بقلم محمد عمارة
هل شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل؟ أم مساوية لشهادة الرجل؟ قضية لا تزال موضع جدل في الفقه الإسلامي، القديم منه والحديث، وذلك على الرغم من الاجتهادات المعتبرة للأئمة الكبار الذين قالوا إن شهادة المرأة مساوية لشهادة الرجل، ومن هؤلاء الأئمة شيخ الإسلام بن تيمية (661 – 728هـ، 1263 – 1328 م) والإمام ابن القيم (691 – 751 هـ، 1292 – 1350م) والإمام محمد عبده (1266 – 1323 هـ، 1849 – 1905م) والإمام محمود شلتوت (1310 – 1383 هـ، 1893 – 1963م) الذي كتب عن القضية فقال: “إنه ليس صحيحا أن الإسلام ينتقص من أهلية المرأة في الشهادة، ذلك أن قول الله سبحانه وتعالى (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) البقرة 282، ليس وارد في مقام الشهادة التي يقضي بها القاضي ويحكم، وإنما هو وارد في مقام الإرشاد إلى طرق الاستيثاق والاطمئنان على الحقوق بين المتعاملين وقت التعامل: (يا أيها الذين آمنو إذا تداينتم بدين فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب الكاتب أن يكتب كما علمه الله) إلى أن قال: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) فالمقام مقام استيثاق على الحقوق، لا مقام قضاء بها، والآية نرشد إلى أفضل أنواع الاستيثاق الذي تطمئن به نفوس المتعاملين على حقوقهما.
وليس معنى هذا أن شهادة المرأة الواحدة أو شهادة النساء اللاتي ليس معهن رجل لا تثبت بها الحق، ولا يحكم بها القاضي، فإن أقصى ما يطلبه القضاء هو البينة.
وقد حقق العلامة ابن القيم أن البينة في الشرع أعم من الشهادة، وأن كل ما يتبين به الحق ويشهره هو بينة يقضي بها القاضي ويحكم، ومن ذلك يحكم القاضي بالقرائن القطعية، ويحكم بشهادة غير المسلم متى وثق بها واطمئن إليها.
واعتبار المرأتين في الاستيثاق كالرجل الواحد ليس لضعف عقلها الذي يتبع نقص إنسانيتها ويكون أثرا له، وإنما هو لأن المرأة، كما قال الشيخ محمد عبده: “ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، ومن هنا تكون ذاكرتها فيها ضعيفة، ولا تكون كذلك في الأمور المنزلية التي هي شغلها، فإنها فيها أقوى ذاكرة من الرجل، ومن طبع البشر عامة أن يقوى تذكرهم للأمور التي تهمهم ويمارسونها، ويكثر اشتغالهم بها”.
والآية -آية البقرة 282- جاءت على ما كان مألوفا في شأن المرأة ولا يزال أكثر النساء كذلك، لا يشهدون مجالس المداينات، ولا يشتغلن بأسواق المبايعات، واشتغال بعضهن بذلك لا ينافي هذا الأصل الذي تقضي به طبيعتها في الحياة.
وإذا كانت الآية ترشد إلى أكمل وجوه الاستيثاق، وكان المتعاملون في بيئة يغلب فيها اشتغال النساء بالمبايعات وحضور مجالس المداينات، كان لهم الحق في الاستيثاق بالمرأة على نحو الاستيثاق بالرجل متى اطمأنوا إلى تذكرها وعدم نسيانها على نحو تذكر الرجل وعدم نسيانه.
هذا وقد نص الفقهاء على أن من القضايا ما تقبل فيه شهادة المرأة وحدها، وهي القضايا التي لم تجر العادة بإطلاع الرجال على موضوعاتها، كالولادة والبكارة، وعيوب النساء في القضايا الباطنية، وعلى أن منها ما تقبل فيه فيها شهادة الرجل وحده، وهي القضايا التي تثير موضوعاتها عاطفة المرأة ولا تقوى على تحملها، على أنهم قد رأوا قبول شهادتها في الدماء إذا تعينت طريقا لثبوت الحق واطمئنان القاضي إليها، وعلى أن منها ما تقبل شهادتهما معا.
وما لنا نذهب بعيدا، وقد نص القرآن على أن المرأة كالرجل -سواء بسواء- في شهادات اللعان، وهو ما شرعه القرآن بين الزوجين حينما يقذف الرجل زوجته وليس له على ما يقول شهود: “والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين” (النور 6 – 9).
أربع شهادات من الرجل، يعقبها استمطار لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ويقابلها ويبطل عملها أربع شهادات من المرأة يعقبها استمطار غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فهذه عدالة الإسلام، في توزيع الحقوق المالية بين الرجل والمرأة، وهي عدالة تحقق أنهما في الإنسانية سواء.
لقد قرر الإسلام الفطرة التي فطر عليها المرأة، فطرة الإنسانية ذات العقل والإدراك والفهم، وليس هناك فارق ديني بين المرأة والرجل في التكليف وأهليته.
هكذا اجتهد علماء الإسلام في موضوع شهادة المرأة، وهو اجتهاد يتغافل عنه الكثيرون حتى هذه اللحظات.