مقالاتمقالات مختارة

هل تم إخفاء الجامع الصحيح بعد وفاة البخاري؟

بقلم محمود الشيخ

يظن بعض الناس أن الجامع الصحيح لم يظهر للناس إلا بعد وفاة البخاري بستين عاماً، وهذا غير صحيح. فبعد وفاة البخاري سنة 256 هجري، اشتهر كتابه الجامع الصحيح في الآفاق، وقد اطلع عليه الكثير من العلماء كأبي عبد الرحمن النسائي المتوفى سنة 303 هجري، فقد قال الخطيب في تاريخ بغداد: “حدثني محمد بن علي الصوري قال حدثنا عبد الغني بن سعيد الحافظ، قال: أخبرنا أبو الفضل جعفر بن الفضل قال أخبرنا محمد بن موسى بن اليعقوب بن المأمون قال: سئل أبو عبد الرحمن -يعني النسائي- عن العلاء وسهيل فقال: هما خير من فليح ومع هذا فما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن اسماعيل البخاري”. انتهى.

وهذا الخبر يفيد أن النسائي قد اطلع على نسخة الجامع الصحيح للبخاري بمصر في فترة بين 269 و302 هجري ويدل على ذلك أمور:
– النسائي لم يطلع على الجامع الصحيح في حياة البخاري ولم يلتق به، كما أفاده المزي في تهذيب التهذيب، ونص عبارته: ” فهذه قرينة ظاهرة في أنه لم يلق – أي النسائي – البخاري ولم يسمع منه”. انتهى.

الجامع الصحيح انتشر صيته في الآفاق وأقبل الناس عليه في حياة البخاري وبعد وفاته ولم يتم إخفاءه على الناس لمدة ستين سنة كما يروج له البعض

– النسائي دخل مصر في حدود سنة 244 هجري، أي قبل وفاة البخاري، وبقي فيها إلى سنة 302 هجري.
– محمد بن موسى المأموني الذي ينقل الأثر عن النسائي، كان قد ولي إمارة مكة في سنة ثمان وستين ومائتين ثم دخل مصر كما أفاده ابن كثير في البداية والنهاية ونص عبارته: “محمد بن موسى بن يعقوب بن المأمون بن الرشيد هارون أبو بكر، ولي إمارة مكة في سنة ثمان وستين ومائتين، وقدم مصر فحدث بها عن علي بن عبد العزيز البغوي بموطأ مالك”. انتهى

وعليه فإن كتاب الجامع الصحيح انتشر في الآفاق مباشرة بعد وفاة البخاري بسمرقند حتى وصل مصر في حدود سنة 269 هجري. وقد كان لتلاميذ البخاري اليد الطولى في نشر هذا الكتاب كالفربري والبزدوي وحماد بن شاكر وغيرهم. فأما حماد بن شاكر المتوفى سنة 311 هجري فقد انتسخ نسخته من أصل البخاري، وكان يحدث بالصحيح منذ وفاة شيخه، فانتفع به كثيرون: منهم أَبُو سعيد النسفي وأحمد بن مُحتاج بن روح بن صديق بن بشير النسفي الصيرفي وغيرهم.

قال الذهبي في السير عند ترجمة تلميذ البخاري أبي طلحة منصور بن سوية البزدي نقلا عن جعفر المستغفري أنه قال: “فقرءوا كل الكتاب -أي الجامع الصحيح- من أصل حماد بن شاكر. وسمع منه – أي البزدي – أهل بلده، وصارت إليه الرحلة في أيامه. ثم قال المستغفري: حدثنا عنه: أحمد بن عبد العزيز المقرئ، ومحمد بن علي بن الحسين. ومات سنة تسع وعشرين وثلاث مائة. قلت: هو آخر من حدث بالصحيح عن المؤلف “. انتهى.

فهذه نسخة حماد بن شاكر المتوفى سنة 311 هجري التي انتسخها من أصل البخاري بقيت عند تلميذ البخاري البزدوي إلى سنة 329 هجري. وقد انتشر سماع الجامع الصحيح في ذلك الزمان برواية البزدي واعتمادا على نسخة حماد بن شاكر. وأما الفربري فقد سمع منه خلق كثير منهم أبو إسحاق المستملي، الذي سمع منه الصحيح سنة 314 هجري. قال سليمان بن خلف بن سعد الباجي المالكي في التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح جزء 1 صحيفة 310:” وقال الحافظ أبو إسحاق انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري”. انتهى المراد.

  

وقد تكاثرت منذ ذلك الوقت، مجالس املاء الصحيح في شتى أصقاع الأرض:

قال الحاكم في تاريخ نيسابور في معرض كلامه عن أَبي سعيد النسفي تلميذ الإمام حماد بن شاكر: “قدم نيسابور في سنة خمسين وثلاثمائة، فعقدت له مجلس الإملاء، في مسجد يحيى بن صبيح، وقرأت عليه صحيح البخاري “. انتهى. كما اطلع على الجامع الصحيح أيضا الحافظ أبو بكر الاسماعيلي (277- 370 هجري) وامتدحه. فقد قال الإمام الحافظ شرف الدين أبي الحسن علي بن المفضل بن علي المقدسي ثم الاسكندراني المالكي المتوفى سنة 611 هجري في في كتابه الأربعين المرتبة على طبقات الأربعين: “سمعت أبا طاهر أحمد بن محمد الحافظ يقول: سمعت أبا المعالي ثابت بن بندار المقرىء يقول: سمعت أبابكر الإسماعيلي في كتاب “المدخل إلى معرفة الصحيح” من تأليفه يقول: نظرت في الكتاب الجامع الذي ألفه أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، وكتب إلي بإجازة روايته لي محمد بن يوسف الفربري رواي هذا الكتاب عنه بخطه، فرأيته كتابا جامعا، كما سماه لكثير من السنن الصحيحة، ودالا على جمل من المعاني الحسنة المستنبطة التي لا يكمل لمثلها إلا من جمع مع معرفة الحديث ونقلته، والعلم بالروايات وعللها (علما) بالفقه واللغة وتمكنا منها كلها، ويتحرى فيها”. انتهى.

وهذا يدل على أن الإمام الاسماعيلي كانت له هو الآخر نسخة من الصحيح بخط الفربري. بل إن الكثير من المحدثين كانت لهم نسخ من الجامع الصحيح منذ بداية القرن الرابع الهجري. فقد قال الحافظ أبو سليمان الخطابي المتوفى سنة 388 هجري في كتابه المسمى أعلام السنن عند كلامه عن عن حديث ” إنما الأعمال بالنيات” وبيان سبب ذكره ناقصا ما نصه: ” فرجعت إلى نسخ أصحابنا فوجدتها كلها ناقصة لم يذكر فيها قوله “فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِه، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِه” وكذلك وجدته في رواية الفربري أيضا”. انتهى. وقوله أصحابنا أي أقرانه ومشائخه من المحدثين.

فيتلخص مما مضى أن الجامع الصحيح انتشر صيته في الآفاق وأقبل الناس عليه في حياة البخاري وبعد وفاته ولم يتم إخفاءه على الناس لمدة ستين سنة كما يروج له البعض.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى