مقالاتمقالات مختارة

هل سينجح الغرب في علمنة الإسلام؟

هل سينجح الغرب في علمنة الإسلام؟

بقلم د. غازي التوبة

بعد أن قامت الحضارة الغربية في أوروبا، وطوّرت آلتها العسكرية، واتجه الغرب إلى المواجهة مع الخلافة العثمانية بعد الثورة الفرنسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، واستعمر معظم الدول العربية والإسلامية وحكمها بالأنظمة الغربية في مختلف المجالات القانونية والسياسية والاقتصادية إلخ.

وبدأ التغريب يسري في أوساط المجتمع العربي والإسلامي في السلوك والعادات والتقاليد واللباس والطعام والشراب إلخ…، لكن الغرب وأتباعه من مستشرقين ومستغربين لم يكتفوا بذلك، بل كانوا يريدون “علمنة الإسلام” من أجل أن يضمنوا سيطرتهم على الأمة سيطرة كاملة، وأن يضمنوا إنفاذ مبادئ الغرب وقيمه وأفكاره في وجود الأمة، ونحن سنستعرض المحاولات التي قاموا بها، والمجالات التي طرقوها لتحقيق ذلك، ومن أبرزها:

1- علمنة “النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة” في الإسلام:

إنّ أبرز مقوّم تقوم عليه علمانية الحضارة الغربية هو “نسبية الحقيقة”، وهو يتعارض مع “النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة” في ديننا، لذلك فإن المستغربين من الأمة ركزوا كثيراً على “النصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة” وهي التي لا تقبل التغيير من مثل: أحكام العقيدة، أحكام الصلاة والعبادة، أحكام الحدود، وأحكام الميراث، وأحكام الأسرة إلخ…، فقالوا عن أحكام الحدود من مثل حد الرجم وحد قطع يد السارق بأنها وحشية، وشكّكوا في حديث حد الردّة، وقالوا بأنه يتعارض مع قول الله تعالى: “لا إكراه في الدين”، كما طالبوا بتغيير أحكام الميراث، ودعوا إلى المساواة في أحكام الميراث بين الذكر والأنثى، كما دعوا إلى إيقاف تشريع تعدد الزوجات، والنص على الزواج بواحدة، ومعاقبة من يُعدّد.

وإذا أردنا أن نستعرض الداعين إلى علمنة “النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة” فهي قائمة طويلة، فمنهم: حسين أحمد أمين، محمد سعيد العشماوي، محمد شحرور، محمد عابد الجابري، محمد أركون، إلخ.

2- علمنة “ثنائية النقل والعقل” في الإسلام:
الحضارة الغربية المعاصرة قامت على الإيمان بعالم الشهادة فقط، وهو “العالم المادي” المحسوس، وقامت على إنكار عالم الغيب، واعتبار “عالم الغيب” خرافة وأوهاماً

من المؤكد أن ديننا قام على ثنائية “النقل والعقل”، وقام على أنّ هناك توافقاً بين “صحيح المنقول وصريح المعقول”، وأنه ليس هناك تعارض بين النقل والعقل، وإذا وُجد مثل ذلك، فإن الأمر لا يتعدى أن هناك خطأ في المنقول فإنه لا يرقى إلى مستوى الصحيح، أو أنّ هناك خطأ في المعقول فهو ليس صريحاً واضحاً مُؤكداً.

من الواضح أن الحضارة الغربية تقوم على “العقل” وحده، لذلك حاول المستغربون من الأمة أن يطعنوا في “النقل”، فشككوا في ثبوت السنة النبوية وهي إحدى دعامتي النقل، وطعنوا في تدوينها، وكثيرون رفضوا “السنّة”، وكتب الأحاديث مثل صحيح البخاري ومسلم والسنن والمساند إلخ…، واعتبروها مؤلفة لأغراض سياسية، ومن هؤلاء: طه حسين، محمد عابد الجابري، محمد شحرور، أدونيس، عبدالمجيد الشرفي إلخ.

وثُمّ جرت محاولات أخطر، وهي محاولة تضييق جانب النقل لصالح العقل، وأبرز من قام بذلك: محمد عابد الجابري عندما اعتبر أن معجزة الرسول –ﷺ- هي القرآن الكريم فقط، وهو معجزة عقلية، وأنّ كل المعجزات الحسيّة التي أعطاها الله -سبحانه وتعالى- للرسول محمد –ﷺ- من مثل: الإسراء والمعراج، انشقاق القمر، إلخ…، اعتبرها الجابري غير صحيحة بحجة أنها تتعارض مع القرآن الكريم.

3- علمنة “الغيوب” في الإسلام:

قام الإسلام على ثنائية “عالمي الغيب والشهادة”، ودعا المسلمين إلى الإيمان بالعالمين، وربما كان عالم الغيب أكبر وأضخم من عالم الشهادة حسب المعطيات الشرعية، فهناك الجنة والنار، والملائكة، والشياطين، والسحر، والحسد، إلخ.. ومن الواضح أن الحضارة الغربية المعاصرة قامت على الإيمان بعالم الشهادة فقط، وهو “العالم المادي” المحسوس، وقامت على إنكار عالم الغيب، واعتبار “عالم الغيب” خرافة وأوهاماً، وقد وقع ذلك نتيجة ملابسات خاصة عاشتها أوروبا منذ العصور الوسطى، وهي تصادم الكنيسة مع جماهير الناس والعلماء في أمرين، وهما: كبت الشهوات الإنسانية الفطرية المرتبطة بالمرأة والملذات من جهة، ورفض الإنجازات العلمية من جهة ثانية.

استهدف الإسلام إقامة دولة تكون نموذجاً مشرقاً للبشرية إلى قيام الساعة، وقد حقق ذلك الرسول –ﷺ- عندما أقام دولة في المدينة المنورة، وقادها لمدة عشر سنين، قأقام بذلك أفضل حكومة عرفتها البشرية

لذلك لجأ كثير من العلماء إلى تأويل كثير من الغيوب الإسلامية من أجل تضييق الفجوة بين عالمي الغيب والشهادة لصالح عالم الشهادة في الحضارة الغربية، ومن أبرز الكتّاب والعلماء الذين قاموا بهذه المحاولة: محمد فريد وجدي، وطنطاوي جوهري، ومحمد عابد الجابري إلخ.

4- علمنة “نظام الحكم” في الإسلام:

استهدف الإسلام إقامة دولة تكون نموذجاً مشرقاً للبشرية إلى قيام الساعة، وقد حقق ذلك الرسول –ﷺ- عندما أقام دولة في المدينة المنورة، وقادها لمدة عشر سنين، قأقام بذلك أفضل حكومة عرفتها البشرية، وقامت على تشريعات إلهية، وقادها خير إنسان عرفته البسيطة وهو الرسول محمد ﷺ.

ثم جاء بعده الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، واستمروا على منواله –ﷺ- ووسّعوا رقعة دولتهم، لذلك استحقوا أن يكونوا نموذجاً يُقتدى بهم ويُستفاد منهم، وقد وجّهنا الرسول –ﷺ- إلى الاستفادة من بنائهم وجهودهم، فقال: “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي” (أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهم).

ثم استمرت الدولة قائمة فاعلة بأمر الدين والدنيا مسيرة أربعة عشر قرناً، مساهمة في بناء حضارة البشرية، ثم جاء بعد ذلك نفر من المستغربين فطعنوا في هذا الحكم بصور مختلفة، وتناول كل منهم جانباً من الجوانب، لكنّ القصد من مجموع هذه الطعون والأقاويل والاتهامات والافتراءات الوصول إلى أمر واحد هو “علمنة الحكم الإسلامي”.

جرت محاولات كثيرة سابقة في التاريخ الإسلامي من أجل تطويعه لمبادئ أخرى وفشلت، وكان علماء الأمة –دائماً- واعين لمثل هذه المحاولات، وسيكونون كذلك –الآن- ويصدونها بإذن الله

وقد بدأت هذه الطعون بكلام علي عبدالرازق بدعوى أنه ليس هناك حكم في الإسلام، وأنّ “الخلافة” من اختراع المسلمين، وأنّ الرسول جاء “داعياً” فقط، وأنّ الدين الإسلامي “دين دعوة” وليس “دين حكم”، وقد دوّن كل تلك الأقوال في كتاب “الإسلام ونظام الحكم” الذي أعدمه الأزهر، بعد أن حاكم الكتاب وصاحبه، ونزع الصفة الأزهرية عن صاحبه.

وقد ادّعى بعض المستغربين بأننا يمكن أن ننقل التجربة الديمقراطية الغربية وتطبيقها في بلادنا العربية والإسلامية بكل حذافيرها، وذلك لأنها تحقق العدل والمساواة والشورى لأبنائها في أوروبا وأمريكا، وهذا ما يريده الإسلام من نظام الحكم الإسلامي الذي يقيمه، لكنّ هؤلاء المستغربين نسوا أن الديمقراطية التي تحقق العدل والمساواة والشورى لأبنائها، هي وحش كاسر خارج حدودها، وخير شاهد على ذلك احتلال أفغانستان في عام 2001م، واحتلال العراق عام 2003م وتدميرهما، ثم تدمير سورية وليبيا بعد عام 2011م، ونسوا –كذلك- أنّ هناك طامّات كبرى في مبادئها من مثل: “نسبية الحقيقة”، وإنكار الغيوب، واعتبار الكون مادة، وتقديم المصلحة على الأخلاق، وهذه المبادئ لا تنفك عن آليات التطبيق، وترتبط بها، وتَلزمُها.

لكننا يمكن أن نستفيد من التجربة الديمقراطية الغربية ونأخذ آلياتها، عندما يكون الإسلام هو المرجعية في الحكم، وتشريعاته هي المطبقة على الأرض، وتكون القيادة لعلماء ربانيين مرتبطين بأمتهم، ويكون جمهور المسلمين متفاعلاً مع قيادته. هذا ما يقبل به الإسلام، فحينئذ يتحقق العدل والمساواة والشورى، مع تجنب مساوئ النظام الديمقراطي الغربي.

الخلاصة:

قامت الحضارة الغربية في نهاية القرون الوسطى تحمل نموذجاً حضارياً جديداً، وحاولت فرضه على العالمين العربي والإسلامي، من خلال استعمارها لكثير من الدول العربية والإسلامية، لكنّ الغرب أراد أمراً أبعد من ذلك، فهو أراد “علمنة الإسلام” من أجل أن تصبح الحضارة الغربية مقبولة من قبل الأمة الإسلامية وليست مفروضة عليها، وأراد أن يكون ذلك بأيدي شخصيات مسلمة، فقام عدد من المستغربين بمحاولة تطويع بعض محاور الدين الإسلامي لصالح “العلمنة”، وكانت أبرز المحاور: النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة، الغيوب، ثنائية العقل والنقل، الحكم، وغيرها.

هل سينجح الغرب في ذلك، ويقبل المسلمون بتلك المحاولة؟ من الأرجح أنه لن ينجح في ذلك، لأنها جرت محاولات كثيرة سابقة في التاريخ الإسلامي من أجل تطويعه لمبادئ أخرى وفشلت، وكان علماء الأمة –دائماً- واعين لمثل هذه المحاولات، وسيكونون كذلك –الآن- ويصدونها بإذن الله.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى