مقالاتمقالات مختارة

حين بكى ابن أبي حاتم

بقلم وائل البتيري

ما أكثر ما تعيب الآخرين، وتطعن فيهم، وتستطيل على أعراضهم، من غير أن تكلف نفسك عناء التثبت!

سمعت أن فلاناً بدَتْ منه هفوة، فكأنما وقعت على كنز ثمين، بل يا ليتك وقعت على كنز ثمين، إذاً لتمهلت طويلاً قبل أن تنفق منه ديناراً واحداً.. أما هفوة صاحبك؛ فما أسرعك في نشرها على الملأ، وما أبذلك للجهد في سبيل بلوغها الآفاق!

حاول مرة أن تسأل نفسك: كم مرة طعنت في الآخرين واغتبتهم وأسأت إليهم خلال عام مضى؟ أو خلال شهر مضى؟ هل تستطيع تذكّرهم؟ كلا، لقد نسيت؛ لأنك تعدّه كلاماً كأي كلام تلوكه كل يوم، فالطعن والغيبة والنميمة والبهتان والسباب والقذف؛ يستوي عندك مع الكلام في البيع والشراء والطعام والوظيفة.. تجري كل ذلك على لسانك كمذياع يُصدر الأصوات بلا أحاسيس.

ثم إنك تسْخر بمن تراه دونك في العلم أو الفهم أو المكانة الاجتماعية، وتقلّل من شأنه بالغمز واللمز، وترتسم على وجهك علامات الاحتقار والتنقص، مع أنك لا تجزم بأنك خيرٌ منه عند الله تعالى، أو أنك ناجٍ من عذاب يوم القيامة، وأنه من أهل النار لا محالة.. ولا تعلم أنه يكون له عملٌ صالحٌ يزنُ كل أعمالك الخيّرة، وقد تبدر منك غفلة ثم زلة تجعلك من الهالكين!

نعم؛ قد يكون دافعك للطعن في فلان وفلان؛ حرصك على تبرئة الإسلام من أفعال مشينة تُنسب إليه، أو غيرتك على المسلمين أن ينحرفوا عن جادة الطريق.. ولكن هذا أو ذاك؛ لا ينبغي أن يُطلق لسانك في أعراض الآخرين بلا تؤدة أو تثبت، فقد تنسب إليهم ما هم منه براء، فماذا ستفعل إذاً بدعوة المظلوم التي ليس بينها وبين الله حجاب؟ وماذا ستصنع إذا قالوا لله يوم القيامة: نريد حقنا من فلان الذي افترى علينا.. وأنت الحكم العدل.

قد يكون دافعك للطعن في فلان وفلان؛ حرصك على تبرئة الإسلام من أفعال مشينة تُنسب إليه، أو غيرتك على المسلمين أن ينحرفوا عن جادة الطريق.. ولكن هذا أو ذاك؛ لا ينبغي أن يُطلق لسانك في أعراض الآخرين بلا تؤدة أو تثبت

لقد كان علماء الحديث مضطرين لبيان حال الرجال، جرحاً وتعديلاً، ليخلّصوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم مما علق فيها مما ليس منها، ولولا هذه الضرورة؛ لكان الأولى بهم أن يُمسكوا ألسنتهم عن الطعن في فلان وفلان، إلا أن تكون ثمة ضرورة أخرى توازيها أو تدانيها، وإلا فالأصل التورع عن الوقوع في الأعراض.

ولا تمنح هذه الضرورة الحق لعالم الحديث؛ بأن يبالغ في الجرح، أو يتحامل بالقول، أو يجعل من خلافه الفقهي أو السياسي مع أحد الرواة؛ مدخلاً للطعن في عدالته أو إسقاط روايته بلا دليل.

ومع أن ابن الرومي رحمه الله يقول: “ما رأيتُ أحداً قط يقول الحق في المشايخ غير يحيى بن معين (158هـ – 233هـ)، وغيرُه كان يتحامل بالقول”، إلا أن محمد بن مهرويه يقول: سمعت علي بن الحسين بن الجنيد يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: “إنا لنطعنُ على أقوامٍ لعلّهم قد حطّوا رحالهم في الجنة من أكثر من مئتي سنة”.

ثم قال ابن مهرويه: “فدخلت على ابن أبي حاتم الرازي (240 هـ – 327 هـ) وهو يقرأ على الناس كتاب الجرح والتعديل، فحدّثته بهذه الحكاية، فبكى، وارتعدت يداه، حتى سقط الكتاب من يده، وجعل يبكي ويستعيدني الحكاية”.

فاستعد أنت الحكاية، وتفكر في حالك، لعلّك ترعوي!

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى