الحكم التكليفي للتعامل بالرفق
بقلم د. حسن محمد عبه جي
بعد استعراض الأحاديث الواردة في الرِّفق، والمشتملة على أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله، لا يتردَّد مسلم في مشروعيته، وأنه مطلوب في كل الشؤون والأحوال، وفي جميع مناحي الحياة.
وعلى المسلم أن يكون رفيقاً في أمره كله: في أقواله وأفعاله وسائر أحواله؛ لأن الرِّفق جُمّاع الخير، والسبيل الأمثل للنجاح وتحقيق الغايات.
لكن السؤال: ما هو الحكم التكليفي للتّعامل بالرِّفق؟
ويجاب عن هذا السؤال بجوابين، أحدهما مجمل، والآخر مفصّل.
أما الجواب المجمل: فإن الرِّفق حكمه الندب والاستحباب، بمعنى أنه يثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه، ذلك لأنه فضيلة وأدب، وخصلة من خصال الخير، يستحبُّ التخلُّق بها، وهذا الحكم من حيث العموم، يدل عليه ظواهر النصوص المتقدمة التي جاءت بصيغة الترغيب والتحبيب، لا الحتم والإلزام.
وأما الجواب المفصَّل: فإن الرِّفق بالنَّظر إلى دوافعه وغاياته له أكثر من وجه، ولكل وجه حكمه الخاصُّ به، وبيان ذلك فيما يلي:
أولاً: إذا كان التَّعامل بالرِّفق يحقّق مصلحة، أو هو مظنة لتحقيق مصلحة، ولا يترتَّب على تركه مفسدة ظاهرة، لا دينية ولا دنيوية، فحكمه في هذه الحال النَّدب والاستحباب كما تقدم، وأمثلة هذا القسم كثيرة جداً، وعليه تدُلُّ ظواهر النصوص السابقة.
ثانياً: إذا كان التَّعامل بالرِّفق يحقّق مصلحة، وتركه يحقِّق مفسدة، أو يفوِّت مقصداً شرعياً، أو هو مظنّة لذلك، فحكمه حينئذ الوجوب.
ومن صور هذا النوع: الرِّفق بالمريض، وذلك بالتَّرخيص له فيما أذن به الشارع، وبخاصة إذا ترتّب على عدم الرِّفق به إدخال العنت عليه، أو تأخير شفائه، أو إزهاق روحه.
يدلُّ عليه: حديث جابر رضي الله عنه قال: خرجْنا في سفرٍ فأصابَ رجلاً منَّا حجَرٌ فشَجَّهُ في رأسه، ثم احتلَمَ فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رُخْصةً في التَّيَمُّمِ؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تَقْدِرُ على الماء، فاغْتسَلَ فمات، فلما قَدِمْنا على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُخْبِرَ بذلك، فقال: (( قتلوه قتلهم الله…)) الحديث، أخرجه أبو داود [1].
ومن صوره أيضاً: الرِّفق بالكافر رجاء دفعه ضرراً عن المسلمين، أو إسلامه، وبخاصّة إذا ترتّب على إسلامه مصلحة، كأن يكون زعيم قومه.
يدلُّ عليه: رِفقُه صلى الله عليه وسلم بثُمامة بن أُثال [2] في أسره وهو كافر، فقد حوّله الرِّفق إلى مسلمٍ ناصرٍ للدِّين منافحٍ عنه، وتحقَّقت بإسلامه مصلحة عظيمة، فقد أسلم بإسلامه قومه.
وعلَّق الحافظ ابن حجر رحمه الله على حديث ثُمامة بقوله: (( فيه: الملاطفة بمن يُرجى إسلامه من الأسارى إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام، ولاسيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير من قومه )) [3].
ومن صوره أيضاً: الرِّفق بالوالدين؛ إذ الرِّفق بهما وسيلة إلى تحقيق برِّهما الواجب شرعاً، وما كان وسيلة إلى واجب فهو واجب؛ إذ للوسائل حكم الغايات.
ثالثاً: إذا كان التَّعامل بالرِّفق يجلب مفسدة، أو يفوّت مقصداً شرعياً، فهو ممنوع وحكمه التحريم.
ومن صور هذا النوع: الرِّفق بالكافر المحارب المتعنِّت، أو بالمنافق الذي يكيد للمسلمين، إذا كان لا يزيدهم الرِّفقُ إلا غلواً وعناداً، وإصراراً وطغياناً، فإن المطلوب في حقِّ هؤلاء الشِّدَّة والعنف، لا الرّفق واللُّطْف.
قال الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [4]. وقال سبحانه: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [5].
ومن صور الرِّفق الحرام: الرِّفق بمن يتجاوز حدود الشّرع، ويجاهر بالمعاصي علوّاً واستكباراً، فهذا لا يزيده الرِّفق إلا جرأة على الباطل بمخالفة أمر الله تعالى وانتهاك حرماته، فالرِّفق بمن هذا حاله ممنوع وحرام.
يدُلُّ عليه حديث عائشة رضي الله عنها: ما خُيِّرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينَ أمرين قَطُّ إلا أخذَ أَيْسرَهُما، ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعدَ النَّاس منه، وما انْتقمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيءٍ قطّ، إلا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمةُ الله، فيَنتَقِمَ بها لله. أخرجه الشيخان [6].
ومن أمثلة هذا النوع أيضاً: دلالة الآخرين على الرُّخْصة رفقاً بهم مع تخلُّف سببها، كمن يدل غيره على التيمّم رفقاً به من غير عذر، ويرشده إلى قصر الصلاة في غير سفر، ويبيح له فطر رمضان من غير سبب، وقس على هذا.
—————————————————–
[1] سنن أبي داود: كتاب الطهارة – باب في المجروح يتيمم (336)، وفي إسناده: (الزبير بن خُرَيق) ذكره ابن حبان في ((الثقات)) 4: 262، وقال الدارقطني: ليس بالقوي ((سنن الدارقطني)) 1: 350، وروي نحوه عن ابن عباس: أخرجه أبو داود (337)، وابن ماجه (572) وإسناده منقطع، قاله البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) 1: 220 (231).
[2] هو ثُمامة بن أُثال بن النعمان، أبو أمامة اليمامي الحنفي، وقصة أسره وإسلامه أخرجها البخاري في كتاب المغازي – باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال (4372).
[3] (( فتح الباري )) 7: 690.
[4] سورة التوبة (73)، والتحريم (9).
[5] سورة التوبة (123).
[6] البخاري: كتاب الأدب – باب قول النبي صلى الله عيله وسلم (يسروا ولا تعسروا)… (6126)، ومسلم: كتاب الفضائل – باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام 4: 1813 حديث 77 (2327).
المصدر: موقع “الألوكة نت”.