قصة إقصاء الحكم اليساري الجديد بالسودان للتيار الإسلامي
بقلم يوسف أحمد
بالرغم من أن انقلاب 1989 الذي نفذه الرئيس السوداني عمر البشير ومجموعة من الضباط بدعم من الحركة الإسلامية، ممثلة في حزب الدكتور الترابي حينئذ، والذي أطلق عليه لاحقا “ثورة الإنقاذ”، نفذه عمليا عسكريون، ودعمه مدنيون من الحركة الإسلامية، وقوى أخرى؛ فقد عمد انقلابيو 2019 ضد حكم البشير إلى إدانة الإسلاميين وحدهم، والسعي للانتقام منهم لإرضاء اليساريين.
بعبارة أخرى: سعى عسكر 2019 إلى تجريم السياسيين بتهمة القيام بانقلاب 1989، رغم أن تهمة الانقلاب من الأولى توجيهها للعسكريين أنفسهم، ومنهم الحاليون الذين تعاونوا مع البشير قبل الانقلاب عليه.
وفي الوقت الذي تنكل فيه حكومة الشيوعيين التي شكلها “تجمع المهنيين السودانيين”، بعد الانقلاب بالسياسيين الإسلاميين وتعتقل قيادتهم، يستمر هذا التجمع اليساري بزعامة محمد يوسف المصطفى (القيادي بالجبهة الشعبية لتحرير السودان التي قادت انفصال الجنوب، وتعادي التوجه الإسلامي والعروبي للسودان)، في إقصاء الإسلاميين من الحياة السياسية.
ويواكب هذا مباركة المجلس العسكري الحالي التضحية بالإسلاميين لإرضاء اليساريين والليبراليين تمهيداً للانفراد بهم بعد ذلك، على غرار ما فعله عبد الفتاح السيسي في مصر، الذي وصل للحكم بدعم من جبهة الإنقاذ (اليسارية الليبرالية)، وعمل بسياسة “فرِّق تسُد” بين قوى ثورة يناير 2011، وبعد التخلص من الإسلاميين تخلص من القوى الليبرالية واليسارية!
اعتقال السياسيين الإسلاميين
ففي سياق خطة التخلص من رموز نظام البشير والقوى الإسلامية بدعاوى التحقيق في انقلاب 1989، تم القبض على القيادي الإسلامي إبراهيم السنوسي، الذي يصفه اليساريون بأنه المسؤول العسكري في تنظيم الجبهة الإسلامية القومية (حزب الترابي سابقا)، والمكلف باختيار العميد عمر البشير، الرئيس السوداني المخلوع لرئاسة انقلاب يونيو 1989، في وقت دعا فيه السنوسي الإسلاميين إلى الخروج للتظاهر ضد الانقلابين وحكومة اليسار التي تسعى لإقصاء الإسلاميين، وأوصى السنوسي أنصاره في المؤتمر الشعبي بالتوحد والتكاتف في وجه “الطغيان”.
وكانت النيابة العامة في السودان أصدرت في 20 نوفمبر الماضي، أمرا بالقبض على أمين حزب المؤتمر الشعبي علي الحاج والسنوسي لدورهما في تدبير انقلاب 1989 وتم توقيف “الحاج” وإحالته إلى سجن كوبر في الخرطوم، ثم اعتقل السنوسي لاحقا.
وأصدرت النيابة السودانية توجيهات باعتقال قيادات إسلامية وعسكريين إسلاميين بدعاوى المشاركة في التخطيط أو تنفيذ انقلاب البشير قبل ثلاثين عاماً، كان منهم أيضا الأمين العام للمؤتمر الشعبي على الحاج، كما وجهت النيابة العامة أوامر بالقبض على البشير ونائبيه علي عثمان محمد طه، وأحمد هارون، فيما يسمي قضايا “كتائب الظل وقتل متظاهرين” في ديسمبر 2018 بناء على اتهامات من ذوي قتلى الأحداث.
وكانت السلطات السودانية قد ألقت القبض على البشير، وعدد من أركان حكمه في الثورة الشعبية الأخيرة التي قادتها القوى اليسارية والليبرالية وسودانيون غاضبون على الأوضاع الاقتصادية، إلا أن النيابة لم تحرر إلا بلاغاً حول قضايا فساد مالي ضد البشير، لكن بعد تشكيل الحكومة الحالية التي يقودها الشيوعيين، بدأت النيابة العامة في توجيه اتهامات ضد القيادات الإسلامية بالتخطيط والتنفيذ للانقلاب العسكري، والإرهاب وقتل المدنيين.
أيضا طالت الاعتقالات الأمين العام للحركة الإسلامية الزبير أحمد الحسن، ووزير الخارجية السابق علي كرتي، ووزير الموارد البشرية السابق كمال عبد اللطيف، وبكري حسن صالح نائب البشير.
هل يثور الإسلاميون؟
في أول رد فعل على توقيف السنوسي وقيادات إسلامية أخرى، دعا الأمين العام المكلف للمؤتمر الشعبي بشير آدم رحمة قوى المعارضة، إلى إسقاط الحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك.
ودعا المؤتمر الشعبي، في فيديو بثه إعلام الحزب، على مواقع التواصل الاجتماعي أنصاره والقوى السياسية المعارضة لقوى الحرية والتغيير، إلى إسقاط الحكومة الانتقالية، برئاسة عبد الله حمدوك.
وقال الأمين العام المكلف بشير آدم رحمة، “ندعو إلى إسقاط حكومة قوى الحرية والتغيير لأنها غير جديرة بإدارة السودان وستؤجج الصراعات في السودان”.
ووصف رحمة البلاغ ضد مدبري ومنفذي انقلاب 30 يونيو 1989، بأنه “كيدي سياسي ويهدف لإقصاء الإسلاميين وتصفية الحسابات معهم”، ودعا إلى محاسبة كل مدبري الانقلابات في السودان منذ الاستقلال.
وأضاف: “إذا وقعت مشاكل بالسودان، فسيغادر قادة قوى الحرية والتغيير لأنهم يحملون الجوازات الأجنبية”.
وقال السنوسي، في تسجيل: “وصيتي لكل أعضاء الحزب والقوى السياسية بالتوحد والتماسك لمواجهة طغيان قوى إعلان الحرية والتغيير”.
وتابع: “مارسوا كل حريات التعبير، وشاركوا في التظاهرات السلمية، ولا تستخدموا العنف”.
وقبل الحملة الحالية على الإسلاميين شاركت قوى إسلامية في التظاهر ضد البشير، مؤكده أن علاقة الحركة الإسلامية بالبشير وحكمه انتهت بعدما أصبح يدير البلاد بمفرده ووفق هواه، فيما دعا إسلاميون لمليونيات مضادة للمظاهرات ضد البشير مطالبين بالحفاظ على التوجه الإسلامي للبلاد بعدما تبين لهم أن قوى الحرية والتغيير يقودها يساريون يسعون للانتقام وإقصاء الإسلاميين.
بيد أن المجلس العسكري أجهض مظاهرات الإسلاميين وقتها، وطالبهم بعدم التظاهر خشية اندلاع حرب أهلية وصراعات، وكان يدبر في الخفاء لدعم اليساريين بدعم عربي.
تفكيك نظام البشير وإقصاء الإسلاميين
وأجاز الاجتماع المشترك بين مجلسي السيادة والوزراء السوداني، ديسمبر الجاري “قانون تفكيك وإزالة وتمكين نظام الإنقاذ 1989م”، واتخذ قرارًا يقضي بحل المؤتمر الوطني الحزب الحاكم بالسودان على مدى ثلاثين عاما، ومصادرة أصوله وممتلكاته لصالح الحكومة.
وعلى حين رحبت الأحزاب اليسارية والعلمانية بالقرار، تجاهل حزب المؤتمر الوطني القرار، وتحدى رئيسه المكلف دكتور إبراهيم غندور الجهات القانونية، وقال إن القرار لن يمنعهم من مواصلة نشاطهم السياسي كالمعتاد.
وقالت رئيسة القطاع القانوني بحزب المؤتمر الوطني (عواطف الجعلي) إن حل حزبهم يعتبر ضربا من التشفي والإقصاء، مشيرة إلى أن المؤتمر الوطني تم تكوينه بعد ثورة الإنقاذ، وإذا أرادت المحكمة الدستورية حله فعليها أن تقوم بحل جميع الأحزاب التي شاركت معه في الحكم.
وكان من الواضح أن القرار يستهدف الإسلاميين، وإلا لتم أيضا اعتقال ومحاكمة العسكريين الحاليين أيضا باعتبارهم من نظام البشير، وهو ما لم يحدث واقتصر الأمر على قيادات التيار الإسلامي.
ومع هذا زعم رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك -في تدوينة عبر صفحته على فيسبوك-أن “قانون تفكيك النظام البائد وإزالة التمكين ليس قانونا للانتقام”!!
وتساءل سودانيون تعليقا على اعتقال القيادات الإسلامية: هل ستتم محاسبة الإسلاميين على الانقلابات ومكافأة العسكريين عنها؟ وهل تستخدم قوى الحرية والتغيير التي يغلب عليها الطابع اليساري السلطة الانتقالية للتخلص من منافسيها الأيديولوجيين؟!!
ووصف البعض الاعتقالات بأنها حملة للاستهداف السياسي والانتقام من الكيانات الإسلامية على اعتبارها الرحم الذي وُلدت منه حكومة الرئيس السابق عمر البشير مع تجاهل نضال الإسلاميين ضد حكومة البشير، بعد أن انشقت العديد من التيارات الإسلامية عنه وناصبته العداء، خاصة بعد الخلاف الشهير (المفاصلة) الذي خرج على إثره الراحل حسن الترابي من الحكم مغاضباً البشير ومؤسساً حزب المؤتمر الشعبي في مواجهة حزب المؤتمر الوطني التابع للبشير.
بل وخرج أيضا الدكتور غازي صلاح الدين أبرز رموز التيار الإسلامي من حزب البشير وأسس حزبا معارضا له هو “الجبهة الوطنية للتغيير”، وبات يشارك في مظاهرات ومؤتمرات معارضة للبشير، ولكنه وجه انتقادات عنيفة للحكومة الانتقالية، معتبرا اعتقال الإسلاميين خطوة استبداداً متسائلا عن شعار الثورة (حرية، سلام وعدالة) بوصفه وعداً يخدّر به الموالون الغافلون ويشقى بزينته صاحب كل رأي حر.
أزمة السودان في 6 نقاط
وقد لخص الدكتور غازي صلاح الدين العتباني، المنشق على حزب البشير ورئيس حزب “الجبهة الوطنية للتغيير” في رسالة بعث بها إلى الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي، ونشرها على حسابه علي فيس بوك أزمة السودان وإقصاء الإسلاميين في ست نقاط أو أخطاء ارتكبت هي:
- الهدف من إنشاء المجلس العسكري الانتقالي هو ضمانة جلوس أطراف النزاع حول طاولة آمنة للتشاور حول توافق سياسي وطني لحل مشكلات البلاد ولا يكون هو طرفاً في التفاوض، لأنه لا يحمل هوية سياسية ولا ينفرد برأي خاص في مسائل السياسة، كما أنه (المجلس العسكري) ليس مذكورا في الدستور ولا في أي وثيقة أخرى وهو “انتقالي” ومؤسسة عرفية للتعامل مع طوارئ معينة تستدعي حماية الدولة وحياطتها من الانهيار عندما تنشأ أزمة بين المكونات السياسية.
- الخطأ التالي هو احتكار التفاوض بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير، ما أجهض العملية السياسية منذ اللحظة الأولى، لتتلخص العملية السلمية في هذين الطرفين، وبقيت كل القوى السياسية خارج هذا الكون!
