مقالاتمقالات مختارة

من هو العلاّمة فؤاد سزكين؟

من هو العلاّمة فؤاد سزكين؟

بقلم د. زهير سوكاح

 

انتقل إلى رحمة الله فجر يوم السبت الماضي المؤرخ البروفيسور فؤاد سزكين عن عمر يناهز 94 سنة بعد أن أمضى عمره في خدمة التراث العلمي العربي-الإسلامي بعزيمة حديدية ونكران عجيب للذات إلى آخر رمق من حياته المديدة بغية إعادة الاعتبار للمنجزات العلمية للحضارة العربية-الإسلامية التي طواها النسيان، فمن هو هذا الرجل العصامي، الذي صلّى عليه في جنازته رجالات الدولة في تركيا، وحمل نعشه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومعه بن علي يلدريم؟

ولد فؤاد سزكين سنة 1924 في مدينة بيتليس الصغيرة في الأناضول، ثم انتقل في مرحلة الشباب إلى اسطنبول حيث دَرَسَ في جامعتها في قسم الدراسات الشرقية، وتعلم العربية في ستة أشهر بإيعاز من أستاذه المستشرق الألماني “ريتر” حتى صار يتكلم بها بطلاقة، وفي سنة 1951 حصل من نفس الجامعة على درجة الدكتوراه، وقد كان موضوعها عن صحيح البخاري.

وقد اشتغل فؤاد سزكين بالتدريس في جامعة اسطنبول لسنوات قبل أن يتم حرمانه من التدريس فيها سنة 1960، وهي سنة أول انقلاب عسكري في تركيا الحديثة على أول رئيس وزراء تركي منتخب ديمقراطياً، وهو المرحوم عدنان مندريس، الذي أُعدمه الانقلابيون سنة 1961، مما جعل فؤاد سزكين، الذي كان مساندا لمندريس، إلى مغادرة وطنه صوب ألمانيا وتحديدا نحو جامعة غوته بفرانكفورت، حيث اشتغل فيها كأستاذ زائر، وسرعان ما حصل فيها سنة 1965 على درجة الأستاذية عن أبحاثه الرائدة التي أرّخ فيها لتطور العلوم الطبيعية في الحضارة العربية-الإسلامية.

وظّف سزكين القيمة المادية للجوائز التي حاز عليها داخل ألمانيا وخارجها في التأسيس لمعهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في إطار جامعة غوته بفرانكفورت

انهمك سزكين بعد ذلك، وبعصامية نادرة، بالتأريخ للتراث العلمي العربي تحقيقا وتدقيقا في سبيل تجاوز نواقص الألماني بروكلمان في كتابه الببليوغرافي عن الأدب العربي، حيث أصدر سنة 1967 ، رغم المعوقات المادية التي واجهها، المجلد الأول من كتابه الموسوعي الضخم ” Geschichte des arabischen Schrifttums تاريخ التراث العربي”، وقد ضمّ المجلد الأول تأريخا لبدايات وتطور علوم القرآن والحديث والتاريخ والفقه والعقائد والتوحيد والتصوف، وما لبثت أن توالت مجلدات هذه الموسوعة لتضم أبحاثا مفصلة تؤرخ للإسهامات العربية والإسلامية في مجالات الطب والبيطرة وعلم الحيوان والكيمياء والنبات والزراعة والرياضيات واللغة والنحو والجغرافيا وعلم الخرائط وغيرها من علوم الحضارة العربية الإسلامية إبان مراحل ازدهارها.

وسرعان ما تملّكت هذه الموسوعة حياة سيزكين لأزيد من نصف قرن، حيث توفي بعد مدة قصيرة من إصداره للمجلد السابع عشر من هذا العمل الموسوعي، الذي أصبح بعد كل هذه العقود الطويلة من العمل الدؤوب مرجعا معتمدا على المستوى العالمي، حيث كان سببا في شهرة سيزكين العلمية بسبب كشفه عن كنوز دفينة من التراث العلمي العربي-الإسلامي، التي كانت محط تقدير عالمي، فقد كان سزكين أول من حاز على جائزة الملك فيصل في الدّراسات الإسلاميّة عام 1979.

