوب فك الارتباط بين الدين وبين علمائه، فإن ذلك يبقى على المستوى العملي عسيرا، فأكثر الناس يعُدُّون علماء الدين جزءًا من الدين، وإذا وجدوا اعوجاجا فيهم ، تعاملوا على أن هذا الاعوجاج في الدين نفسه، وقد حذر القرآن من ذلك فقال محذرا من أن زلة المسلم بعد ثبوته قد تكون سببا في الصد عن سبيل الله، فكيف بزلة العالِم: { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 94].

آثار الصدمة

الصدمة في علماء السوء لم تمر على المصدومين مرور الكرام، بل خلفت عندهم جراحًا غائرة، ربما وصلت أوْجَها في فتنة بعضهم عن الدين نفسه، ذلك البعض الذي لم يمكنه التفرقة بين الدين وبين علمائه.

غير أن الصدمة الأقل التي تريد هذه السطور أن تعالجها، هو فقدان ثقة هؤلاء المصدومين في العلماء عمومًا، والبحث عن بديل آخر يتعرفون من خلاله على الدين!

عمدتهم في ذلك أن علماء السوء اختلطوا بالعلماء العدول الثقات الأمناء، فصار التمييز بينهم عسيرا.

البحث عن بديل           

من هنا، بدأ هؤلاء المصدومون في البحث عن بديل للعلماء، فرأى بعض هؤلاء أن البديل هو الاحتكام إلى ما أسموه ( البداهة) يقول  أحد هؤلاء: [ البداهة في حد ذاتها شرع، وأنها إذا كفت أمرا فليست هناك حاجة للبحث فيما سواها، ليس هذا الكلام تخوفا من الدين، ولا هربا من واجب إعادة إنتاج خطاب له أكثر صدقا، وإنما إدراكا لواقع مريض، ويقينا بأن استخدام البداهة في هكذا واقع أوفق وأجدى بكثير من الدخول إلى معترك فقهي، قد يقدم العوام والبسطاء على طبق من فضة للمنافقين المتاجرين بالدين..] انتهى نقلا عن صفحة المهندس محمود لطفي بالفيس بوك.

والمراد بالبداهة عندهم: ذلك الصوت الذي يهمس في الأذن قبل أن يتكلم الشرع والعرف والهوى!

ومهما قيل في تعريفه، فهو لا يخرج عن العقل، فما استحسنه العقل فهو الحسن، وما استقبحه فهو القبيح.

أطباء السوء

نسي المنادون بهذا البديل أن السوء والدجل باسم العلم ليس فقط في علم الدين وحده، ففي الأطباء عدد كبير جهلا أو عمدا يفسدون أكثر مما يصلحون، من خلال التشخيصات الخاطئة، ووصف أدوية ضررها أكثر من نفعها، وتجربة أدوية أخرى لم تثبت نجاعتها بعدُ!

وشركات أدوية كبرى عالمية تقوم بسحب أدويتها من السوق معتذرة بأنها تسبب السرطان، وفي ساحات المحاكم قضايا كثيرة مرفوعة من مرضى وذويهم على أطباء مغامرين، يُقضى في كثير منها بإدانة الطبيب.

فهل يمكننا إزاء هذا العبث بالأرواح من قِبَل بعض الأطباء أن نعلن مقاطعة الأطباء على العموم، ونبحث عن البديل، الذي ربما يكون السعي وراء تجارب البشر؛ نظير البداهة المقترحة في البديل عن علماء الدين.

إن عدم التفكير في مقاطعة الأطباء رغم وجود هذا الضرر المخوف من بعض الأطباء المغامرين المندسين في أوساط الأطباء الأكفاء، معناه أن التداوي لدى الأطباء أمر يستحق هذه المجازفة من المرضى، فإن الضرر الناتج من التداوي ضرر متوقع أيا كانت نسبة توقعه، بينما الضرر الناتج عن ترك التداوي ضرر واقع بالفعل، والعقل يدعو إلى احتمال الضرر المتوقع إذا تعين درءا للضرر الواقع.

إن الشخص الذي يفرق بين الحقل الفقهي والحقل الطبي، يغامر بدينه فيما لم يسمح بالمغامرة ببدنه وروحه؛ يغامر بدينه باختياره البداهة مصدرا للتعرف عليه، فيما لم يسمح بتجارب البشر مصدرا للتعرف على العلل والأدوية البدنية !

سؤال العلماء ليس هو الأصل

ثم إذا أراد هؤلاء البحث حقا عن بديل آمن عن سؤال  العلماء، فالبديل موجود، بل ربما كان هو الأصل، قال به من قبلُ ابن حزم و الشوكاني  وابن القيم ، والشيخ الألباني في عصرنا.

وهو ترك التقليد، واقتحام لجة الاجتهاد الشخصي، فعلى هؤلاء أن  يخوضوا لجج التعلم، ويتعلموا العلوم الشرعية التي تؤهلهم ألا يكونوا ألعوبة في أيدي علماء السوء، قال الإمام مالك بن أنس محذرا من التقليد، وأنه يترك المقلد ألعوبة في أيدي غيره من العلماء، وبخاصة ممن يعتمدون على الرأي وحده  : “كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله . [جامع بيان العلم وفضله (2/ 988)]

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا؛ إن آمن آمن، وإن كفر كفر؛ فإنه لا أسوة في الشر»،

– وقال عبد الله بن المعتز: «لا فرق بين بهيمة تقاد وإنسان يقلد» [جامع بيان العلم وفضله (2/ 989)].

