محاولة طي بساط «العلمانية» في الهند بشكل أشدّ من جميع عهود الماضي
إعداد نور عالم خليل الأميني
لم يكن بحسبان الزعماء الوطنيين الكبار الذين استخلصوا الهند من مخالب الاستعمار الإنجليزي، والذين اعتمدوا العلمانية أيديولوجيةً للحكم فيها، باعتبارها المبدأ الوحيد الذي من شأنه أن يحافظ على وحدة هذه البلاد وسلامتها: البلاد المترامية الأطراف التي تَتَوزَّعُها منذ القديم ديانات واتجاهات كثيرة، وداخلَ كل ديانة واتجاه آراء وآراء تتقارب أحيانا وتتباعد أخرى.. لم يكن بحسبانهم قط أن قادة الأغلبية الهندوسيّة البارزين سيُجْمِعُون هذا الإجماعَ القوى العجيب على بذل محاولات مستمرة مُكَثَّفَة لتفشيل هذه الأيديولوجيّة التي تنطبق على قامتها – الهند – انطباقَ فستان على الغانية فُصِّلَ على قامتها هي.
في الحقيقة كان هناك منذ وقت بعيد حقد أسود في قلوب كثير من قادة الهندوس نحو المسلمين الذين حُمِّلُوا ظلمًا وعدوانًا مسؤوليةَ تقسيم الهند بين دولتين عقب الاستقلال، حتى في قلوب أولئك الذين اندسّوا بين أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المتقمص بالعلمانية؛ فقد كان بعضهم يكرهون في قرارة أنفسهم أشدَّ الكراهية العلمانيةَ، التي كانوا يرونها العدو اللدود للأغلبية الهندوسيّة باعتبارها حائلةً دون الدولة الهندوسيّة التي حلموا بها في الهند المتبقية، طالما أنّ المسلمين – كما زعموا – أخذوا دولةً باسم الإسلام. وتلك العقليّة المنطوية المتخلفة المحاربة للعلمانية هي التي فجَّرت الاضطرابات الطائفية الدامية الفصول، والمُحْمَرَّة الأدوار، لدى توزع البلاد في دولتين، وزادت حريقَها اتقادًا بكل نوع من وقود الحقد والكراهية والحسد، وهي التي أثارت استياءً لدى قطاع عريض من القادة المؤمنين بجدوى العلمانيّة في صدق وإخلاص، ولا سيما القادة المسلمين الذين شعروا بصدمة عنيفة تُلاَمِس ضميرَهم من هذا الاتجاه السلبي ذي المفعول الخطير لدى ذلك النوع من الزعماء الهندوس الطائفيين، مما جعل بعضهم يرفضون الاعترافَ بإثمار العلمانية في هذه التربة التي أنجبت القادة المعجونةَ طينتُهم بالعصبية الدينية والطائفية، فانفصلوا عن حزب «المؤتمر الوطني» ذي القاعدة العريضة، الذي استطاع أن يجمع تحت رأيته أجناسًا شتى وقطاعات مختلفة من الشعب، وكَوَّنُوا كتلة أخرى تحت راية حزب آخر يُنَادِي بغير ما يُنَادِي به المؤتمر من وحدة البلاد وبقائها دولة مُوَحَّدَة بعد الاستقلال ويكرهون ويرفضون توزعَها بين دولتين.
وتلك العقلية هي التي باشرت اغتيال «المهاتما غاندي» أبي الأمة؛ حيث لم تُسِغْ من هذا الشيخ المُحَنَّك ذي المشوار الطويل في النضال الذي خاضه ضد الاستعمار في حكمة ولباقة، تسامُحَه مع جميع طوائف البلاد بما فيها المسلمون؛ واحتجاجَه ضد الاشتباك الدامي الذي حصد آنذاك في «دهلي» خصوصًا وفي شتى أرجاء الهند عمومًا أرواحَ المسلمين وانتهك اعراضَهم؛ وإيمانَه بأن وحدة الهند وسلامتها مرهونتان بالعدل بين جميع طوائف الشعب دونما تمييز ديني أو عرقيّ.
وكأَنَّ اغتيال أبي الأمة كان أول ثُلْمَةٍ في صرح العلمانية؛ حيث عكس الخطوطَ العريضةَ للنوايا الخبيثة لدى الهندوس المتعصبين حتى المثقفين منهم تجاه أبناء البلاد من غير ديانتهم، إذ عبروا تعبيرًا دقيقًا مُؤَكِّدًا من خلال إطلاق رصاصات في صدر «غاندي» أنهم لن يحتملوا أيَّ تعاطف مع غيرهم – المسلمين – ولو كان صاحبه أكبرَ شخصية دينية ربما لم يشهد مجتمعُهم مثيلًا لها منذ زمن بعيد، وكأَنَّهم صارحوا بأنهم إذا لم يحتملوا روحَ التسامح والتعاطف من رجل كبير المنة عليهم قبل أن يكون كبير المنة على الوطن، فأَنَّىٰ لهم أن يحتملوهما من أحد من بعده.
والتسامحُ مع هذه العقلية الطائفية الحاقدة من قبل الحكومة والشعب والقادة «العلمانيين» من أعضاء المؤتمر وغيره على السواء، لتقول ما تشاء وتفعل ما تشاء وتُرَوِّج من الرؤى والأُطْرُوحات المسمومة ما تشاء، دون أن تُقَابَلَ بغضبة ثائرة أو إجراءات رادعة، كان ثُلْمَةً أخرى في سور العلمانيّة الحصين الشامخ.
وظلت «الثُلَمُ» تتوالى وتتعدد وتتوسع حتى عاد سورها – العلمانية – متداعيًا اليوم، وغدا لا يطمئن إليه اللاجئ إليه فرارًا من حرّ الطائفيّة وسموم ويلاتها اللافحة.
لا يجوز أن يقال: إن التسامح مع هذه العقلية كان مُبَيِّتًا أو مُتَعَمِّدًا من قبل الزعماء، المتقمصين بـ«العلماءنية» ذوي السلطة والصلاحيّات المُطْلَقَة لإدارة دفة البلاد، المتمتعين بالشعبية التي كان من شأنها أن تتيح لهم فرصةَ السير بالبلاد إلى الاتجاه المرضيّ لديهم؛ فلعلهم لم تكن لديهم قناعة كافية بالعلمانية التي صرخوا بها.. لا يجوز أن يقال ذلك مع وجود مجموعة طيبة من «العلمانيين الأصلاء» في صف الرعيل الأول من القادة الذين خاضوا حربَ التحرير واستعذبوا كلَّ نوع من المشاقّ، في سبيل تخليص البلاد من أيدي الاستعمار.
ولكن هناك آراء تقول – في تحليلها النهائي –: إن بعض القادة في حزب «المؤتمر» العلماني بدوره كانت لديهم ازدواجية مُعَقَّدَةً في التعامل والممارسة، كانت نابعة من روح الاحتفاظ بالمصالح الحزبية: أرصدة الأصوات – مثلا – في شتى قطاعات الشعب بما فيها الأغلبية الهندوسية بمختلف طوائفها وصراعاتها الطبقية، والأقلية الإسلامية المُسْتَهْدفة من الأغلبية.. فكانوا – بعض القادة العلمانيين المشار إليهم – علمانيين وغير علمانين في وقت واحد: علمانيين لإرضاء الأقلية المُغَفَّلَة، وغير علمانيين للإبقاء على وُدّ الأغلبية، التي كان لديها الشعورُ الزائدُ – ولا يزال قائمًا بشكل أقوى من ذي قبل – بكونها مغبونةً بالقياس إلى الأقلية التي أخذت دولةً مستقلةً، ولا تزال جاثمةً على صدر الشطر المتبقي من الدولة المسماة بالهند!.. وتستدل هذه الآراء في وصف هؤلاء القادة البعض بكونهم «علمانيين وغير علمانيين» في وقت واحد بكثير من ممارسات التسويف والمماطلة – التي تبدو أنها كانت مُتَعَمَّدة – التي تعاملوا بها في معالجة كثير من القضايا الوطنيّة الحساسة، التي لئن بُذِلَتْ محاولةٌ مخلصةٌ جادّة لحلها في وقتها، لانتهت بخير ولم تُشَكِّل اليوم خطرًا على أمن البلاد واستقرارها.. وتطرح – الآراء – في هذا الشأن قضيةَ المسجد البابري المهدوم – مثلا – والمزمع من قبل القادة الهندوس المتطرفين إقامة معبد هندوسي كبير مكانه؛ حيث تقول: إن الأصنام نُصِبَتْ في داخل المسجد على عهد الرعيل الأول من الزعماء الوطنيين، وكانت بأيديهم السلطةُ والصلاحيّة، والجنود والبنود، وقوة الحكم، وقوة القضاء؛ ولكنهم تعاملوا مع القضية بشكل أَقلُّ ما يمكن أن يُوصَف به هو المماطلة. رغم احتجاج كثير من العلمانيين الصادقين ضد هذه التصرفات السلبية الغاشمة مع المسجد الأثري، وكان في طليعة هؤلاء العلمانيين المحتجين عدد من تلاميذ «المهاتما غاندي» الذين قام بعضهم بالإضراب عن الطعام لحد الموت – على طريقة غاندي للاحتجاج الصارخ ضد عدوان –ولكن القادة أقنعوهم بالإقلاع عن الإضراب بتأكيدهم الكاذب لهم بأنهم سيُطَهِّرُون المسجدَ من الأصنام وسيحلّون القضية بمقتضى العدل والإنصاف؛ ولكنهم ماتوا وتركوها لتتفاعل وتتطور بهذا الشكل السلبي الهائل الذي أدى بالمتطرفين الهندوس إلى هدم المسجد، على سمع وبصر القادة العلمانيين منهم وغير العلمانيين على السواء. وقراءةُ مِلَفّ القضية في تأَنٍّ وإمعان وبنحو موضوعي تُؤَكِّد بمالا يدع مجالًا للشك أن التسويف في حلّها الصحيح إما إنه كان مقصودًا أو كان نابعًا من عجزهم أو قل عن عدم جراءتهم على القيام بخطوة تُرْضِي الأقليةَ وتُسْخِط الأغلبيةَ، وبالتالي قد تَحْرِمُهم لوقت قصير أو طويل أصواتَ الطبقة العليا منها، التي تتمتع بالتأثير في آراء دهمائها. وعلى ذلك فهم أرادوا أن يتركوا القضيةَ لتتفاقم ويستطير شرُّها، وينجوا بأنفسهم من التعقيد أو «صداع الرأس» أو «التعرض لخلايا الزنابير» كما يقول الأرديّون.
وبذلك فهم أشاروا على أخلافهم من حكام البلاد أن يسيروا سيرتَهم في التعامل مع القضية بالمماطلة في جانب، واستغلالها بشكل يخدم مصالحَ أحزابِ كُلٍّ منهم في جانب آخر، مهما أَدَّىٰ ذلك إلى قتل الأبرياء، وإبادة المُمْتَلَكَات، واغتصاب السيدات، وتعذيب الأقلية وسحقها بصفة خاصة، تلك الأقلية التي حَوَّلَها العلمانيون والطائفيون معًا كرةَ قَدَمٍ يتقاذفونها في غير رحمة، ويتجاذبونها إلى «مرمى» كل منهم لإحراز الانتصار!.
طبيعةُ استخدام القضايا الوطنيّة كورق ضغط على المصالح الحزبية – إن لم نقل: الطائفية أو الدينية – لدى القادة العلمانيين يستشهد بها المُحَلِّلون على الازدواجية المشار إليها، التي تَعَامَلَ بها العلمانيون مع المواقف الحساسة، والتي أتاحت للطائفية والعصبية الدينية والأحقاد الطبقية في البلاد لتتصاعد وتغشى جميعَ ربوعها بظلالها السوداء المخيفة.
