مقالاتمقالات مختارة

الجهل.. القاسم المشترك بين البشر

الجهل.. القاسم المشترك بين البشر

بقلم محمد فتحي النادي

علم الإنسان علم جزئي محدود، وليس كليًّا مطلقًا، ولا يمكن لأي إنسان أن يدعي علمه بكل شيء، ولو تجرأ أحد وزعم ذلك لعلم الناس أنه مصاب في عقله الذي هو أداة العلم.

فمهما علم الإنسان أمورًا فسيظل جاهلاً لأمور أكثر مما يعلمها.

وهذا العلم الذي يتفاخر به البشر اليوم من صعود للفضاء، وسبر لأغوار البحار والمحيطات، وتوفير العلاج لأمراض كانت فتاكة قديمًا، وتيسير سبل التواصل والمواصلات بين البشر حتى غدت الأرض كقرية صغيرة، هذا كله وغيره مندرج في (القليل) الذي أخبر عنه السميع العليم بقوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً} [الإسراء: 85].

ولقد جَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ التي كان يركبها سيدنا الخضِر مع سيدنا موسى -عليه السلام، «فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِي الْبَحْرِ. فَقَالَ الْخَضِرُ: يَا مُوسَى، مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ فِي الْبَحْرِ»([1]).

هذا هو علم البشرية قطرة من بحر علم الله.

وكم كان العلم مزلة لأقدام الكثيرين؛ فكم من عالم لم يُغنه علمه شيئًا وألحد بالله تعالى، وآمن بالطبيعة أكثر من إيمانه بخالقها وباريها.

ومعنى ذلك أن القاسم المشترك بين البشر هو الجهل؛ جهل أنفسهم والكون المحيط بهم… إلخ.

الجهل جهلان

والجهل -فيما أرى- نوعان:

– جهل كلي: ومظنة وجوده في العامة، وإن كان العوام لا يخلو عقلهم الجمعي من علوم عرفوها أو استنبطوها أو توارثوها.

– جهل جزئي: ومظنة وجوده في العلماء؛ إذ إن العلماء لا يحيطون بكل شيء علمًا، بل إنهم يجهلون غير فنونهم، وليس بالضرورة أن يحيط بكل شيء في فنه، بل يمكن أن يتخصص في باب أو أكثر من فن واحد من فنون العلم.

وقد «سئل أبو يوسف القاضي عن مسألة فقال: لا أدري.

فقالوا له: ترتزق من بيت المال كل يوم كذا [و] كذا ثم تقول: لا أدري.

فقال: إنما أرتزق بقدر علمي، ولو أعطيت بقدر جهلي لم يسعني مال الدنيا.

وحكي أن عالمًا سئل عن مسألة وهو فوق المنبر فقال: لا أدري.

فقيل له: ليس المنبر موضع الجهال.

فقال: إنما علوت بقدر علمي، ولو علوت بقدر جهلي لبلغت السماء»([2]).

من علامات الساعة

وتفشي الجهل وظهوره علامة من علامات الساعة، قال -صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا»([3]).

والجاهل يرفع جهله بطلب العلم، لكن الجهل قد يكون سلاحًا ضد العلم، وسيفًا مصلتًا على العالِم.

وقد يُدفع العامة دفعًا للقبول باضطهاد بعض العلماء، ويُستغل جهلهم وعاطفتهم وثائرتهم لتبرير الفتك ببعض التيارات بما فيها من علماء أجلاء. وما أكثر الشواهد على هذا في التاريخ القديم والمعاصر.

قال الخليل بن أحمد: «النَّاسُ أَرْبَعَةُ رَجْلَةٍ: فَرَجُلٌ عَالِمٌ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَالِمٌ فَتَعَلَّمُوا مِنْهُ، وَرَجُلٌ عَالِمٌ نَاسٍ فَذَكِّرُوهُ، وَرَجُلٌ جَاِهٌل يَعْلَمُ أَنَّهُ جَاهِلٌ فَعَلِّمُوهُ، وَرَجُلٌ جَاهِلٌ يَرَى أَنَّهُ عَالِمٌ فَاهْرَبُوا مِنْهُ»([4]).

