مقالاتمقالات مختارة

علماء وأمراء.. الإمام الديروطي والسلطان الغوري

علماء وأمراء.. الإمام الديروطي والسلطان الغوري

بقلم حمدي شفيق

تكاسل قنصوه الغوري أحد سلاطين المماليك في مصر عن الجهاد، في وقت عصيب، تكالبت فيه الذئاب والضباع والثعالب على الأُمّة من كل جانب..

وأثار هذا غضب العلماء الأحرار، وجهر أحد كبارهم -في ذلك الوقت- وهو الإمام شمس الدين الديروطي الدمياطي، رحمه الله، بنقد السلطان وإنكار ضعفه وتراخيه..

وسرعان ما أخبر الجواسيس الغوري بهجوم الديروطي عليه، ونقده اللاذع له، فأمر السلطان بضبطه وإحضاره على الفور..

لكن العالم الجليل لم يخف ولم يتراجع، بل سار إلى مجلس الغوري بعِزّة وإباء وثبات المؤمنين الصادقين..

سأله الغوري أولًا: لِمَ تحط علينا -تهاجمنا وتنتقدنا- في ترك الجهاد، وليست لنا مراكب نُجاهد عليها؟!

أجاب الديروطي بشجاعة: عندك مال كثير، ويمكنك شراء المراكب والعتاد لو أردت”..

حاول السلطان ترغيبه وترهيبه، لكن العالم الجليل صاح به: يا قنصوه، هل نسيت نعم الله عليك، إذ كُنت نصرانيًّا، ووقعت في الأسر، وباعوك في سوق العبيد، وتنقّلت من يد إلى يد، ثم مَنّ الله عليك بالحُرّية، وهداك إلى الإسلام، ورَقّاك حتى صرت سلطانًا على الناس؟! عَمّا قريب يأتيك المرض الذي لا علاج له، وتموت، وتُكفّن، وتُدفن في قبر مُظلم، ويُدَسّ أنفك هذا في التراب، ثم تُبعث عريانًا جوعانًا عطشانًا، بين يدي الحَكَم العادل الذي لا يظلم مثقال ذَرّة، و يُنادى المنادى: مَن كانت له مظلمة أو حق عند الغوري فليحضر، فتحضر خلائق لا يعلم عَدّها إلا الله تعالى!

اصفرّ وجه السلطان من شِدّة موعظة الإمام ، وما لبث أن غاب عن الوعي.. وناشدت حاشيته الشيخ -رضي الله عنه- أن يكُفّ عنه، رحمة بعقله، فانصرف..

وعندما أفاق الغوري طلب الشيخ الديروطي مرّة أخرى، فجاء إلى مجلسه.. وعرض عليه السلطان عشرة آلاف دينار، لتحديث بناء برج الحامية في دمياط.

وبلا أدنى تَرَدّد، رفض الديروطي الرشوة المُقنّعة، بنزاهة وعِفّة العالم العامل، وقال للغوري: أنا رجل ذو مال -بفضل الله- ولا أحتاج إلى مساعدة من أحد، ولكن إن كُنت أنت مُحتاجًا، فأنا أُقرضك وأصبر عليك إلى أن تستطيع سداد ما تأخذ!

وإذا كان التاريخ قد سَجّل هذا الموقف للإمام الديروطي، فإنه يجب أن يُحسب أيضًا للسلطان الغُوري، الذي تقبّل النقد اللاذع، ولم يقتل الداعية ولم يعتقله، كما يفعل الطُغاة في زماننا! وانصرف الإمام العظيم، كما جاء، مَهِيبًا، مرفوع الرأس، مُطمئن النفس، لم يُصبه بطش ولا بأس.

و يُلخّص الرُواة المشهد كُلّه بعبارة وجيزة بليغة: “فما رُؤى أعزّ من الشيخ في ذلك المجلس، ولا أذلّ من السلطان فيه”!

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى