بقلم د. علاء شعبان الزعفراني
أنزل الله شريعته الخالدة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وجعلها عامة للناس جميعًا، وجعلها مبنية على تحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم في الدنيا والآخرة، فالشارع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما مفسدته خالصة أو راجحة. وهذا الأصل شامل لجميع الشريعة لا يشذ عنه شيء من أحكامها.
فما أهملت هذه الشريعة مصلحة قط، إذ كل خير دلنا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكل شر حذرنا منه، ونظرًا لكثرة استعمال البعض لهذا المصطلح مع عدم الإحاطة الكافية بمعناه وضوابطه كانت هذه السطور.
– أوجه التلازم بين المصلحة والشريعة:
وبيان ذلك في أمور أربعة بعضها مبني على بعض [1].
الأمر الأول: أن هذه الشريعة مبنية على تحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم في الدنيا والآخرة، فالشارع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما مفسدته خالصة أو راجحة. وهذا الأصل شامل لجميع الشريعة لا يشذ عنه شيء من أحكامها.
الأمر الثاني: أن هذه الشريعة لم تهمل مصلحة قط، فما من خير إلا وقد حثنا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وما من شر إلا وحذرنا منه.
الأمر الثالث: إذا عُلم ذلك فلا يمكن أن يقع تعارض بين الشرع والمصلحة، إذ لا يتصور أن ينهى الشارع عما مصلحته راجحة أو خالصة، ولا أن يأمر بما مفسدته راجحة أو خالصة.
الأمر الرابع: إذا عُلم ذلك فمن ادعى وجود مصلحة لم يرد بها الشرع فأحد الأمرين لازم له:
إما أن الشرع دل على هذه المصلحة من حيث لا يعلم هذا المدعي.
وإما أن ما اعتقده مصلحة ليس بمصلحة، فإن بعض ما يراه الناس من الأعمال مقربًا إلى الله ولم يشرعه الله فإنه لابد أن يكون ضرره أعظم من نفعه، وإلا فلو كان نفعه أعظم لم يهمله الشارع.
– أقسام مطلق المصلحة [2].
تنقسم المصلحة [3] بالإضافة إلى شهادة الشرع إلى ثلاثة أقسام:
مصلحة معتبرة شرعًا، ومصلحة ملغاة شرعًا، ومصلحة مسكوت عنها.
أ – أما المصلحة المعتبرة شرعًا: فهي المصلحة الشرعية التي جاءت الأدلة الشرعية بطلبها من الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس، وذلك كالصلاة.
ب – وأما المصلحة الملغاة شرعًا: فهي المصلحة التي يراها العبد – بنظره القاصر – مصلحة ولكن الشرع ألغاها وأهدرها ولم يلتفت إليها، بل جاءت الأدلة الشرعية بمنعها والنهي عنها من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس، وذلك كالمصلحة الموجودة في الخمر. فهذا النوع من المصالح في نظر الشارع يعتبر مفسدة، وتسميته مصلحة باعتبار الجانب المرجوح أو باعتبار نظر العبد القاصر، ثم هي موصوفة بكونها ملغاة من جهة الشرع.
جـ – وأما المصلحة المسكوت عنها: فهي التي لم يرد في اعتبارها أو إبطالها دليلٌ خاص من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس، لكنها لم تخل عن دليل عام كلي يدل عليها، فهي إذن لا تستند إلى دليل خاص معين، بل تستند إلى مقاصد الشريعة وعموماتها، وهذه تسمى بالمصلحة المرسلة.
وإنما قيل لها مرسلة لإرسالها؛ أي: إطلاقها عن دليل خاص يقيد ذلك الوصف بالاعتبار أو بالإهدار.
ولهذا قبل أن نحكم على عمل بأنه حلال لأن فيه مصلحة، علينا أن نبحث عن نوع المصلحة؛ فإذا كانت ودائع البنوك وشهادات الاستثمار – مثلاً – تدخل تحت عقد القرض [4] فكل زيادة على رأس المال هي من الربا النسيئة المحرم، فليس لأحد أن يقول بالحل لأن فيها مصلحة كما يدعي.
ويكفي هنا أن نقول من غير كبير مناقشة، أن هذه مصلحة ملغاة أهدرها الشارع، فليست معتبرة ولا مرسلة.
المسألة الأولى: تعريف المصلحة المرسلة:
المصلحة في اللسان العربي جاءت من الصلاح [5]؛ وهو دال على استقامة الشيء وكماله في ذاته، وانتفاء الفساد عنه [6]، وبهذا تستجلب المنافع، وتُستدفع المضار، قال الطاهر ابن عاشور: “أما المصلحة فهي كاسمها، شيء فيه صلاحٌ قوي، ولذلك اشتُقت لها صيغة المَفْعل، الدالة على اسم المكان؛ الذي يكثر فيه منه اشتقاقه” [7].
وأشير هنا إلى أن المنفعة أو المصلحة اتخذت في عصرنا مذهبًا فلسفيًا في الأخلاق والسياسة [8]، شيده ورسم أصوله في العصر الحديث الفيلسوف الإنجليزي “جيرمي بنتام”، فمنذ أن وضع بنتام كتابه “أصول الشرائع” تبلور هذا المذهب في طوره الحديث [9].
وجعل “بتنام” المنفعة هي المعيار للحكم على الأشياء، وبقدر ما ينتجه الفعل من منفعة ولذة يكون خيرًا، وبقدر ضرره وإيلامه يكون شرًا، بغض النظر عما سوى ذلك من اعتبارات شرعية سماوية، وأخلاقية قويمة.
وقد طغت فلسفة “المنفعة” على الأمم الغربية المعاصرة، واصطبغت نُظُمُها وأخلاقها بهذه الصبغة، والمنفعة التي يستحضرها الغرب في عامة شؤونه وإن كانت توفر شيئًا من لذة، وسدادًا من عيش، إلا أنه تكتنفها مفسدتان:
أولاهما:
أنها منفعة مادية، يغلب عليها البعد الاقتصادي، فهي لا تأبه بالمنافع التي تزكي العقول، وتصلح الأرواح، إلا بقدر ما تُفضي إليه من لذائذ حسية، ورفاهية جسدية حاضرة، أما ما وراء ذلك مما ينفع في الدار الآخرة فلا قيمة له لديهم، وهذا إرث ورثوه عن سلفهم من الأمم اليونانية والرومانية البائدة [10].
وهذا بالطبع يخالف ما جاءت به الشريعة من رعاية جانبي الإنسان الروحي والمادي، على أن تكون المنفعة المادية وسيلة، والغاية من كل ذلك تعبيده لله رب العالمين، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [11].
ثانيتهما:
العنصرية الضيقة، فالمنفعة التي يتحدثون عنها، هي ما كان نافعًا لهم، ولبني جنسهم خاصة، أما ما يتعدى إلى الشعوب الأخرى فلا [12].
فهي إذن منفعة مؤسسة على الظلم والجور، بخلاف شريعة الإسلام التي جعلت الحكم بالقسط، والعدالة بين الناس من أعلى مقاصد الرسالة،﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [13].
وأقرب تعريف – عندي – يوضح بمعنى المصلحة المرسلة اصطلاحًا:
ما قاله الإمام الغزالي رحمه الله “المحافظة على مقصود الشريعة”، ثم بين مراده بمقصود الشارع بأن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم [14]. وتسمى بالاستصلاح وبالمناسب المرسل.
المسألة الثانية: أقسام المصلحة المرسلة:
أولاً: تنقسم المصلحة المرسلة باعتبار الأصل الذي تعود عليه بالحفظ إلى خمسة أقسام [15].
1 – مصلحة تعود إلى حفظ الدين.
2- مصلحة تعود إلى حفظ النفس.
3- مصلحة تعود إلى حفظ العقل.
4- مصلحة تعود إلى حفظ النسب.
5- مصلحة تعود إلى حفظ المال.