وأن يتصدر بعض قليلي البضاعة في العلم أمر شائع من قديم، يقول ابن حجر: «وَاتفقَ أَن قَاضِي الْحَنَابِلَة شرف الدّين الْحَرَّانِي كَانَ قَلِيل البضاعة فِي الْعلم»([5]).

وحينما لا يعترف العالم أنه يجهل بعض المسائل، ثم يمتحن غيره من العلماء ويحرض عليهم السلطان، فتلك طامة من الطوام الكبرى.

يحكي ابن تيمية أنه في مناظرة من المناظرات التي كان يُمتحن فيها ظهر جهل أحد كبار الممتحنين له شديدي الخصومة معه، فقال: «فلما انتهيت إلى ذكر المعتزلة سأل الأمير عن معنى المعتزلة.

فقلت: كان الناس في قديم الزمان قد اختلفوا في الفاسق الملي، وهو أول اختلاف حدث في الملة، هل هو كافر أو مؤمن، فقالت الخوارج: إنه كافر، وقالت الجماعة: إنه مؤمن، وقالت طائفة: نقول: هو فاسق لا مؤمن ولا كافر ننزله منزلة بين المنزلتين وخلدوه في النار، واعتزلوا حلقة الحسن البصري وأصحابه رحمه الله تعالى فسموا معتزلة.

وقال الشيخ الكبير بجبته وردائه: ليس كما قلت، ولكن أول مسألة اختلف فيها المسلمون مسألة الكلام، وسمي المتكلمون متكلمين لأجل تكلمهم في ذلك، وكان أول من قالها عمرو بن عبيد، ثم خلفه بعد موته عطاء بن واصل، هكذا قال وذكر نحوًا من هذا.

فغضبت عليه وقلت: أخطأت، وهذا كذب مخالف للإجماع، وقلت له: لا أدب ولا فضيلة، لا تأدبت معي في الخطاب، ولا أصبت في الجواب.

ثم قلت: الناس اختلفوا في مسألة الكلام في خلافة المأمون وبعدها في أواخر المائة الثانية، وأما المعتزلة فقد كانوا قبل ذلك بكثير في زمن عمرو بن عبيد بعد موت الحسن البصرى في أوائل المائة الثانية، ولم يكن أولئك قد تكلموا في مسألة الكلام ولا تنازعوا فيها، وإنما أول بدعتهم تكلمهم في مسائل الأسماء والأحكام والوعيد»([6]).

وهذه المناظرات وأمثالها لم تكن لإظهار وجه الحق في بعض المسائل، ولكن لتصفية حسابات، وللانتقام من بعض الأشخاص الذين حازوا مكانة عالية في قلوب العامة والخاصة.

وليت من يقومون بهذا يحسنون المناظرة على وجهها، ولكن بعضهم نال درجته لا بعلمه، ولكن بقربه من ذوي السلطان، أو بتزلفه لهم، أو بمال دفعه… إلخ.

([1]) جزء من حديث أخرجه البخاري في «العلم»، باب: «مَا يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَيَكِلُ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ»، (6/88)، ح(122) من حديث أبي بن كعب -رضي الله عنه.

([2]) روح البيان، لحقي، 1/102.

([3]) أخرجه البخاري في «العلم»، باب: «رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ …»، (1/27)، ح(80)، ومسلم في «العلم»، باب: «رَفْعِ الْعِلْمِ وَقَبْضِهِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ وَالْفِتَنِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ»، (4/2056)، ح(2671) من حديث أنس -رضي الله عنه.

([4]) الطيوريات، لأبي طاهر السلفي، 3/1253.

([5]) الدرر الكامنة، 1/172.

([6]) مجموع الفتاوى، 3/182-183.

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى