الاجتهاد الفقهي وأنواعه
بقلم د. أحمد الريسوني
معلوم أن الاجتهاد هو عمل علمي فكري، يراد به استنباط الأحكام والحلول والإجابات الشرعية، لما يستشكله الناس في دينهم، ولما يستجد من قضايا ونوازل في حياتهم. وكلمة “الاجتهاد”، مأخوذة من الجهد. ولذلك يقول العلماء عادة: الاجتهاد هو بذل أقصى الجهد… لكن الجهد المبذول هنا هو جهد البحث والنظر والتدبر، وتركيب النتائج من مقدماتها، والأحكام من أدلتها.
يذكر العلماء أصنافا وأنواعا من الاجتهاد، يتبين بذكرها وتوضيحها مجالات العمل الاجتهادي. وقد تختلف شروط الاجتهاد من صنف لآخر. وفيما يلي بعض الأنواع الاجتهادية التي يمارسها العلماء.
1- الاجتهاد البياني
وهو الاجتهاد في فهم النصوص الشرعية وبيان مضامينها ومعانيها وأحكامها. ويحتاج إليه في الفهم السليم لكافة النصوص التي قد في ألفاظها ومعانيها نوع من الخفاء أو الالتباس. فيجتهد في فهمها وبيانها العارفون باللغة العربية وأصول الشريعة ومقاصدها، والعارفون بسياقات النصوص ومناسباتها … وأما المعاني الظاهرة لبعض النصوص الجلية، فهذه يفهمها كل من يفهم اللغة العربية.
2- الاجتهاد القياسي
والمراد به الاجتهاد المعتمد على القياس. أي قياس الوقائع الجديدة التي لا نص فيها، على نظائرها المساوية لها في علة الحكم. فهذا النوع من الاجتهاد ينحصر الوقائع الجديدة، لكنها مماثلة لتلك المنصوص عليها. والاجتهاد هنا يكمن في التأكد من كون الحالة غير منصوص عليها، وفي أن هناك حالة مماثلة منصوص عليها، وأن الحالتين بينهما عنصر مشترك هو علة الحكم. فإذا تأكد الفقيه من كل ما سبق، أصدر الحكم في الحالة المستجدة، بمثل ما هو عليه في الحالة المنصوصة.
3- الاجتهاد الاستصلاحي
وهذا النوع من الاجتهاد يكون في المسائل التي ليس فيها نص مباشر يتضمن حكمها، وليس لها نظير مماثل تقاس عليه. فحينئذ تكون عمدة المجتهد هي المصالح والمقاصد الشرعية، فيتحرّاها ويبني عليها، مستعينا في ذلك بالأصول والقواعد الشرعية ذات الصلة، مثل: أصل المصالح المرسلة، وأصل سد الذرائع وفتحها، وقواعد الموازنة والترجيح بين المصالح والمفاسد …
4- الاجتهاد التنزيلي
ويدخل فيه ما يعرف عند الأصوليين بتحقيق المناط؛ وهو الفحص والتأكد من مفردات الأشياء والأشخاص والتصرفات، وما إن كانت مَعْنِـيّـَة وداخلة دائرة الحكم الشرعي المراد تطبيقه عليها، أم أنها ليست كذلك.
كما يدخل فيه النظر في سلامة التنزيل وشروطه، أم أنه يؤدي إلى الإخلال بحكم شرعي آخر، أو يفضي في حالة ما إلى مضرة أو مفسدة غير مقصودة شرعا. وهنا تتدخل قاعدة اعتبار المآل، أو قاعدة “النظر فى مآلات الأفعال”، حسب تعبير الإمام الشاطبي رحمه الله.
تنوع الاجتهاد إلى اجتهاد فردي واجتهاد جماعي
فأما الاجتهاد الفردي، فهو الذي يقوم به أفراد العلماء المجتهدين. فينظر الواحد منهم في القضية ويدرسها، ويبحث عن أدلتها ودلالاتها، ويقدر ويستنبط، ثم يعرب عما توصل إليه. وقد يلجأ أثناء بحثه واجتهاده إلى الاستفسار أو التشاور مع عالم آخر أو أكثر، سواء في مجمل القضية أو في جانب منها، ولكنه في النهاية يعول على اجتهاده هو وما استقر عليه نظره. فلذلك يعد اجتهاده – حتى في هذه الحالة – اجتهادا فرديا.