وهذه الأمور الخمسة تسمى:
بالضروريات الخمس، وبمقاصد الشريعة، وهي الأمور التي عُرف من الشارع الالتفات إليها في جميع أحكامه، ويستحيل أن يفوتها في شيء من أحكامه، بل جميع التكاليف الشرعية تدور حولها بالحفظ والصيانة.
والدليل على ذلك: هو الاستقراء التام الحاصل بتتبع نصوص الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات [16].
ثانيًا: تنقسم المصلحة المرسلة أيضًا إلى ثلاثة أقسام، وذلك باعتبار قوته [17].
القسم الأول:
المصلحة الضرورية، وتسمى درء المفاسد، وهي: ما كانت المصلحة فيها في محل الضرورة بحيث يترتب على تفويت هذه المصلحة تفويت شيء من الضروريات أو كلها، وهذه أعلى المصالح، وذلك كتحريم القتل، ووجوب القصاص.
القسم الثاني:
المصلحة الحاجية، وتسمى جلب المصالح، وهي: ما كانت المصلحة فيها في محل الحاجة لا الضرورة فيحصل بتحقيق هذه المصلحة التسهيل وتحصيل المنافع، ولا يترتب على فواتها فواتُ شيء من الضروريات، وذلك كالإجارة والمساقاة.
القسم الثالث:
المصلحة التحسينية، وتسمى التتميمات، وهي: ما ليس ضروريًا ولا حاجيًا، ولكنها من باب الجري على مكارم الأخلاق واتباع أحسن المناهج، وذلك كتحريم النجاسات.
المسألة الثالثة:
حكم الاحتجاج بالمصلحة المرسلة:
جلب المصالح ودرء المفاسد أصل متفق عليه بين العلماء، لكنهم اختلفوا في المصلحة المرسلة. فمن رأى أنها من باب جلب المصالح ودرء المفاسد اعتبرها دليلاً واحتج بها، ومن رأى أنها ليست من هذا الباب، بل رأى أن المصلحة المرسلة من باب وضع الشرع بالرأي وإثبات الأحكام بالعقل والهوى قال: إنها ليست من الأدلة الشرعية وأنه لا يجوز الاحتجاج بها ولا الالتفات إليها [18].
قال الشيخ الشنقيطي:
“فالحاصل أن الصحابة رضى الله عنهم كانوا يتعلقون بالمصالح المرسلة التي لم يدل دليل على إلغائها، ولم تعارضها مفسدة راجحة أو مساوية”.
وأن جميع المذاهب يتعلق أهلها بالمصالح المرسلة، وإن زعموا التباعد منها.
ومن تتبع وقائع الصحابة وفروع المذاهب علم صحة ذلك.
ولكن التحقيق أن العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ وغاية الحذر حتى يتحقق صحة المصلحة وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها، أو مفسدة أرجح منها أو مساوية لها، وعدم تأديتها إلى مفسدة في ثاني حال” [19].
وبذلك يتبين أن الخلاف في الاحتجاج بالمصلحة المرسلة خلاف لفظي؛ لأن الجميع متفق على أن تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها أصل شرعي ثابت إلا أن الخلاف وقع في تسمية العمل بهذا الأصل والالتفات إلى تحقيقه – فيما لم يرد باعتباره أو إلغائه دليل خاص – مصلحة مرسلة [20].
فبعضهم يسمي ذلك مصلحة مرسلة، وبعضهم يسمي ذلك قياسًا[21]، أو عمومًا، أو اجتهادًا، أو عملاً بمقاصد الشريعة.
ومما يقرر كون الخلاف لفظيًا أن المثبتين للمصلحة المرسلة إنما يقولون بها وفق ضوابط محددة، وهذه هي المسألة الرابعة.
المسألة الرابعة: ضوابط الأخذ بالمصلحة المرسلة عند القائلين بها:
الأول: ألا تكون المصلحة مصادمة لنص أو إجماع [22].
الثاني: أن تعود على مقاصد الشريعة بالحفظ والصيانة [23].
الثالث: ألا تكون المصلحة في الأحكام التي لا تتغير، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود، والمقدرات الشرعية، ويدخل في ذلك الأحكام المنصوص عليها، والمجمع عليها، وما لا يجوز فيه الاجتهاد [24].
الرابع: ألا تعارضها مصلحة أرجح منها أو مساوية لها، وألا يستلزم من العمل بها مفسدة أرجح منها أو مساوية لها [25].
قال ابن القيم: “فالأعمال إما أن تشتمل على مصلحة خالصة أو راجحة، وإما أن تشتمل على مفسدة خالصة أو راجحة، وإما أن تستوي مصلحتها ومفسدتها”.
فهذه أقسام خمسة: منها أربعة تأتي بها الشرائع.
فتأتي بما مصلحته خالصة أو راجحة آمرة به أو مقتضية له.
وما مفسدته خالصة أو راجحة فحكمها فيه النهي عنه وطلب إعدامه.
فتأتي بتحصيل المصلحة الخالصة والراجحة أو تكميلها بحسب الإمكان، وتعطيل المفسدة الخالصة أو الراجحة أو تقليلها بحسب الإمكان.
فمدار الشرائع والديانات على هذه الأقسام الأربعة” [26].
المسألة الخامسة: أدلة اعتبار المصلحة المرسلة:
من الأدلة على اعتبار المصلحة المرسلة [27].
أ – عمل الصحابة رضى الله عنهم بها في وقائع كثيرة مشتهرة [28].
ب – أن العمل بالمصالح المرسلة مما لا يتم الواجب إلا به فيكون واجبًا.
وذلك أن المحافظة على مقاصد الشريعة الخمسة ثبت بالاستقراء اعتبارها ووجوبها، وهذه المحافظة إنما تتم بالأخذ بالمصلحة المرسلة وبناء الأحكام عليها.
المسألة السادسة: سد الذرائع وإبطال الحيل:
مما يدخل تحت الضابط الرابع من ضوابط الأخذ بالمصلحة المرسلة ألا يؤدي العمل بها إلى مفسدة أرجح منها أو مساوية لها في المآل وثاني الحال.
والمقصود بهذا القيد التنبيه على أصلين من أصول الشريعة وقواعدها الكلية، هذان الأصلان هما سد الذرائع وإبطال الحيل:
لقد جاءت هذه الشريعة بسد الذرائع وهو تحريم ما يتذرع ويتوصل بواسطته إلى الحرام، كما جاءت بإبطال الحيل التي تفتح باب الحرام.
قال ابن القيم: “وإذا تدبرت الشريعة وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات، وذلك عكس باب الحيل الموصلة إليها.
فالحيل وسائل وأبواب إلى المحرمات، وسد الذرائع عكس ذلك، فبين البابين أعظم التناقض.
والشارع حرم الذرائع وإن لم يقصد بها المحرم لإفضائها إليه، فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه”[29]؛ يعني: بذلك الحيل.
مثال سد الذرائع: نهي الله عن سب آلهة المشركين مع كون ذلك أمرًا واجبًا من مقتضيات الإيمان بألوهيته سبحانه، وذلك لكون هذا السب ذريعة إلى أن يسبوا الله سبحانه وتعالى عدوًا وكفرًا على وجه المقابلة.
﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الأنعام: 108] [30].
ومثال الحيل المحرمة التي يتوصل بها إلى فعل الحرام: فعل بني إسرائيل لما حرم عليهم صيد الحيتان يوم السبت، إذ نصبوا البرك والحبائل للحيتان قبل يوم السبت، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل، فلما انقضى السبت أخذوها، فمسخهم إلى صورة القردة [31].
﴿ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [الأعراف: 163] [32].
وعلاقة سد الذرائع وإبطال الحيل بالمصلحة يجليه ابن القيم بقوله: “وبالجملة فالمحرمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها مطلوبة الإعدام، كما أن المفاسد مطلوبة الإعدام.
والقربات نوعان: مصالح للعباد، وذرائع موصلة إليها.
ففتح باب الذرائع في النوع الأول كسد باب الذرائع في النوع الثاني، وكلاهما مناقض لما جاءت به الشريعة، فبين باب الحيل وباب سد الذرائع أعظم التناقض.
وكيف يظن بهذه الشريعة العظيمة الكاملة التي جاءت بدفع المفاسد وسد أبوابها وطرقها أن تجوز فتح باب الحيل وطرق المكر على إسقاط واجباتها واستباحة محرماتها، والتذرع إلى حصول المفاسد التي قصدت دفعها” [33].
وأخيرًا: الفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة:
عرَّف الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى البدعةَ بتعريف جامع فقال:
“فكل مَن أحدث شيئًا، ونسبه إلى الدِّين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه: فهو ضلالة، والدين منه بريء” [34].
فصارت أركان البدعة:
1- الإحداث.
2- أن يضاف هذا الإحداث إلى الدين.
3- ألا يستند هذا الإحداث إلى أصل شرعي يدل عليه.
وأنقل هنا كلامًا علميًا يضبط مسألة الفروقات والاتفاقات بين البدع والمصالح المرسلة أرجو أن يكون نافعًا مفيدًا.
– وجوه اجتماع البدعة والمصلحة المرسلة:
1- أن كلاًّ من البدعة والمصلحة المرسلة مما لم يعهد وقوعه في عصر النبوة، ولاسيما المصالح المرسلة، وهو الغالب في البدع، إلا أنه ربما وجدت بعض البدع – وهذا قليل – في عصره، كما ورد ذلك في قصة النفر الثلاثة الذين جاءوا يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم.
2- أن كلاًّ من البدعة في الغالب والمصلحة المرسلة خال عن الدليل الخاص المعين، إذ الأدلة العامة المطلقة هي غاية ما يمكن الاستدلال به فيهما.
– وجوه الافتراق بين البدعة والمصلحة المرسلة:
تنفرد البدعة في أنها لا تكون إلا في الأمور التعبدية، وما يلتحق بها من أمور الدين؛ بخلاف المصلحة المرسلة فإن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل معناه، وجرى على المناسبات المعقولة التي إذا عُرضت على العقول تلقتها بالقبول فلا مدخل لها في التعبدات، ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية.
وتنفرد البدعة بكونها مقصودة بالقصد الأول لدى أصحابها؛ فهم في الغالب يتقربون إلى الله بفعلها، ولا يحيدون عنها، فيبعد جدًا – عند أرباب البدع – إهدار العمل بها؛ إذ يرون بدعتهم راجحة على كل ما يعارضها، بخلاف المصلحة المرسلة؛ فإنها مقصودة بالقصد الثاني دون الأول، فهي تدخل تحت باب الوسائل؛ لأنها إنما شرعت لأجل التوسل بها إلى تحقيق مقصد من مقاصد الشريعة، ويدل على ذلك أن هذه المصلحة يسقط اعتبارها، والالتفات إليها شرعًا متى عورضت بمفسدة أربى منها، وحينئذٍ فمن غير الممكن إحداث البدع من جهة المصالح المرسلة.
وتنفرد البدعة بأنها تؤول إلى التشديد على المكلفين وزيادة الحرج عليهم، بخلاف المصلحة المرسلة فإنها تعود بالتخفيف على المكلفين ورفع الحرج عنهم، أو إلى حفظ أمر ضروري لهم.
وتنفرد البدعة بكونها مناقضة لمقاصد الشريعة، هادمة لها، بخلاف المصلحة المرسلة فإنها – لكي تعتبر شرعًا – لابد أن تندرج تحت مقاصد الشريعة، وأن تكون خادمة لها، وإلا لم تعتبر.
وتنفرد المصلحة المرسلة بأن عدم وقوعها في عصر النبوة إنما كان لأجل انتفاء المقتضي لفعلها، أو أن المقتضي لفعلها قائم لكن وجد مانع يمنع منه، بخلاف البدعة فإن عدم وقوعها في عهد النبوة كان مع قيام المقتضي لفعلها، وتوفر الداعي، وانتفاء المانع.
والحاصل: أن المصالح المرسلة إذا روعيت شروطها كانت مضادة للبدع مباينة لها، وامتنع جريان الابتداع من جهة المصلحة المرسلة؛ لأنها – والحالة كذلك – يسقط اعتبارها ولا تسمى إذ ذاك مصلحة مرسلة، بل تسمى إما مصلحة ملغاة أو مفسدة [35].
وما تقدم يتبين لنا أهمية الحذر التام من العمل بالمصالح المرسلة، خوف استلزامها بعض المفاسد التي تتجدد في المستقبل[36]، لذا وجب على من لم يحصل أدوات النظر ولم يرتقي لرتبة الاجتهاد أن يعرف خطورة ما يخوض فيه بغير علم.
أسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يجنبنا مواضع الزلل إنه ولي ذلك والقادر عليه.
——————————————————-
[1] انظر: مجموع الفتاوى (11/ 344 – 345، 13/ 96)، ومفتاح دار السعادة (2/ 14 – 22)، وإعلام الموقعين (3/ 3)، والقواعد والأصول الجامعة (5)، وانظر: معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة (240 – 249)، د. محمد بن حسين الجيزاني، الناشر: دار ابن الجوزي بالدمام، الطبعة الثالثة 1422هـ.
[2] انظر: روضة الناظر (1/ 412)، ومختصر ابن اللحام (162)، وشرح الكوكب المنير (4/ 433)، ومذكرة الشنقيطي (168)، والمصالح المرسلة، للشنقيطي (8 – 15).
[3] المصلحة: ضد المفسدة، وهي: جلب المنفعة أو دفع المضرة. انظر: “مجمل اللغة” (1/ 539)، و”روضة الناظر (1/ 412)”.
[4] انظر: الأحكام الفقهية لسوق رأس المال، د. علاء شعبان الزعفراني (2/ 324 – 356)، الناشر: دار الصفوة بالقاهرة، الطبعة الأولى 1436هـ – 2015.
[5] تهذيب اللغة (4/ 243).
[6] لسان العرب (2/ 512).
[7] مقاصد الشريعة (203).
[8] أشير إلى أن هذا المذهب له جذوره القديمة، فهو يُعد امتدادًا للفكرة اليونانية القديمة، المسماة بمبدأ “اللذة”، ابتداء من أرستبس، إلى العصر الهليني، إلى العصر الهليسنتي، كما ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في الولايات المتحدة نظرية “البراجماتية”، على يد تشارلز برس، وسار على دربه وليم جيمس، وتبعه جون ديوي، حيث طورها إلى ما يسمى بمبدأ “الذرائع”، وهذه أيضًا لها استمدادها من نظرية المنفعة العامة. انظر: مدى الحاجة إلى الأخذ بنظرية المصالح المرسلة في الفقه الإسلامي، د. سعد محمد الشناوي (1/ 295).
[9] أصول الشرائع، لجيرمي بنتام، ترجمة أحمد أفندي فتحي زغلول، مصر، الناشر: هيئة قصور الثقافة المصرية.
[10] انظر: مقالة “الحضارة المعاصرة الوجه الآخر”، مجلة البيان، العدد (2)، صفر، 1417هـ.
[11] سورة الذاريات.
[12] هذا في غالب الأحوال، وقد يشذ بعضهم عن هذه أحيانًا.
[13] سورة الحديد.
[14] انظر: المستصفى (1/ 86).
[15] انظر: منهج التشريع الإسلامي وحكمته (17 – 24).
[16] انظر: روضة الناظر (1/ 414 – 415)، وشرح الكوكب المنير (4/ 159 – 160)، ومنهج التشريع الإسلامي وحكمته 17، والمصالح المرسلة، للشنقيطي (15).
[17] انظر: روضة الناظر” (1/ 412 – 414)، والمصالح المرسلة، للشنقيطي (6)، ومذكرة الشنقيطي (169)، شرح الكوكب المنير (4/ 159 – 166)، ومنهج التشريع الإسلامي وحكمته (16 – 24).
[18] انظر: مجموع الفتاوى (11/ 34، 344).
[19] المصالح المرسلة للشنقيطي (21). وانظر: مذكرة الشنقيطي (170).
[20] انظر: روضة الناظر (1/ 415)، ومجموع الفتاوى (11/ 343)، وقواعد الأصول (78)، ومختصر ابن اللحام (163)، وشرح الكوكب المنير (4/ 433)، والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد (138)، والمصالح المرسلة، للشنقيطي (10).
[21] الفرق بين القياس والمصلحة المرسلة أن القياس يرجع إلى أصل معين بخلاف المصلحة فإنها لا ترجع إلى أصل معين، بل إلى أصل كلي. انظر: شرح الكوكب المنير (4/ 170).
[22] انظر: المصالح المرسلة، للشنقيطي (21).
[23] انظر: مجموع الفتاوى (11/ 343).
[24] انظر: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 330 – 331).
[25] انظر: المصالح المرسلة، للشنقيطي (21).
[26] مفتاح دار السعادة (2/ 14). وقد ذكر ابن القيم في هذا المقام مسألتين: الأولى: في وجود المصلحة الخالصة والمفسدة الخالصة، انتهى فيها إلى قوله: “وفصل الخطاب في المسألة إذا أريد بالمصلحة الخالصة أنها في نفسها خالصة من المفسدة لا يشوبها مفسدة فلا ريب في وجودها، وإن أريد بها المصلحة التي لا يشوبها مشقة ولا أذى في طريقها والوسيلة إليها ولا في ذاتها فليست موجودة بهذا الاعتبار. والمسألة الثانية: في وجود ما تساوت مصلحته ومفسدته، اختار فيها عدم وجود هذا القسم في الشريعة وإن حصره التقسيم، ذلك لأن الشيء إما أن يكون حصوله أولى بالفاعل وهو راجح المصلحة، وإما أن يكون عدمه أولى به وهو راجح المفسدة.
[27] انظر: روضة الناظر (1/ 415)، وشرح الكوكب المنير (4/ 170)، والمصالح المرسلة، للشنقيطي (21 – 22).
[28] من الأمثلة على ذلك تولية أبي بكر رضى الله عنه لعمر رضى الله عنه الخلافة من بعده، وتدوين الدواوين في عهد عمر رضى الله عنه ، واتخاذه أيضًا دارًا للسجن بمكة. انظر: المصالح المرسلة، للشنقيطي (11، 12)، ورحلة الحج إلى بيت الله الحرام (175 – 176).
[29] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 361).
[30] سورة الأنعام، من الآية [108].
[31] انظر: إعلام الموقعين (3/ 162)، وتفسير ابن كثير (1/ 109).
[32] سورة الأعراف.
[33] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 370)، وانظر: إعلام الموقعين (3/ 135) بخصوص سد الذرائع، وبخصوص تحريم الحيل انظر (3/ 159) منه.
[34] جامع العلوم والحكم (2/ 128).
[35] قواعد معرفة البدع (19 – 20)، لمحمد حسين الحيزاني. ولمزيد توسع ينظر: الاعتصام للشاطبي، وحقيقة البدعة وأحكامها، لسعيد بن ناصر الغامدي، مجلدين وهو رسالة علمية طبعة مكتبة الرشد، وكذا ينظر قواعد معرفة البدع للجيزاني طبعة دار ابن الجوزي، ومعيار البدعة للجيزاني أيضًا طبعة دار ابن الجوزي بالدمام.
[36] انظر: رسالة المصالح المرسلة، لمحمد الأمين الشنقيطي، ضمن مجموع آثاره (9 – 11) المحاضرات (29 – 48).
المصدر: شبكة الألوكة.