- الخطأ الثالث كان اختزال العملية السلمية في إجازة المجلس العسكري الانتقالي لوثيقة باسم “الوثيقة الدستورية”، وهذه الوثيقة لا علاقة لها بالدستور فهي برنامج عمل حزبي لم تناقش مع أي جهة سوى قوى الحرية والتغيير، وبمقتضى تلك العملية ألغي دستور 2005 بجرة قلم، واستبدل بعدة نسخ مختلفة من الوثيقة، واعترف وزير العدل بوجود نسختين!
- استمرأ بعض القادة الجدد (من قوى الحرية والتغيير اليسارية) إشعال خصومات جدلية حول مسائل دينية أثارت غبارا كثيفاً في الساحة، وانتهت إلى استفزازات لا طائل منها، وعززت الانطباع بأن القادة الجدد “مهرطقون” يتخذون مقاعدهم مع القوى المهددة للإسلام، ويجتهدون في ابتزاز الغالبية المسلمة بغير هدف واضح، وقد أدى ذلك إلى ما يقارب الفتنة وإلى تبادل الاتهامات بالتطرف، وإلى الشحن العاطفي، لكن أشد المسائل خطورة في هذا الصدد هو الإسلاموفوبيا الجديدة، الذي يدعو إلى استئصال كل من له ميول إسلامية واضطهاده بصورة صريحة ما سيضع البلاد في أتون صراع عقائدي عنيف يستحيل معه تكريس التوافق السياسي المطلوب لبناء الدولة.
- انشغال الحكومة الانتقالية بالقضايا والصراعات السياسية الهامشية وإثارة الاضطرابات سيقلل من فرص تحسن الوضع الاقتصادي ويهدد بانهيار الحكومة تحت وطأة غليان الشارع الذي تجاوزت الضائقة المعيشية كل طاقات الاحتمال لديه، بدلا من التعايش البناء مع الآخر لذي تلقى إصابة قاتلة من الحملة المكارثية البغيضة التي لا تميز بين الصديق والعدو.
- التسييس المتصاعد للأجهزة القضائية والعدلية واستخدامها بطريقة انتقائية لتصفية الخصوم السياسيين، حيث تجري عملية استزراع لعدة قوانين انتقيت وأعدت بعناية لتطبق بصورة خاصة، من بينها قانون المحاكمات للمشاركين في انقلاب 1989 وقانون تفكيك الإنقاذ، وهما قانونان ممعنان في الفظاظة والتخلف لا مثيل لهما إلا قوانين صيد السحرة ومحاكم التفتيش التي سادت في أوربا في القرون الوسطى لتصفية الخصومات السياسية.
ويتجاوز عدد أعضاء الحركة الإسلامية في السودان مليوني شخص، وهم جزء أصيل من مكونات الشعب السوداني، يصعب تنحيته، وإزالته من المشهد بصورة كلية، وإن كان التربص بهم واضحا في ظل مشروع إقليمي تقوده دول عربية معادية للربيع العربي وتسعى لضرب التيار الإسلامي في مختلف دول المنطقة.
واتخذت الحركة الإسلامية في السودان، مواقف مختلفة من الحكم، فجزء منها توحد مع قصر الحكم في الخرطوم تحت قيادة البشير العسكري الذي جاء بخلفية إسلامية في بدايته، لكن جزءا ثانيا من الإسلاميين اتخذ موقف المعارضة ومحاولات الإصلاح المستمرة، بل وتعرض للعسف وقسوة القبضة الأمنية، واعتقلت كوادره وزج بها في السجون.
وهناك جزء ثالث تمثل في شريحة كبيرة من الشباب الإسلامي، الذي رفض طريقة حكم البشير والمؤتمر الوطني، وانخرط في المظاهرات من بدايتها، وساهم في إسقاط المنظومة الحاكمة.
(المصدر: مجلة المجتمع)