والاجتهاد الفردي هو الأكثر شيوعا والأكثر إنتاجا عبر التاريخ وإلى الآن؛ وهو الذي يعرفه الناس ويلجؤون إليه. فالفقهاء الأفراد يستطيعون الاستجابة بسرعة وبيسر لما يُعرض عليهم وما يتناهى إلى علمهم، من استفسارات ونوازل ومشاكل.
فالاجتهاد الفردي يمتاز بالحيوية والمبادرة، ويتمتع صاحبه بحرية أكبر في النظر والحكم، ولكنه يبقى أكثر تعرضا للخطأ والزلل، والضعف والقصور، وغيرها من الآفات. ولذلك فهو لا يغني عن الاجتهاد الجماعي، وخاصة في زماننا هذا، بحساسياته وقضاياه المستجدة والمعقدة. ولذلك يتزايد اليوم التطلع إليه والتعويل عليه والأمل فيه والمناداة به.
الاجتهاد الجماعي: أصالته وضرورته
الاجتهاد الجماعي: هو الذي ينبثق مضمونه ويصدر عن جماعة من العلماء، بعد التشاور والتحاور في المسألة المجتهد فيها. فدخول عنصري ” الجماعة، والتحاور” في الجهد الاجتهادي، وفي الموافقة على نتيجته، هو الذي يعطي الاجتهاد صفة “الجماعي”. فلو اتفق عدد من العلماء على اجتهاد معين، دون تلاق ولا تحاور بينهم، فلا يكون اجتهادهم واتفاقهم اجتهادا جماعيا. وكذلك إذا تلاقوا وتحاوروا في المسألة، لكنهم اختلفوا وعبر كل منهم عن اجتهاده ووجهة نظره، فلا يكون رأي أي منهم أو فتواه اجتهادا جماعيا. نعم إذا لم يتفقوا جميعا، وصدر الاجتهاد — أو الفتوى– باسم فريق منهم، فإنه يكون اجتهادا جماعيا، لاسيما إذا كان المتفقون هم الأكثرية .
أهمية الاجتهاد الجماعي وأولويته، لم تكن موضع اختلاف في يوم من الأيام. وبالرغم من أن المتقدمين — أصوليين وفقهاء وغيرهم– لم يعالجوا هذه المسألة بشكل مستقل وباصطلاح خاص، كما هو الشأن اليوم، فإن مؤلفاتهم زاخرة بأشكال ونماذج فعلية للاجتهاد الجماعي، وخاصة في العصر الأول.
فمنذ العصر النبوي وعصر الصحابة، بدأ العمل بالاجتهاد الجماعي، بعدة أشكال وفي عدة مجالات اجتهادية. ولعل العنوان الجامع لأشكال الاجتهاد الجماعي ومجالاته في هذه الحقبة هو: “الشورى”، وخاصة في المجالات الثلاثة:
1- تدبير القضايا السياسية وغيرها من المشاكل والقضايا العامة .
2- استنباط الأحكام الشرعية التي لا نص فيها.
3- الأحكام القضائية .
وكل المشاورات التي كانت تتم في الصدر الأول ، في هذه المجالات الثلاثة، كانت في الحقيقة عبارة عن اجتهادات جماعية . فكلها كانت بحثا عن الأحكام الشرعية، وعن الحلول الشرعية. وكلها كانت بحثا عن دليل الشرع، وعن مقتضى الشرع. وهذا هو عين الاجتهاد.
ولما كانت قضايا الصنف الأول وأمثلته مشهورة ومعروفة، لكونها تتعلق بأحداث عامة وتاريخية، فإني أقتصر على ذكر أمثلة من الصنفين الثاني والثالث.
– ففي مجال الاجتهاد الفقهي، نجد الاجتهاد الجماعي، أو الشورى الفقهية، مسلكا معمولا به منذ حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نرى في هذه الشواهد:
روى ابن عبد البر بسنده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ” قلت يا رسول الله: الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن ولم تمض منك فيه سنة؟ قال: اجمعوا له العالمين – أو قال العابدين ـ من المؤمنين، اجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد.”
وهذا التوجيه النبوي نحو اعتماد الاجتهاد الجماعي فيما لا نص فيه، وكذلك السؤال الوارد في الموضوع، ليسا خاصين بما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الصيغة عامة في السؤال كما في الجواب. بل إن النبي الكريم كان يُشرك أصحابه معه وفي حضرته، في بعض المشاورات الفقهية، ويأخذ بآرائهم فيها.
فقد أخرج الأئمة حديث ابن عمر في سَنِّ الأذان، وفيه: “كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلوات، وليس ينادي بها أحد، فتلكموا يوما في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى. وقال بعضهم: اتخذوا قرنا مثل قرن اليهود. فقال عمر: ألا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “يا بلال، قم فناد بالصلاة”.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: “وفي هذا الحديث دليل على أصل عظيم من أصول الفقه، وهو القول في الدين بالقياس والاجتهاد. ألا ترى إلى مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في الأذان، ولم ينتظر في ذلك من الله وحيا ولا طلب منه بيانا، وإنما أراد أن يأخذ فيه ما عند أصحابه من رأي يستنبطونه من أصول الشريعة وينتزعونه من أغراضها…“ [1].
وروى ابن سعد في (الطبقات) من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب وهو مستند إلى جذع، فقال: “إن القيام قد شق عليَّ”: فقال له تميم الداري: ألا أعمل لك منبراً كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين في ذلك، فرأوا أن يتخذوه…“[2].
وهكذا كانت المشاورات النبوية للصحابة في استنباط الأحكام قليلة أو نادرة، فلأنه — صلى الله عليه وسلم– كان ينزل عليه الوحي بها، وهو أصله ومرجعه فيها، وإنما كان يستشير في ذلك ليَسُنَّ لمن بعده ولما بعده. فالاحتياج الحقيقي للشورى في هذا المجال، إنما هو بعد غياب رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي. قال ابن العربي: ” فأما الصحابة ـ بعد استئثار الله به علينا ـ فكانوا يتشاورون في الأحكام، ويستنبطونها من الكتاب والسنة“[3].
– وأما في المجال القضائي، فإن التشاور والتداول الجماعي قبل البت في النوازل، تكييفا وحكما، هي سنة الخلفاء الراشدين.
كان أبو بكر رضي الله عنه إذا ورد عيه خصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، فإن لم يجد في كتاب الله نظر أكانت من النبي سنة؟ فإن علمها قضى بها، فإن لم يجد خرج فسأل الناس… وإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به.
وروي عن الشعبي قال: “من سره أن يأخذ بالوثيقة من القضاء، فليأخذ بقضاء عمر، فإنه كان يستشير“.
ونقل الدكتور محمد عبد الوهاب خلاف عن صاحب (أخبار القضاة): “أن عثمان بن عفان، الخليفةَ الراشد الثالث، كان إذا جلس للقضاء، أحضر أربعة من الصحابة رضي الله عنهم واستشارهم، فما أفتوه به أمضاه، وهم : علي ، وطلحة بن عبيد الله، والزبير، وعبد الرحمان، وقال للمتحاكِمَين: هؤلاء قضَوْا، لست أنا“[4].
وهذا النهج الراشدي في القضاء، يمثل أصلا أصيلا لفكرة القضاء الجماعي. كما أنه سابق ومتفوق على نظام المستشارين المحلفين المعمول به في الغرب. يقول الأستاذ علال الفاسي رحمه الله: “ويمتاز النظام القضائي الإسلامي في الأندلس والمغرب بالمشاوَرين، أو المفتين الذين يدعوهم (أي القاضي) لمساعدته على تلمس وجه الحق في المسائل المعروضة عليه. وهو أفضل من نظام المحلَّفين الذي ازدهر في القضاء الإنجليزي، ثم اقتبسته الأنظمة الأوروبية“[5].
*********************
[1] القبس في شرح موطإ مالك بن أنس، 194 – 1 ـ 195.
[2] عن فتح الباري، 60 – 3.
[3] أحكام القرآن، 92 – 4.
[4] تاريخ القضاء في الأندلس، ص 321.
[5] — مدخل في النظرية العامة لدراسة الفقه الإسلامي، ص148.
المصدر: موقع “الريسوني”.