وظّف سزكين القيمة المادية لتلك الجائزة وغيرها من الجوائز والتقديرات التي حصل عليها داخل ألمانيا وخارجها في التأسيس لمعهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في إطار جامعة غوته بفرانكفورت سنة 1982 بتعاون مع جهات إسلامية وعربية، ليكون أول مدير له، حيث سعى عبره إلى التعريف بشكل علمي بالعلوم العربية والإسلامية، وقد راكم هذا المعهد بعد أزيد من 35 سنة على تأسيسه، حصادا معرفيا ضخما رغم تواضع امكانياته المادية، حيث نشر ما يزيد عن ألف اصدار علمي، غالبا باللغة الألمانية، قدمت كلها صورة واضحة لا لُبس فيها عن الإنجازات العلمية للعرب والمسلمين في مجالات علمية متنوعة مثل علوم اللغة والآداب والفلسفة والرياضيات والفلك والصناعات والطب والفيزياء والكمياء والزراعة، بل حتى في علم الأرصاد الجوية.

إلى جانب هذا، تضم بناية المعهد مكتبة متخصصة وفريدة من نوعها، هذا بالإضافة إلى متحف آلات العلوم الإسلامية، الذي يضم المئات من المجسمات، وصفها العلماء المسلمون في كتبهم، وتمكّن سزكين، بمساعدة مهندسين من دول مختلفة، من تصنيعها لأول مرة.

وأتذكر أنني في سنة 2006 قد راسلت المعهد للاستفسار عن وجود ترجمة عربية لكتاب هام جدا لفؤاد سزكين من خمس مجلدات بعنوان Wissenschaft und Technik im Islam ، كان قد صدر سنة 2003 ، فجاءني الجواب سريعا من المعهد، أن الترجمات المُنجزة للكتاب هي بالإنجليزية والفرنسية والتركية، بينما كانت آنذاك الترجمة العربية لا تزال في بدايتها، وبعد اثني عشر سنة لم تصدر إلا ترجمة عربية يتيمة للمجلد الأول فقط، وذلك سنة 2007 بعنوان “العلوم والتقنية في العالم الإسلامي”، ووحده الله تعالى من يعلم متى ستصدر ترجمة المجلدات الأربعة المتبقية.

حياة علمية ثرية نذر فيها سزكين نفسه لخدمة تراث العلوم العربية-الإسلامية، الذي نالت منها معظم الكتابات الاستشراقية، واستحق بهذا أن تُصان ذكراه في الذاكرة الحضارية للعرب والمسلمين

أيضا الجهات العربية المعنية لم تترجم إلا نزرا يسيرا من إصدارات المعهد، حيث قامت كل من جامعتي الإمام محمد بن سعود الإسلامية وجامعة الملك سعود قبل عقود بترجمة المجلدات الأولى من كتاب سزكين “تاريخ التراث العربي” قبل أن تتوقف على ما يبدو عن إتمام ترجمة هذه الموسوعة، التي أشار سزكين في أحد مجلداتها بالأدلة، بأن المسلمين هم أول من رسم خريطة شبة الجزيرة الأمريكية في القرن الخامس عشر. وهو أمر أعاد تأكيده في حوار له مع عرفان يلماز صاحب كتاب مهم عن سزكين، ظهرت ترجمته العربية قبل أربع سنوات بعنوان “مكتشف الكنز المفقود فؤاد سزكين”.

هي إذن حياة علمية ثرية نذر فيها سزكين نفسه لخدمة تراث العلوم العربية-الإسلامية، الذي نالت منها معظم الكتابات الاستشراقية، واستحق بهذا أن تُصان ذكراه في الذاكرة الحضارية للعرب والمسلمين، وقد وعد الرئيس التركي بجعل سنة 2019، “سنة فؤاد سزكين” بتركيا. وكم أتمنى أن تعاد تسمية معهده في فرانكفورت باسمه، وهو الذي أفنى فيه عمره وجهده، كما أتمنى أيضا إطلاق اسمه على “متحف إسطنبول لتاريخ العلم والتقنية في الإسلام”، الذي أسسه أيضا سزكين بنفسه قبل عشر سنوات.

أما عربيا فما أحوجنا للاطلاع على انتاجاته الفذة بلغتنا العربية، وهنا أدعو مجددا، كما دعوت إلى ذلك في مقال سابق قبل سنوات، إلى ضرورة اكمال ترجمة الأجزاء المتبقية لكل من موسوعة “تاريخ التراث العربي”، وبالأخص كتاب “العلوم والتقنية في العالم الإسلامي”، وهذا، في رأيي، أضعف الإيمان، وأحسن الله جزاء هذا المستكشف الفذ للتراث العلمي للحضارة العربي-الإسلامية، العلاّمة فؤاد سزكين، رحمه الله.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى