التعليم الديني في تركستان الشرقية
يعتبر التعليم الديني من المجالات المهملة بشدة في تركستان الشرقية والتى تخضع للسيطرة والرقابة الشديدة من السلطة المركزية في الصين وذلك لأسباب عديدة منها :
ـ الطبيعة الإيديولوجية للنظام المسيطرة على الحكم في الصين وتركستان الشرقية، وهي العقيدة الشيوعية التي تتخذ موقفا مضاداً للدين بصفة عامة وتعتبره أفيون الشعوب أي يجعل الشعوب تركن للظلم والاستغلال الاقتصادي انتظاراً لحسن الجزاء في الدار الآخرة، فالإلحاد وإنكار وجود الله ومعاداة الدين والالتزام الدينى من أساسيات الإيديولوجية الشيوعية ، ومن ثم فإن كافة النصوص الدستورية والقانونية في الصين وإن صيغت ظاهريا بما يفيد احترام عقائد الأقليات والسماح لهم بممارسة شعائر دينهم ، إلا أن تلك النصوص والقوانين صيغت بطرق خبيثة تسمح بانتهاكها والتدخل فيها حسبما ترى السلطة المسيطرة على الحكم وبما يخدم مصالحها، فضلا عن أنها تدفع في اتجاه تعزيز الإيديولوجية الشيوعية والمحافظ عليها.
ـ قناعة من لا يدينون بالإسلام _ وإن أظهروا خلاف ذلك _ من أن العقيدة الإسلامية تتمتع بقوة كبيرة وتأثير لا يقاوم على عقول ونفوس البشر ، بل إن الدين الإسلامى هو الدين الوحيد الذي يتقدم باستمرار مكتسبا الشعوب والأفراد إلى صفه يتساوى فى ذلك إن كان أتباعه في حالة قوة وانتصار أو في حالة ضعف وانكسار سياسي وعسكري ، ولذا نسمع كثيرا عن صيحات التحذير من الإسلام ومخاوف عالم غير المسلمين من مختلف الحضارات أن يخسروا أعدادا متزايدة من أفراد شعوبهم بتحولهم إلى الإسلام ، ودعك من فوبيا الإسلام والإرهاب فالإسلام دين الأمن والسلام ومن لا يلتزم بذلك فقد شذ عن قواعده . ولقد ضرب شعب الأويغور في تركستان خير مثال على ذلك حينما نجحوا في تحويل المغول الذين سيطروا على تلك المناطق في عصر الدولة الجغتائية المغولية حيث اعتنق المنتصرون المغول دين شعب الأويغور وتحولوا وهم أصحاب السلطة والقوة إلى الإسلام طواعية حتى أطلق المؤرخون عليهم اسم المغول المتتركين ، وما حدث ذلك إلا تأثرا بسلوك وأخلاق وحضارة الأويغور المنضبطة بتعاليم الإسلام.
من هنا تحاول الصين إضعاف الهوية الدينية للتركستانيين بالتضييق على الممارسات والشعائر الدينية وفرض القيود الصارمة على التعليم الديني في تركستان، معتبرة أن المبادئ الإسلامية أساس الإرهاب وتدعم الاتجاهات الانفصالية لدى الأويغور؛ متناسية أن الظلم والتضييق ومحاولة محو الهوية الدينية ونظرتهم الدونية للآخر هي الدافع الأساسي للكراهية والتباعد (( وطن لا يحميني لا أنتمي إليه)) أي وطن لا يحمي حريتي، هويتي الدينية والثقافية ويضيق على ممارسة شعائري الدينية ولا يؤمن حاجاتي الأساسية كالطعام والملبس والمسكن والعمل بل يضطهدني ويسجنني ويستنزف مواردي وأعيش تحت إدارته في كبت وفقر وجهل ومرض، فما الذي يدفعني للاستمرار معه .؟ فهل يمكن للإدارة الصينية أن تفهم ما يحدث في إقليم شينجيانج أو تركستان الشرقية !؟
ويمكن أن نلاحظ أن المسألة الدينية لا تمثل مشكلة لدى الهان العرق الأساسي صاحب الأغلبية في الصين وإنما تكمن المشكلة في مناطق تمركز وتواجد الأقليات العرقية. حيث إن أغلب الشعب الصيني لا يهتم بالدين، ولا يزيد أتباع الأديان كافة بما فيها الأديان السماوية والعقائد الموضوعة كالبوذية والكونفوشيوسية والطاوية على مائة مليون شخص من إجمالي تعداد الصين البالغ نحو(1,394) مليار نسمة حسب التقديرات الصينية فى 2018م.
