بقلم أمير سعيد
إنها دهلي، أو كما يقول المتأخرون، دلهي، مفرزة العلماء، ومعقل خدام الحديث النبوي، وفطاحل العلوم أرباب الأسفار الضخمة.
دلهي التي يسكنها اليوم ما بين ثلاثة إلى خمسة ملايين مسلم، لا يشكلون غالبية سكانها، هم بقية شاهد تاريخي عريق ممتد على إسلامية هذه المدينة الكثيفة في تعدادها، المتنوعة في ثقافاتها.
في جامعتها العلمية الرصينة، الملية، تخرج آلاف النابغين من الأئمة والحفاظ والأعلام، ومن قبل كان التاريخ الزاخر بأساطين العلم كولي الدين الدهلوي، ومحمد حياة، ورحمة الله، والمئات من العلماء المبرزين في شتى صنوف العلم وفنونه الشرعية.
تتشاطر المدينة العريقة تلك التي يسكنها الآن أكثر من عشرين مليوناً مع أخواتها من حواضر الإسلام البارزة في شبه القارة الهندية، مسحة من غموض يصبغ تاريخها الطويل مع الإسلام، ما بين موجات مده وجزره المتكاثرة، في تلك البلاد، ودوله المتنوعة، وفتوحاتها المتعددة؛ فالشمال الهندي، لاسيما غربه السندي، بدأ تعرفه إلى الإسلام مبكراً في القرن الأول، تجارة، ومحاولات للفتح، كلل أولها بالنجاح على يد ابن أخي الحجاج بن يوسف الثقفي، هذا الشاب الذي كتب السطور الأولى للإسلام في الهند، محمد بن القاسم الثقفي، غير أن تأريخ دلهي الإسلامي الحقيقي بدأ منذ عهد الفاتح العظيم، محمود بن سبكتكين أو محمود الغزنوي في القرن الرابع والخامس الهجري (توفي عام 421هـ )، ثم تعاظم دورها حين صارت عاصمة للهند الإسلامية بعد أن انتزعها قطب الدين أيبك التركي قائد جيوش السلطان شهاب الدين الغوري من حاكمها الهندوكي عام 592ه، واستقلت من بعد السلطان على يد أيبك المملوكي، وصارت من بعد سلطنة امتد حكمها حتى سقطت على يد تيمورلنك بعد نحو مائتي عام (801 ه).
واللافت أن سلطنة دلهي التي ظلت عصية على المغول بعد تيمورلنك، وفي أوج انتصاراتهم، وحاولت الإسهام في القضاء عليهم بالتعاون مع المماليك في مصر، قد صارت ملجأ لكثير من علماء ووجهاء وأعيان العالم الإسلامي في تلك الفترة التي اجتاح فيها المغول العالم الإسلامي، وعُد هذا الزمان ذهبياً للهند، ولدلهي تحديداً في انتعاشها الثقافي والعلمي والحضاري. ويبدو هذا اعتيادياً في العالم الإسلامي تاريخياً، أن تحيل الهجرة واللجوء أوطاناً أخرى إلى واجهة الحضارة والازدهار مع جلب نخبة المهجرين.
لكن الإسلام الذي صهر المغول فيه، أقام بهم دولة مجدداً في الهند، ظلت قائمة إلى أن اجتاحها البريطانيون في عز مدهم وجزر المغول، سنة (1274هـ) “وهدموا ما بناه محمود الغزنوي، وخلعوا أبواب تربته في أفغانستان سنة 1838م ونقلوها إلى الهند، ومنها إلى بريطانيا العظمى آنذاك”، مثلما يقول د.عبد المنعم النمر في كتابه القيم “تاريخ الإسلام في الهند”. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد كان هذا الإجرام الذي بلغ حد تقديم رؤوس أولاد السلطان بهادر شاه، آخر حاكم مسلم في الهند، له كوجبة ليتناولها في واحدة من أبشع صور الإجرام الغربي خسة في التاريخ، قد كان ذلك إشارة إلى رغبة غربية في محو هيمنة الإسلام على الهند لقرون ثمانية، وحد فيها المسلمون شعاث هذه القارة الواسعة.
على أن هذه الجريمة وأشباهها من جرائم التقسيم والتدجين والإذلال والاضطهاد لم تقف عند هذا الحد الفج، فثمة جهوداً أخرى لم تزل قائمة بضراوة ليس لإضعاف المسلمين في دلهي وأخواتها فقط، بل أيضاً لقطع الرابط الوثيق الذي وصل هذه القارة بملايينها الستمائة من المسلمين (في الهند وبنغلاديش وباكستان)، والذي عمد إلى إخفاء متانة الصلات الثقافية بين شرق الإسلام وقلبه؛ فقل من قد أصبح الآن على دراية بعلماء الهند الأفذاذ ودورهم الرائد في حفظ التراث الإسلامي وإثرائه. يقول العلامة أبو الحسن الندوي في كتابه “تراث العلماء المسلمين العلمي في الهند”: “وقد عرف علماء الهند بشغفهم بالعلوم الدينية وانتهت إليهم رئاسة التدريس والتأليف في فنون الحديث وشرح متونه ومجاميعه، وسلمت زعامتهم في هذا الموضوع في العهد الأخير، حتى قال العلامة رشيد رضا (…) في مقدمة “مفتاح كنوز السنة”: “لولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر؛ لقضي عليها بالزوال من أمصار الشرق؛ فقد ضعفت في مصر والشام والعراق والحجاز منذ القرن العاشر للهجرة”.
ولعل علماء لا يبارون مكانة ورسوخاً، يجهلهم كثيرون بالعالم الإسلامي لفرط تهلهل الروابط الإسلامية بين أطراف العالم الإسلامي، والذين ضم كتاب نزهة الخاطر نحو خمسة آلاف من منهم ومن رجال وأعيان الهند، وضمنه الكثيرين من رجالات دلهي وأئمتها، وغيرهم في غير هذا الكتاب، نذكر منهم كأمثلة:
العلامة ولي الدين الدهلوي، صاحب المؤلفات العظيمة والأسفار المتقنة، وصاحب كتاب “حجة الله البالغة”، والذي يقول عنه الندوي إنه كتاب ألفه “في أسرار أحكام الشريعة وفلسفة التشريع الإسلامي وهو كتاب مبتكر في موضوعه لا يوجد له نظير في المكتبة العربية على اتساعها”. والعلامة الشاه ولي الله صاحب كتاب “الفوز الكبير” في أصول التفسير، والشيخ العلامة عبد القادر الدهلوي أول من ترجم معاني القرآن إلى الأردية، الشيخ العلامة الشـــاه ولي الله المحدث الدهلوي مترجم القرآن إلى الفارسية، والذي يجمع أهل العلم بشبه القارة الهندية على كونه الأصح ترجمة من بين الترجمات لمعاني القرآن الكريم، والشيخ الشاه عبد العزيز الدهلوي العالم الشهير الذي صليت عليه الجنازة خمساً وخمسين مرة من شدة الزحام وتوافد المسلمون للصلاة عليه في شهر رمضان 1159 هـ. والشيخ أحمد حسن الدهلوي صاحب كتاب “أحسن التفاسير” الذي يعد أول عالم من علماء دلهي كتب تفسيراً للقرآن. وكذا الشيخ محمد إلياس الدهلوي الداعية البارز الذي قال عنه الندوي: “من أقوى الدعاة الذي عرفهم العالم الإسلامي في العهد الأخير (…) والذي امتدت دعوته في الأقطار الإسلامية وأوروبا وأمريكا وإفريقيا واليابان”. ومن أدبائها وشعرائها النجباء، ما يعز على الحصر، منهم من أسماه، الندوي: “الأمير الكبير الأديب الشاعر البطل الأعظم صاحب السيف والقلم، عبدالرحيم بيرم خان الدهلوي، قائد قواد الحكومة المغولية في الهند، صاحب الشعر الرقيق بالعربية والهندية والتركية والفارسية، وغيره الكثير.
هذا النبع الصاف، والحضور الكبير للعلماء والأدباء وغيرهم من نخبة المسلمين وطليعتهم لم ينضب في دلهي، ولا أخواتها بالهند، إلا أن ثمة من يعمل بدقة وتخطيط عالٍ على قطع أوصال المسلمين ووشائجهم، لقتل الروح النهضة فيهم، ولكن الثقة راسخة بأن تلك مرحلة طارئة وسوف لن تطول كثيراً بحول الله وقوته.
(المصدر: موقع المسلم)