المفاهيم المؤسسة لآداب ما بعد الاستعمار
بقلم د. مصطفى عطية جمعة
يشكّل أدب ما بعد الاستعمار Post Colonialism وجها من أوجه رصد الفترة التاريخية التي أعقبت جلاء الاحتلال الغربي، فهناك بلا شك وجوه أخرى مرتبطة بهذه الحقبة، وتعبر عنها في السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع والدراسات الأنثروبولوجية والثقافية واللغوية. فالاصطلاح الأدبي جزء من كل، ولن يفهم إلا في هذا الإطار الواسع. ويتقاطع في أدب ما بعد الاستعمار مفهومان أساسيان، تفسر طبيعته، وما فيه من محددات محرّكة لها، فلكل نظرية مصطلحاتها ومقولاتها ومفاهيمها الممثلة لأطر عملها، وسبلا لفهم مرجعيتها وبنيتها. وهي تشكل أسسا فاعلة للاشتغال على استراتيجية النظرية، والإبحار في جنباتها بهدف استيعاب ديناميتها. وهي بالمناسبة مصطلحات فكرية، تنتصر لما هو إنساني، وترفض العنصري. والمفهوم الأول هو ” مفهوم الهيمنة ” وكان أول من استخدمه فلسفيا الفيلسوف الإيطالي ” أنطونيو غرامشي “، وفسّره بأنه محاولة ناجعة لتفسير قدرة السلطة الدائمة على تشكيل مفهوم الذاتي، والقيم، والأنظمة السياسية، وشخصيات الشعب ككل، حتى بعد فترة طويلة من زوال المصدر الخارجي لتلك السلطة. فالهيمنة مبنية – في العالم الغربي الغازي لبلدان ما وراء البحار -على القوامة الثقافية والعلمية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية، والمنتمي إلى بلدان الجنوب ليس بحاجة إلى تبادل الكلام مع الغربي لإدراك هذا الأمر، فهو يشعر به، ويقرأ تعابيره في صوت وحركات تعاطي الغربي معه، حيث يشعر أنه أمام آخر مختلف، بل أمام كتلة بشرية أخرى، في بنيتها ونظامها ونمط تفكيرها وثقافتها. فلاشك أن المستعمر الغربي مارس – ولا يزال يمارس – ازدواجية بين ما يدعيه من قيم وأخلاق وفلسفات، وبين سلوكياته وأفعاله إما في حقبة الاستعمار أو ما بعدها وإلى يومنا، وهو ما أصبح معروفاً في أيامنا هذه عبر سياسة ” الكيل بمكيالين “، والتي تظهر في الشعارات الغربية لدى حُضور شخصيّة المستعمِر الغربيّ، الذي يدّعي الإنسانية لكي يمارس التأله والتميز والطغيان والإلغاء، والذي قد يشجب أعمال العنف التي يقوم بها الطرف المقاوِم، في وقت يفاجئنا فيه هو بأقسى وأبشع أشكال العنف، فما يستبعده المستعمِر أو ينفيه على وجه، إنما يُحضَّر ويُعقَّل بوجه آخر، أو على صعيد مغاير، فيفاجئنا بالاستبداد من وراء عشق الحرية، أو يدعو إلى المساواة فيما لا يقدر إلا على تقديم التفاضل والتمايز. وهذا شأن السلوك المنافق لمن يدعو إلى الحرية، في وقت يمارس فيه على البشر وصايته النخبوية لكي يستبد بهم بوصفه أولى منهم بأنفسهم. ويقابل مفهومَ الهيمنة المفهومُ الثاني وهو ” التهجين Hybridation/ Hybridization ” والمستمد من حقل علم الوراثة، ويعني الاختلاط بين جنس وآخر، ولكن دلالته تحورت في دراسات ما بعد الكولونيالية إلى عملية اختلاط الثقافات وتمازجها من تفكيك المركزية الأوروبية، وتجاوز الفكر والذات الاستعلائية. ومن الملاحظ أن أكثر المنتمين إلى نظرية ما بعد الاستعمارية هم من غير الأوروبيين: من مثقفي دول العالم الثالث من آسيا وأفريقيا الذين عاشوا في الغرب، وتعلموا في جامعاته، وكثيرون استمروا ولا يزالون في المجتمع الغربي ولم يعودوا إلى بلادهم، فهم يمثلون وضعية المهاجر المهمش المنفي صاحب القلم والصوت، وهم إلى ذلك يمثلون المستعمر الغربي ولا يمثلونه، يحملون جينه الوراثي ويكتبون باسمه، لكنهم لا يعيشون الآن معه، فهم يعملون على تفكيك خطاب المستعمِر، ولكنهم يتوجهون بخطاب الإدانة إليه، فهو في منظورهم الكيان الحر المثقف وفي نفس الوقت المستعمر المستبد. إن التهجين يعني تلاقيا ومزجا وتوالدا، وهذا حادث بالفعل، من الأدباء والمثقفين الذين يعيشون في الغرب، ويبدعون بلغته، ووفق أشكاله الأدبية ومناهجه المعرفية، وفي أطر مؤسساته التعليمية، بل ضمن نطاق أخلاقيات فلسفته عن الإنسان والعالم وحقوق الإنسان الفرد، وحقوق الشعوب والثقافات الجمعية. وتظل حمولة المصطلح والممارسة المصاحبة له تشي بأن المراجعة النقدية لمنظومة الحضارة الغربية تتم وفق البنية المعرفية الغربية. وهذا يجعلنا نقرّ أن المنظومة الغربية رغم كل الملاحظات المسجلة ضدها على مستوى حقوق الإنسان والنفعية وأخلاقيات المستعمرين البشعة، إلا أنها تمتلك دائما بنية فكرية تتيح لها المراجعة والاستدراك والنقد، وتعترف بالممارسات على المستوى النظري، وهذا عائد إلى منظومة الحريات الفكرية والأكاديمية والحياتية، التي تجعل مثل هؤلاء ينتقدون السلطات السياسية الحاكمة، ويراجعون جرائم الاستعمار، بدون ضرر يقع عليهم. وإذا نظرنا مثلا إلى مبدعي الآداب السردية الغربية في الواقع المعاصر نلاحظ هيمنة روائيين كبار ينتمون إلى ثقافات ليست غربية، وقد حملوا معهم مرجعياتهم الثقافية المحلية، وكتبوا عن موضوعات إشكالية تتصل بالعلاقة مع الغرب، والاستعمار، والتأويلات الدينية، والهوية، وإعادة تفسير التاريخ وذكر الروايات المعكوسة للرواية الغربية، وحركات التحرير والمقاومة، وقضايا حقوق المرأة. فمن البلدان التي يشملها مفاهيم الاستشراق: البلدان الإفريقية جنوب الصحراء الكبرى، وفي منطقة القرن الإفريقي، التي قدُمت للعالم على أنها بلاد الغابات والهمجيين ذوي البشرة السوداء، الذين يحيون مع حيوانات الغابة، ولديهم ثروات هائلة، لا يعرفون سبيلا لاستثمارها، وفي حاجة إلى الإنسان الأبيض الغربي، كي يأخذ بأيديهم نحو التقدم والحضارة. لقد تمزقت هذه البلدان والشعوب كمستعمرات بين الدول الغربية (فرنسا، إنجلترا، بلجيكا، إيطاليا، الولايات المتحدة )، وتحددت حدودها، بالحدود التي وضعها المستعمر وهو يقتسم المستعمرات فيما بينه، وعندما جلا عنها، بقيت حدود المستعمر، وتمزقت الأعراق وتشتتت الأنساق الثقافية والدينية، وللأسف ظلت هذه البلدان تنظر للمستعمر باستلاب حضاري، ترى فيه النموذج المحتذى. إن مشكلة النظرية المركزية الغربية تكمن في طبيعة نظرتها للثقافات الأخرى، أنها قدمت ما أسمته حقائق عن واقع جغرافي وثقافي للشعوب الأخرى المتأخرة، بوصفها دراسات وأبحاث من الجامعات ومراكز البحث العلمي الغربية، فأحيطت بهالة علمية كبيرة، مما أدي إلى إرساء تقاليد وخطابات ومعلومات تضاد الواقع، وتقدمه في صورة مزيفة، ترضي غرور الغرب، وتجعل الشرق مستباحا أمامه، بل ساحة مشروعة لمخططاته في استغلال ثرواته. أما العقل العربي المسلم المعاصر فقد انشغل بالحروب العربية البينية والمصائب التي ترتبت عليها، وتغافل عمَن تسبب فيها، ورسم الخرائط التي أشعلتها. وبعبارة أخرى: تناسى العقل العربي المعاصر ما فعله الاستعمار والغرب، وانشغل بأزماته ومشكلاته الداخلية، التي إن تأمل فيها سيجد أن كثيرا منها نتيجة التركة الاستعمارية البغيضة، التي زادت الشعوب فقرا، أما الإبداعات العربية التي تناولت أدب ما بعد الاستعمار فهي قليلة، على الرغم من أنها تتصل بحقبة من تاريخنا الحديث، مسكوت عنها برغم كثرة المؤلفات والمراجع التي وثقتها، وهي الحقبة الاستعمارية بكل ما تم فيها من نهب للثروات، وإفقار، وقتل وتشريد.
(المصدر: طريق الإسلام)