كانت المدارس المسجدية في الصين بصفة عامة هي أساس التعليم الديني بها وفي تركستان أيضا، وتقوم تلك المدارس بتعليم أبناء المسلمين القرآن الكريم وعلوم الدين الإسلامي كالفقه والتوحيد ، وكذلك اللغة العربية وتاريخ الإسلام ، وكانت تقتصر على تلك العلوم ولا مجال للعلوم الأخرى إلى أن تم تطويرها لتُدَرس بها العلوم الأخرى كالجغرافيا والاجتماع والرياضيات .
في تركستان الشرقية كانت المساجد والمدارس الدينية التقليدية والمعاهد تقوم بتعليم الطلاب وكانت منتشرة في أنحاء تركستان ولها أوقاف كبيرة منذ عهد الدولة القراخانية قدرت بنحو 20% من الأراضى الزراعية. وقد كانت الكتاتيب والمدارس الملحقة بالمساجد الكبيرة من أهم وسائل التعليم الدينى ، وأصبحت ساحات التعليم جزءا لايتجزء من التصميم المعمارى للمساجد حيث تلحق قاعتان للتعليم الدينى بكل مسجد ، وكان التعليم فى المساجد يتم على مرحلتين :
الأولى : للأطفال المبتدئين ومدتها 3 أو 4 سنوات وفيها يتعلمون اللغة العربية قراءة وكتابة، والقرآن الكريم، ويتعلمون الصلاة وبعض الأحكام الدينية الأساسية .
الثانية : ومدتها 6 أو 7 سنوات وفيا يدرس الطلاب اللغة العربية والفارسية ، والبلاغة والفلسفة ؛ وثلاث عشرة مادة دينية منها القرآن لكريم وتفسيره ، علوم الحديث ، الفقه ، العقيدة ، المذاهب الإسلامية . وبعد تخرج الطالب يصبح مؤهلا للإمامة وممارسة مهنة التعليم الدينى للطلاب . بعد احتلال الصين لتركستان الشرقية عام 1760 استمر تعليم الدين والعلوم الشرعية فى المساجد والمدارس الأهلية ولم تتعرض سلطات الاحتلال الصينى للشئون الدينية فى التعليم أو القضاء الشرعى بين التركستانيين فى حياتهم العملية .
عقب نجاح الصين عام 1878 فى القضاء دولة تركستان الشرقية التى استقلت تحت قيادة ( يعقوب بك ) أبقت الصين الكتاتيب والمدارس والمعاهد الدينية ، وأيضا المحاكم الشرعية والقضاة والمفتين كما كان الوضع فى العهود الإسلامية السابقة لاكتساب رضا الشعب التركستانى ، غير أن المحاكم الصينية كان بإمكانها رفض أحكام المحاكم الشرعية باعتبارها مؤسسات أهلية .
استمر ذلك الوضع إلى ما بعد سيطرة الشيوعيين على الحكم في الصين عام 1949، ثم قامت سلطات الحكم الشيوعى الصينى بمنع التعليم الدينى وإغلاق كافة المدارس الدينية ، وإحراق آلاف الكتب الدينية والمصاحف ونشر الإلحاد فى أوساط الطلاب وسائر قطاعات الشعب التركستانى .
وقد شهدت فترة الثورة الثقافية في الصين ( 1966- 1976 ) التي دشنها(ماو) في 16/5/1966 ببيانه المنشور الداعي إلى تحطيم الأشياء الأربعة القديمة ( التقاليد – العادات – الأفكار – الثقافة) هجمة شديدة على كافة المظاهر الدينية والتعليم الدينى . ورغم افتتاح الصين عام 1955 للمعهد الإسلامى الصينى ببكين لتدريس العلوم الدينية والقرآن الكريم وتخريج الأئمة والمدرسين لسائر مقاطات الصين ومدة الدراسة فيه أربع سنوات ، فقد أغلق المعهد الإسلامي ، كما أغلقت جميع المدارس المسجدية في عموم الصين . وتم توجيه التعليم بعيداً عن الدين في عموم الصين ولم يتبق أي نوع من أنواع التعليم الديني إلا القليل من عمليات التدريس الفردية لمجموعات من الطلبة وتتم بصورة شديدة السرية خوفا من المنع والعقاب الشديد لمن يقوم بذلك.
بانتهاء فترة الثورة الثقافية حدثت انفراجة إلى حد ما في الحريات الدينية في الصين وبدأت فترة الانفتاح في الصين ، وأعيد افتتاح المعهد الاسلامي الصينى عام 1982
لكن الصين أحكمت قبضتها تماما على عملية التعليم الديني في تركستان الشرقية ، كما وجهت الدراسة الدينية الرسمية المسموح بها إلى المنحنى الذي يخدم توجهات السلطة الشيوعية الصينية ، حيث تمنع اللوائح تدريس أي نص ديني دون موافقة حكومية مسبقة عليه ، واقتصر التعليم والدراسة الدينية في تركستان على المدارس والجمعيات التي تنشئها وتصرح بها الإدارة الصينية ؛ إذ تؤكد المادة الثانية من قانون التعليم على أن الدولة تفصل بين التعليم والدين ولا يمكن لأى منظمة أو شخص أن يستخدم الدين لعمل أية أنشطة دينية تتعارض مع النظام التعليمى للدولة . ولذا لا يوجد أى نوع من التعليم الدينى الإسلامى فى المدارس الرسمية للتعليم
العام فى تركستان الشرقية .
وينحصر التعليم الدينى الرسمى فى المعاهد التى تشرف عليها الدولة ولا يلتحق بها
إلا من تجاوز ثمانية عشر عاما من الذكور، بينما يمنع من هو أقل سنا من ذلك من الذكور وكذلك الإناث بصفة عامة من تلقى التعليم الدينى أو ارتياد المساجد وملازمة العلماء .
والجمعيات الدينية الرسمية هى التى لها الحق فى إنشاء وإدارة المدارس والمعاهد الدينية لتعليم المعارف الإسلامية بما يتناسب مع الاحتياجات المطلوبة لأتباع الدين الإسلامى من وجهة النظر الصينية وبما يتناسب مع أهداف وسياسات الدولة . وتعد الجمعية الإسلامية الصينية التى تخضع لرئاسة لجنة الدولة لشئون القوميات هى المسيطرة على إدارة الشئون الدينية فى الصين وأعلى سلطة للمسلمين بها ، وتتبعها الجمعيات والمعاهد والمدارس الدينية الإسلامية التى تقام فى سائر أنحاء الصين .
فى عام 1987 أنشىء ( معهد شينجيانج للعلوم الإسلامية ) بمدينة أورومجى عاصمة تركستان ، يقبل المعهد خريجى المدارس الثانوية فى عمرما بين 18 ـ 25 سنة ومدة الدراسة به ـ والتى تتم باللغة الأويغورية والعربية ـ خمس سنوات يمنح الخريج بعدها درجة البكالوريوس فى الدراسات الدينية . وقد ساهم البنك الإسلامى للتنمية فى إنشاء المعهد وزاره عدد من السفراء العرب بالصين فى 6/8/2010 بعد نحو عام من الأحداث الدامية التى شهدتها تركستان فى 5/7/2009 .
كما يوجد بتركستان الشرقية ثمانون جمعية دينية رسمية يتبعها العديد من المدارس الدينية الابتدائية والثانوية والمعاهد الدينية ( المدارس الدينية الكبيرة ) مثل مدرسة (شنجيانج الإسلامية) فى أورومجى العاصمة التى افتتحت عام (1998) ويعدها الصينيون أكبر قاعدة للتعليم الدينى فى شمال غرب الصين ؛ ويوجد بتركستان خمس مدارس مثل تلك المدرسة فى : كاشغر افتتحت عام 1991 ، آقسو ، ولاية (قيزل سو) القرغيزية ذاتية الحكم ، محافظة (هوتشانغ) بإيلى ؛ وتهدف هذه المدارس والمعاهد إلى دعم انخراط الطلاب فى النشاطات الدينية المألوفة – طبقا للرؤية الصينية واللوائح والمناهج التى توافق الإدارة الصينية عليها – وتنمية فهم شامل لديهم حول سياسة الدولة الدينية وأهمية الحفاظ على وحدة
الوطن من أجل تحسين مستويات المعيشة لدى التركستانيين ومواجهة رؤى التيارات الداعية لانفصال تركستان الشرقية عن الصين . ويلاحظ أن هذه المفاهيم أساسية فى مناهج الدراسة فى المدارس والمعاهد الدينية ، ويجب أن تغرس فى عقول الطلاب ، كما يجب أن يجتاز من ينهى دراسته اختبارات الجمعية الإسلامية الصينية لكى يستطيع العمل فى الجمعيات والمدارس والمعاهد الدينية أو أئمة فى مساجد تركستان ، وذلك للتأكد من جودة قدراته وصحة توجهاته والتى يجب أن تتفق مع رؤية وسياسة الإدارة الصينية تجاه المسألة الدينية .
وقد تخرج فى هذه المؤسسات التعليمية الدينية منذ إنشائها وحتى العام 2010 نحو (1971) طالبا منهم (1530) عملوا فى وظائف دينية ، ولاتسمح السلطات الصينية للطلاب الذين حصلوا على درجات علمية من الجامعات الإسلامية الكبرى ومنارات التعليم الدينى المعترف بها عالميا كجامعة الأزهر ، وأم القرى بمكة المكرمة ، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، والجامعات الإسلامية فى تركيا ، بتولى أى مناصب ووظائف دينية إذا لم يكونوا مبعوثين رسميا من قبل الإدارة الصينية وهم قلة تخضع لقواعد صارمة .
ويعد التعليم الدينى المعتاد لدى المسلمين فى المساجد كالدروس الدينية التى تلقى
على المصلين وفصول تعليم القرآن الكريم للأطفال (الكُتاب) محظورة تماماً، وتأخذ
السلطات الشيوعية تعهدات خطية مشددة على أئمة المساجد بعدم تجميع المسلمين وتعليمهم
علوم الإسلام فى المساجد ، غير أنه يوجد فى تركستان الشرقية تعليم دينى غير رسمى يتم بطريقة سرية يقوم به العلماء فى أماكن سرية بعيدا عن أعين السلطات .
ويجب ملاحظة أن الحديث عن تسامح الحكومة الصينية تجاه عمليات التعليم الدينى والمسألة الدينية بصفة عامة فى الصين لا ينطبق على مسلمى تركستان الشرقية، ولكن ينطبق هذا التسامح إلى حد ما على مسلمى الصين (الهوى) المنتشرين فى مناطق الصين المختلفة .
وتسيطر الحكومة الصينية سيطرة مطلقة على عملية التعليم الدينى دون تدخل من
إدارة سلطات مناطق الحكم الذاتى أو سائر المقاطعات الأخرى حيث تنص المادة (82) من قانون التعليم على أن قواعد التعليم فى المدارس الدينية توضع من قبل مجلس الدولة
وحده بصفة منفردة .
كما تمنع الحكومة الصينية الطلاب التركستانيين من السفر إلى خارج البلاد لتلقى
التعليم الدينى أو غير الدينى ومعظم الطلاب الذين يدرسون حاليا فى الخارج جاءوا
من تركستان بغرض زيارة أقربائهم أو لأهداف أخرى غير التعليم ثم التحقوا بالجامعات فى الخارج على نفقتهم الخاصة ، وذلك على الرغم من أن فترة الانفتاح شهدت وجود أعداد من الطلبة التركستانيين المبعوثين رسميا للدراسة الدينية فى الأزهر من قبل الجمعية الإسلامية الصينية ، غير أنه تم التضييق على تلك النافذة للتعليم الدينى عقب نهاية فترة الانفتاح فى الصين والتى كانت آثارها محدودة فى تركستان الشرقية ولم تستمر طويلا بها حيث انتهت فى أواخر الثمانينات من القرن الماضى .وحاليا بلغ التضييق على التعليم الدينى ذروته واستدعت السلطات الصينية منذ عام 2017 م كافة الطلبة الذين يدرسون العلوم الدينية في الخارج في مختلف بلدان العالم كمصر وتركيا واليابان مهددة إياهم بالحبس واعتقال وإيذاء الأهل في الوطن حال عدم العودة، واضطر البعض للعودة ليواجه مصيرا غير معلوم، واعتقلت ورحلت بعض الأنظمة الكثير من الطلبة الذين يدرسون على أراضيها كما حدث لطلبة الأزهر في مصر في 4/7/2017.
ويبقى التعليم العام والدينى فى تركستان الشرقية مقيدا بشدة من قبل السلطات الشيوعية الصينية، فى محاولة منها لإضعاف هوية الشعب التركستانى القومية والدينية، وتنسى الصين أن الشعوب التى اكتمل تكوينها الحضارى والدينى لاتتنازل عن هويتها. يفكر قادة الصين كثيرا فى كيفية تغيير الآخر فلماذ لاتفكرون قليلا فى تغيير أنفسكم أليس من الممكن أن يكون لديكم شيىء ما خطأ ؟ ولماذا لاتحاولون فهم الآخر الذى تحاولون سحقه .؟
(المصدر: تركستان تايمز)