الازدواجيّةُ بين العلمانية وغير العلمانية التي ظلّ يتبناها القادة والزعماء العلمانيون كانت الداءَ الدويَّ الذي أصاب جميع أجهزة الحكم والإدارة ومناحى النشاط في البلاد بداء العصبية الطائفية، وهي التي خلقت في الواقع جميعَ المشكلات المُعَقَّدَة التي تعانيها البلاد والتي توزع – في استمرار – الشعبَ كله على أساس من الطائفية العنيفة في مُعَسْكَرَيْن مُتَحَارِبَيْن بشكل دائم، مما يُؤَدِّي إلى زرع عقبات كَاْدَاءَ في سبيل نهضة البلاد في المجالات الحيوية، ويجعل الأقلية بصفة خاصة تعيش وضعًا مخوفًا، ولا تتفرغ لتتقدم اقتصاديًّا وثقافيًّا؛ فتساهم في الرقي بالبلاد بكل مُؤَهِّلَاتها ومواهبها المذخورة التي يضيع مُعْظَمُها في الدفاع عن النفس والعرض والمال.
وأضحت الطائفية اليوم قوة ضاربة في البلاد، مرهوبةَ الجانب، مسموعةَ الكلمة، لحد أن شقيق «ناثو راما كودسي» قاتل «المهاتما غاندي» المدعو بـ«كوبال كودسي» لا يكاد يفتر ويَنْدَم على مقالته التي يُكَرِّرها من مدينة لأخرى بأنه هو وشقيقــــــــه كانا مَدْفُوعَيْن من داخلهما إلى قتل «غاندي» لحد أنهما لو علما بطريقة أو بأخرى أنه سيموت عفوًا بعد ساعات، لحَاوَلَا أن يَسْعَدَا قبلها بتفريغ رصاصات في صدره ليُثْلِجا بها صدرَهما، ويُقِرَّا بها أعينهما؛ وأنه لا يمكن أن يكونُ «أبا الأمة الهندية» طالما كان متعاطفًا – على زعمه – مع المسلمين، وإذًا فكان «أبا الأمة الباكستانية»؛ وأن جميع الأنهار الجارية في الهند قد نجست من أجل إلقاء رماد جثته، ولذلك فإنه لا يزال محتفظًا برماد جثة شقيقه – حسب وصيته بذلك – لكي يلقيه في نهر السند الجاري اليوم في داخل باكستان، بعد ما يتم ضمها – طبقًا لوصية شقيقه أيضًا – إلى الهند؛ لأنه وحده الذي بَقِيَ مُطَهِّرًا إذ لم يُقْذَفْ فيه رمادُ جثة «غاندي»!..
ولم يكن «كوبال كودسي» لينطق بمثل هذا الهراء ضد «أبي الأمة» على عهد القادة الأولين، الذين لم ترسخ قدم الطائفية فيه هذا الرسوخَ الذي لا يمكن اقتلاعه بمحاولات عدة أجيال حاضرة ولاحقة، حتى أضحت لا تقدر حكومة علمانية في الهند اليوم على وضع حصيات في أفواه أمثال هؤلاء الراكبين على رؤوسهم؛ فقد بلغوا من جراءتهم أنهم يحتفلون سنويًّا بقاتل «غاندي»، ويقيمون لذلك مناسبات في شتى مدن الهند المركزية، يتحدثون فيها عن فضائل القاتل، ومثالب المقتول، وأخطائه الجسيمة في حق الوطن والأمة والتأريخ والهندوس، حتى أقاموا له معبدًا مُخَصَّصًا لعبادته!!.
وكان هناك زعيم هندوسي مدعو بـ«بالا تهاكري» رئيس المنظمة الهندوسية الطائفية المعروفة بـ«شيف سينا» يتحدى الدستورَ، ويضرب بأوامر الحكومة عُرْضَ الحائط، ويرفض الخضوعَ لقرارات المحاكم، ويُطْلِق دائمًا تصريحات نارية وبيانات استفزازية، ويُصْدِر من حين لحين «أوامر حاسمة» كأنه رئيس دولة داخل دولة الهند، ويتحدث دائمًا إلى الشعب المسلم عَبْرَ الصحف واللقاءات من مدينة «بومبائي» التي كأنه اتخذها «قاعدة» له ولمنظمته، بخطاب مثير للحفيظة، جارح للمشاعر لآخر الحدود، قد لا يَتَجَرَّأُ عليه – ولم يتجرأ فعلًا – رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، ولو تَفَوَّه بعشر معشاره أي قائد مسلم لقامت قيامة الحكومة – العلمانية طبعًا – و ورَّطَته في محاكمات مُعَقَّدَة؛ ولكنها لم تقدر أن تصنع ضدَّ هذا الرجل الهائج المائج بالشعور الغريب بالفوقية أَيَّ إجراء جادّ – وظلّ للحظة موته يحاول إشعالَ الهند كلها بحريق الطائفية المتطرفة –يعكس شعورَها المطلوب بالمسؤولية نحو جميع طوائف البلاد.
وهناك حزب هندوسي سياسي مظهرًا وطائفي مئة في المئــة، يعمل زعماؤه دائما على توزيع الشعب على أساس من الطائفية بين مُعَسْكَرَيْن، وجعلوا خيارهم الأول هو زرع البلاد كلها بالحقد والعصبية، والكراهية والنفاق والشتات، ويُرَكِّزُون اهتماماتهم على التدرج بالهند إلى دولة هندوسية ضيّقة الصدر والأفق، تعيش فيها الأقلية مُسْتَعْبَدةً ذليلة إذا لم تنصهر في بوتقة ديانتهم وتقاليدهم، وتَعَوَّدُوا إطلاقَ سهام مُسَدَّدَة من التهم، والشتائم والملام، والعتاب والانتقاد، إلى صدر الأقلية التي تصبر عليها على غَصَص ومَضَض. وبالأمس وقبل أن يتم هدم المسجد البابري ظل زعماء هذا الحزب، يقومون بمسيرات مُكَثَّفَة وطويلة وعريضة، وعبر شهور عديدة، في أرجاء البلاد، ويُكَهْرِبُونَها بالسموم الطائفية الفتاكة، ويثيرون الهندوس، ويزرعون في قلوبهم أشنعَ نوع من الكراهية ضد المسلمين، ويُؤَلِّبون الأولين على الآخرين، ويأخذون منهم العهدَ بالتجمع في «أجودهيا» لهدم المسجد وإنشاء المعبد على أنقاضه، ويُنَفِّذُون في هذه السبيل برامج مُكَثَّفَة لا أول لها ولا آخر، ويصنعون كل ذلك عن إعلان مُسَبَّق، ويَتَحَدَّوْن بذلك الحكومةَ، ويطلبون إليها المبارزة، ويختبرون مدى صبرها واحتمالها؛ ولكن «الحكومة العلمانية» التي كانت قائمةً آنذاك لم تنبس ببنت شفة، ولم تتجرأ أن تقابلهم بإجراء أو تأديب، حتى تَجَمَّع الهندوس فعلًا في «أجودهيا» في عدد مئات الآلاف، وأشرف الزعماء الهندوس الطائفيون على عملية تسوية هؤلاء المتجمعين للمسجد بالأرض، في ظرف ساعات، وعلى إقامتهم مكان المسجد معبدًا مُوَقَّتًا في ظرف 12-14 ساعة، والحكومة الإقليمية في «أترابراديش» القائمة آنذاك بقيادة هذا الحزب الهندوسي و«الحكومة العلمانية» المركزيّة بقيادة حزب «المؤتمر» العلماني ظَلَّتا مَكْتُوفَتَي الأيدي، ريثما تم تنفيذ الجريمة الكبرى في تأريخ الهند «على أحسن ما يرام» وقد ثبت من خلال التحقيق الذي أجرته اللجنة المعنيّة الحكوميّة في قضية هدم البابري أن «كليان سينغ» الذي كان كبير وزراء ولاية (يوبي) بقيادة حزب (ب ج ب) الهندوسي حين تمّ هدمُ المسجد، ثبت أنه منع قوات الشرطة عن إطلاق الرصاص على الهندوس الذين باشروا عمليةَ الهدم.. وما دام الرجل منتميًا إلى الحزب الطائفي الذي قاد عملية الهدم لا يُسْتَغْرَب منه صنيعُه هذا، المتصادم مع علمانية البلاد؛ ولكن المُسْتَغْرَب في معنى الكلمة هو صنيع رئيس الوزراء العلماني «نارا سيمها راؤ» (1921-2004م) الذي كان القائد الأول للحزب العلماني العريق: «المؤتمر» الذي لم يتخذ أية خطوة جادة للحفاظ على مبنى المسجد، رغم أنه أحيط من قبل الاِستخبارات والمُحَلِّلين السياسين ومحاكم البلاد بالخطر الأكيد، وظل قابعًا في «دهلي»، واجمًا خلال الهدم، لا يتحرّك لمنع الهادمين عن جريمتهم، وبيده كل الصلاحيات ومقاليد السلطة العليا. وبعدما تم تنفيذُ الجريمة أعلن بحل حكومات الحزب الهندوسي في الولايات الأربع بما فيها ولاية (يوبي) التي فيها «أجودهيا» التي فيها كان المسجد البابري، مع إعلانه على رؤوس الأشهاد بأنه سيعيد بناء المسجد في مكانه؛ ولكنه طوال حياته التي عاشها بعد الحادث لم يصنع ما يدل على أن رئيس الوزراء في أكبر دولة جمهورية علمانية في العالم قد وفى بوعده، الذي أطلقه عبر وسائل الإعلام، التي نقلته إلى سكان الربع المسكون كلهم؛ بل إن الذي صنعه هو إنشاء وقف لإقامة المعبد مكان المسجد المهدوم، محاولةً منه لإحراز قصب السبق في مضمار إنشاء المعبد على الزعماء الهندوس الطائفيين؛ حتى يكسب قلوب الهندوس بالمجموع، ولا يُحْرَمُ حزبُه أصواتَهُم في الانتخابات القادمة، تأكدًا منهم أنه هو الآخر أكثر «هندوسية» من الزعماء الهندوس المعروفين بعدائهم التقليدي مع المسلمين.
إلى هذا الحدَّ وَصَلَ الطائفيون من الكراهية والمقت لكل ما هو ينتمي إلى المسلمين. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن الطائفيين استطاعوا أن يقطعوا أشواطًا بعيدة نحو «إزعاج» العلمانية أو «تعجيزها» بل في تفشيلها في أن تلعب دورَها الصحيح وتُعْطِيَ مفعولَها المطلوب في إيجاد التنسيق والوئام والتضامن بين شتى طوائف البلاد.
وقد علمتَ مما سبق أن الطائفيين الفاشين لا يَضُرُّون العلمانية بمثل ما يَضرُّها العلمانيون المتعاملون بالازدواجية، حيث إنهم – الطائفيين – لم يتمكنوا من تفعيل دور الطائفية إلا عندما وجدوا العلمانيين أنهم بدورهم يتلاعبون بالعلمانية ويُهَمِّشون دورَها في المواقف التي تقتضي فيها مصالحُهم التهميشَ.
وبما أن العلمانية هي القادرة على إبقاء البلاد متحدة متماسكة قوية، متمتعة باستقرارها وسلامتها؛ لأنها هي التي تتيح لجميع الطوائف ذات الديانات الكثيرة في البلاد، أن تعيش فيها متمتعةً بحقوقها المدنية والدينية والاجتماعية، مُمَارِسَةً لكل نوع من الحرية التي أقرّها دستورُ البلاد في العمل بأحكام دينها ومقتضايات عقيدتها؛ وبما أن الطائفيين الهندوس لا يُعْجِبُهم كونُ الدولة علمانيةً يتمتع فيها جميع المواطنين بشتى دياناتهم بحقوقهم وحرياتهم؛ لأنهم يرونها هندوسيةً برهميّةً لا تسع إلا الطبقةَ العليا من الهندوس، ولا مكان فيها للطبقة الهندوسيّة السفلى، فضلًا عن المسلمين؛ يُرَكِّزُون على استئصال العلمانية، ويحاربونها بكل سلاح وعتاد، ولا يصنعون ذلك في سرية، وإنما يصارحون به في كل مكان، ولدى كل مناسبة، ويُصَرِّحُون بأن العلمانية هي عدوّنا الحنق.
والذي يردده الطائفيون في هذا الخصوص هو أن المسلمين ليسوا صادقي الولاء للهند، وأنهم لا يندمجون في «التيار الوطني».
على حين أن التأريخ يشهد أن المسلمين ظلّوا ولا يزالون أكثر منهم ولاء للوطن، وأنهم على العكس من المسلمين وقفوا من الوطن في شتى المناسبات مواقف تُؤَكِّد على مدى خيانتهم؛ فمن حين لآخر تردد الأنباءُ ببيعهم للأسرار العسكرية والاستراتيجية للوطن من الأجانب، بثمن بخس دراهم معدودة، كماتَرِدُ الأنباء بفضائحهم المالية التي يرتكبونها في الخزينة الوطنية، بالإضافة إلى الفساد المالي والرشاوي التي يتعاطونها كأنها حقهم الشرعي الطبيعي. ولا حاجة إلى الإشارة إلى أن قتلة أي من «المهاتما غاندي» والسيدة «إنديرا غاندي» والسيد «راجيف غاندي» لم يكن أحدًا من المسلمين ولم يساهم في تنفيذ هذه الجرائم أحد منهم من قريب أو بعيد؛ بل إن هناك مواقف مُشَرِّفة وَقَفَها المسلمون في خدمة الوطن في جبهات القتال، حتى مع باكستان، وفي ميادين الألعاب والمباراة، حتى مع الدول العربية.
ولكن الطائفيين يَعْنُون بالتيار الوطني «التيار الهندوسي» ويودون أن ينسلخ المسلمون من دينهم وعقيدتهم، وعاداتهم وتقاليدهم، وثقافتهم وحضارتهم، ويندمجوا كليًّا في الهندوسية بجميع طقوسها ووثنيتها.
ومنذ أن تولّى الحكومة المركزية الحزب الهندوسي المعروف بـ«ب ج ب» اشتدت الطائفية في البلاد بنحو أخطر، وتجاوز كلَّ حد، حتى صار الزعماء يوجهون إلى أبناء الأقلية تهمًا وشتائم علنًا وجهارًا، ويغتال المتطرفون من شاؤوا في أي مكان بتهمة أنه ذبح البقرة، أو أساء إليها؛ لأنها مقدسة لديهم باعتبارها إِلَـــٰهَةً في عقيدتهم.
وجملةُ القول أن العلمانية تخوض اليوم من أجل البقاء صراعًا قويًّا مع الطائفية، وكأنها تستجدي الطائفيين والعلمانيين معًا «حق تقرير المصير». بعدما أدركت أن الطائفية قد اسْتَشْرَتْ إلى أجهزة الإدارة والحكم في البلاد؛ وأن رقعتها تتوسع لحد أن تكاد تُسَيْطِر على البلاد كلها بنحو شامل، وسلوكُ العلمانيين في المستقبل، هو الذي سيُؤَكِّد أنها – العلمانية – ستبقي تؤدي دورها، أو تعود فاقدة لمفعولها كليًّا.
(المصدر: مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبوند)