سقوط الكمالية.. ونجاح الأحزاب الإسلامية التركية!
بقلم يونس حسين علي
بعد إلغاء مصطفى كمال الخلافة العثمانية عام ١٩٢٤م، بموجب معاهدة لوزان وإعلان جمهورية تركيا والتي أصبح رئيسها ذاك القائد الذي كتب اسمه وتاريخه في صفحتين من التاريخ، صفحة بيضاء يتبرك بها الكماليون والقوميون الأتراك، وصفحة سوداء في مزبلة التاريخ التي يلعن بها الإسلاميون الأتراك والذين يرون أن مصطفى كمال هو من جعل تركيا دولة علمانية وأبعد الجيل الجديد عن الإسلام كليا. ومن هنا نرجع الى التاريخ. أثناء مرحلة الحزب الواحد في تركيا ١٩٢٣-١٩٤٦ أي مرحلة “الحزب الشعب الجمهوري” الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك، والذي لم يسمح لأي حزب آخر لممارسة دورهم نحو السياسة.
طيلة هذه المدة كانت هناك تغيرات جذرية في السياسة التركية والقوانين وقطيعة مع الماضي العثماني. وقد تمت في تلك المدة تغيير معظم القوانين الشرعية وحظر بعض الأمور مثل المدارس الدينية والأذان باللغة العربية وحظر الحجاب للمسلمات في المدارس والجامعات والأماكن العامة. كل هذه جاءت من قبل كمال أتاتورك والذي يسعى أن يقرب الأتراك من الغرب بدلا عن الإسلام. مع الأسف الشديد كل هذه الضغوطات قد أصبح مقبولا من قبل الشعب التركي الذي يستوطن في المدن الكبرى والذين لم يجدوا خيارا آخر غير القبول، ومع قبولهم هذا لا يعتبر تركهم عن الإسلام بتاتا! إلا أن الذين كانوا يعيشون في الأرياف والقرى لم يجدوا مثل تلك الضغوطات، حتى أصبحوا من بعد عونا وسندا للجماعات الإسلامية في البلد. وفي بداية الخمسينات دخلت تركيا مرحلة جديدة وهي المرحلة “تعدد الأحزاب”.
وكانت في بداية خمسينات القرن الماضي بداية جديدة للسياسة التركية حيث وصل حزب آخر إلى الحكم وهو الحزب الديمقراطي الذي فاز بأغلبية ساحقة بزعامة عدنان مندريس الذي أصبح رئيسا للوزراء وجلال بايار الذي انتخبه رئيسا للحكومة. إن الانتخابات في عام ١٩٥٠م، كانت نقطة تحول السياسة التركية، إذ أن الحزب الديمقراطي قد بدأ يهتم بالإسلام الذي يمكن أن أصفه بعبارة ربما لا تليق به “كان في صندوق الكماليين”. إلا أن الرئيس الوزراء مندريس رغم أنه لم يعرف نفسه إسلاميا جعل مهمته الأولى إعادة الشعائر الدينية والإسلامية في تركيا، إذ نجح في عام ١٩٥٤م، بإعادة فتح المدارس الدينية.
لم تنشأ الحركات الإسلامية التركية في الوهلة الأولى بل حصلوا امتيازات بفضل مندريس الذي أعاد الهوية الإسلامية بعد مدة طويلة تحت ويلات الكماليين |
وفي خطاب له بمدينة قونية في عام ١٩٥٤م، أعلن مندريس أن تركيا مسلمة وستبقى مسلمة. هذا الخطاب زلزل العسكر التركي الذي هو المنقذ الأول للمبادئ الأتاتوركية الست. وفي الأخير أدت إجراءات مندريس إلى انقلاب عسكري الذي كلف إعدامه. ولكن الانقلاب لم يجد حلا تجاه نشاطات الحركات الإسلامية أو أحزاب لها خلفية إسلامية في داخل مؤسسات الحكومة. لأن رسالة مندريس في السلطة لها نتيجتين هامتين وهي:
الأولى: أنها وسعت الديمقراطية وتمكين المشاركة السياسية أمام الجماعات الدينية والتي كانت مستبعدة عن المجال السياسية.
الثاني: أنها منحت الجماعات الدينية مساحات سياسية للعودة إلى الظهور والشروع في تنظيم نفسها سياسيا.
لم تسقط الكمالية في آن واحد إنما مرت بمراحل متعددة. منذ أن أصبح عدنان مندريس رئيسا للوزراء في بداية الخمسينات كانت نقطة مهمة لتحول السياسة التركية. لم تنشأ الحركات الإسلامية التركية في الوهلة الأولى بل حصلوا امتيازات بفضل مندريس الذي أعاد الهوية الإسلامية بعد مدة طويلة تحت ويلات الكماليين. وفي بداية السبعينات قد تم تأسيس حزب الوطني الذي كان يتزعمه نجم الدين أربكان، وكان مبادئ الحزب قائم على الإسلامية، لذلك لم يعمر طويلا، بل تم إغلاقه بعد تدخل الجانب العسكري مبررا إياه بأن الحزب ضد العلمانية الكمالية. كان هناك فكرتين متضاربتين وهـما: رأى الكماليون أن مبادئ الأتاتوركية ألست أهم مقدسات الدولة، فمن الواجب أن يستبعد الدين عن السياسة التركية، ويؤمنون القومية التركية فقط لا الدين الاسلامي.
أما مؤسسو الأحزاب الإسلامية يرون أن المحاولة الكمالية لاستبدال تركيا من النموذج العثماني الإسلامي إلى النموذج الغربي على أنها خطأ تاريخي ومنشأ جميع متاعب المجتمع التركي. كانت غايتهم بناء نظام إسلامي، وقد رأوا أيضا أن مستقبل تركيا مرتبط مع العالم الإسلامي، ليس مع العالم الغربي. ولكن هذه الفكرة لم يأخذها جميع الأحزاب الإسلامية التركية التي جاءت إلى سدة الحكم بعد، لأن مستقبل تركيا مرتبط مع العالمين الغربي والإسلامي.
إن سيطرة العسكر على مقاليد الحكم التركي لم يحقق الأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي في البلد مما أجبر عليه إعطاء السلطة للمدنيين لينتخبوا حكومة مدنية تستطيع إعادة الأمن والاستقرار في البلد. وهذه كانت فرصة للإسلاميين بدخول المجال السياسي مرة أخرى، ولأن أربكان لم يستطع تأسيس حزب جديد لأنه كان محظورا لممارسة السياسة. ولكنه نجح في اتصال بعض كوادر الحزب الوطني المنحل للعودة إلى العمل الحزبي. لذا تقدم أحد رجال الأعمال لغرض تأسيس حزب جديد الذي أطلق عليه فيما بعد حزب السلامة. رأى أربكان بحنكته السياسية أنه من الأفضل أن يتجنب باستلام قيادة الحزب بصورة رسمية في تلك المرحلة متفاديا بالاصطدام مع الجيش.
وبعد نجاح حزب الرفاه للانتخابات البرلمانية في عام ١٩٩٦م، كان نصرا عظيما للحركة الإسلامية في تركيا رغم أن الحزب لم يحصل على الأصوات الكافية التي تؤهله إلى تشكيل الحكومة وحده. أما من جانب العسكر لم ينسى حساباته في مثل هذه المراحل. إذ أن له تجربة الانقلاب أو وضع الضغوطات على الحكومات المدنية والتي لا تعطي اهتمامات لمبادئ الأتاتوركية.
حزب العدالة والتنمية لم يعرف نفسه على أنه حزب إسلامي في وهلته الأولى رغم أنه حزب إسلامي وذلك خوفا على أن لا تتكرر اللعبة العسكرية المعروفة ضد الإسلاميين مرة أخرى
إن التجارب السياسية التركية تؤكد أن الحكومات الائتلافية لم تحقق الأمن والاستقرار الاقتصادي في البلد، مما أدى مرة أخرى استقالة أربكان عن منصبه بعدما تدخل العسكر وضغط على أربكان التنحي عن رئاسة الوزراء وحظر حزب الرفاه والذي أدين إليه على أنه ضد المبادئ الكمالية. إن الصراع بين الكماليين والإسلاميين في تركيا لم تتوقف، كلا الطرفين لعبا دورا في السياسة التركية منذ الستينات القرن الماضي، إلا أن الفاصل الرئيسي بينهما قد تم في تأسيس حزب العدالة والتنمية في ٢٠٠٠. إن الأحزاب الإسلامية التركية قد أخذوا دروسا عن ماضيهم لذلك نجحت أجندتهم الإسلامية في قلب العلمانية المتشددة. إن نجاح حزب العدالة والتنمية بزعامة طيب أردوغان لم يأت بجهد حزب واحد إنما يعود إلى صراع أحزاب لها خلفية إسلامية دام أكثر من ثلاثة عقود.
إن وصول حزب العدالة والتنمية ذي خلفية إسلامية إلى سدة الحكم في تركيا لم يكن أمر يسير، بعد فوزه بأغلبية ساحقة في الانتخابات الأولى قد شكلت غيبوبة على الكماليين، ولكن هذه المرة لم يستطيعوا فعل أي شيء تجاه الحزب. ومما يتصف به الحزب العدالة والتنمية عدم الوقوع في بعض الأخطاء التي وقع بها الأحزاب الإسلامية الأخرى. ان حزب العدالة والتنمية أخذ العبر والدروس عن ماضي الأحزاب الإسلامية والتي تم إغلاقهم او تم حظر من شخصياتهم الممارسة في النشاط السياسي. إن طيب أردوغان لم يقطع العلاقات التركية مع الدول الغربية بل قدم عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي.
إن حزب العدالة والتنمية لم يعرف نفسه على أنه حزب إسلامي في وهلته الأولى رغم أنه حزب إسلامي وذلك خوفا على أن لا تتكرر اللعبة العسكرية المعروفة ضد الإسلاميين مرة أخرى. إن التقدم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي حققه حزب العدالة والتنمية قد أدى إلى ضم كثيرا من السياسيين وذوي الوجهاء إلى الحزب مما ساعده الحزب تشكيل الحكومة لوحدها. رغم أن الحزب لم يعرف نفسه لحد على أنه حزب إسلامي إلا أنه حزب يقوم أكثر مما يتصوره الشخص من أنه حزب إسلامي فقط.
من هنا أتذكر الانقلاب الفاشل في ٢٠١٦، والذي أصفه على أنه أخر محاولة لتدخل الكماليين في السياسة التركية وأيضا سقوط العلمانية المتشددة، وأن تصويت الشعب لصالح النظام الرئاسي قد أعطتنا رسالة واضحة وهي سقوط العلمانية في تركيا ونجاح الإسلاميين رغم أن ثمة اختلاف الأفكار بين الأحزاب الإسلامية السابقة وحزب الحاكم عن بعض القضايا، إلا أن الصبر والعزيمة لدى الأحزاب الاسلاميين الاتراك كان سبب نجاحهم ووصولهم إلى سدة الحكم. أما عن جانب العلمانية الكمالية قد فشلت في تحقيق أهدافها والتي هي قطع تركيا عن نهجها وثقافتها الإسلامي إلى النهج الغربي والذي لم يقدم إلى الشعب سوى التخلف والانهيار. إن تنصيب طيب أردوغان كأول رئيس في النظام الجديد هي خطوة جديدة قد تجعله تركيا أقوى من سابقها اقتصادي سياسيا وعسكريا، كما أنه يقوي علاقات التركية مع أوروبا وأمريكا، لأن تركيا الأن أقوى من تركيا الكمالية لذلك فلن يستغنى الغرب عن تركيا اقتصاديا وعسكريا.
(المصدر: مدونات الجزيرة)