فابن حزم و الشوكاني  وابن القيم، والألباني يرون حرمة التقليد في الفروع حتى على العامة، وقالوا: يلزمهم النظر في الدليل، ويجب الاجتهاد على كل عاقل مطلقًا، في الأصول وفي الفروع!

فمن حرم نفسه رتبة التعلم حتى يصل إلى الاجتهاد، هو الذي أدخل نفسه مضيق التقليد بسؤال العلماء تاركا سعة الاجتهاد، ثم يأتي ليبين أن هذه الطريق مخوفة، وهو الذي أدخل نفسه فيها، وقديما ألف الإمام السيوطي كتابا لمن تقاعست همته عن الوصول إلى مرتبة الاجتهاد، أسماه: الرد على من أخلد إلى الأرض.

صعوبة تمييز العلماء

من التخوفات التي حملت هؤلاء بالبحث عن بديل للعلماء : قولهم : إن تمييز العلماء الثقات من علماء السوء ليس بالإمكان.

ومن عجيب أن يتصور هؤلاء أن البداهة يمكنها تمييز كل حق من كل باطل، وكل واجب من كل جائز، وكل مستحب من كل مكروه، ثم لا يمكنها أن تميز مرة واحدة أو عدة مرات بين العلماء العدول وبين علماء السوء.

ثم ما بال أولئك الإخوة لا يريدون أن يتحملوا عناء أي حل من الحلول، فالوصول إلى مرحلة الاجتهاد في نظرهم  جهد شاق دونه خرط القتاد، وتمييز العلماء أمر صعب دونه مشاق ومشاق!

إن عليهم أن يتعبوا أنفسهم قليلا ليصلوا إلى الحق ، والتعب في فرز العلماء العدول من علماء السوء  وإن كان صعبا يحتاج إلى تمحيص ، فإنه لا يساوي تعب تحقيق مسألة واحدة من المسائل الشائكة بل وغير الشائكة.

ولله در زكريا بن فارس النحوي الذي كان يستحث نفسه نحو العلم قائلا : إذا كان يؤذيك حر المصيف، ويبس الخريف، وبرد الشتاء، ويلهيك حسن زمان الربيع، فأخذك للعلم قل لي متى!

إذا كان على المجتهد أن يجتهد في كل مسألة، فعلى المقلد أن يجتهد مرة واحدة في اختيار من يثق في علمه وأمانته، فيجعله مرجعا وعمدة له في السؤال، قال تعالى : {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } [الفرقان: 59].

على المقلد أن يختار مرجعه الديني بذات المعايير التي اختار بها  طبيبا من بين عشرات الأطباء، ومدرسة لأولاده من بين عشرات المدارس، ومدرسا من بين عشرات المدرسين، وزوجة من بين آلاف النساء، ومسكنا من بين عشرات المساكن، ونوع سيارته من بين عشرات السيارات، ونوع هاتفه من بين عشرات الأنواع. إنه في كل ذلك سأل من يثق في خبرته وأمانته، إنه لا يسأل شخصا ما من الأشخاص، فعندما اختار مدرسة لأولاده، سأل الأب الشفوق الذي تهمه مصلحة أولاده، ولم يسأل أبًا ما من الآباء، ولم يكتف بالأب الشفوق، بل بحث عمن جمع إلى الشفقة الخبرة والعلم بما يصلح أولاده، فكذلك عليه أن يختار مرجعه الديني بالمعايير ذاتها ( الكفاءة والأمانة).

محاصرة علماء السوء

يلاحظ في السنة أن بداية الحلقة في رواج علماء السوء تبدأ من المستفتي، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» اللؤلؤ والمرجان (3/ 218).

فالذي يؤدي إلى رواج بضاعة الجهال، أو علماء السوء عموما، هو غياب الإقبال على العلم، حيث يضعف الإقبال على العلم، فإذا قبض الله العلماء، فلم ينهض أحد للعلم، لم يجد الناس إلا الجهال، فيسألوهم. فإذا لم تتعلم، فلا أقل من ألا تسأل هؤلاء علماء السوء.

ثم على العلماء العدول أن يبصروا الناس بالفتاوى الشاذة التي تظهر بين الحين والآخر؛ تحذيرا للناس من الضلال بها، وهم يفعلون، والحمد لله، فمجمع الفقه الإسلامي الدولي أصدر في ذلك قراره رقم 153 (2/17).

وكتب العلماء الثقات في ذلك؛ ولعل أبرز ما يذكر في هذا السياق كتاب الشيخ القرضاوي ( الفتاوى الشاذة)، والكتاب لم يكتف بذكر ضوابط الإفتاء، وأسباب انحراف الفتاوى والمفتين على المستوى النظري، بل تجاوز ذلك إلى رصد أبرز الفتاوى الشاذة والمنحرفة في العصر الحديث، في شتى مجالات الفتوى، من السياسة إلى العبادات.

(المصدر: إسلام أونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى