مذكرات الحاج محمد أمين الحسيني (2)
ما نشبت الحرب العالمية الثانية في أواخر سبتمبر 1939 ازداد الضغط البريطاني على فرنسا لمطاردة الفلسطينيين والقضاء على الثورة، وألحت بريطانيا على حليفتها فرنسا كي تسلمني إليها لاعتقالي في إحدى الجزر النائية، وأخذت السلطة الفرنسية تنتهز الفرصة الملائمة لتلبية طلب الإنجليز وتسليمي لهم.
اشتدت المراقبة علينا بنشوب الحرب العالمية الثانية، وكثر جواسيس الإنجليز، وتستخدم المخابرات البريطانية عددًا ضخمًا منهم، وقد عرفت بعضًا منهم مثل الرجل المشعوذ الذي يفتح البخت، وآخر ماسح أحذية كان يقف بباب الحرم القدسي، وثالث كان يتسول بباب المسجد الأقصى، ورابع كفيف كان يرابط داخل الأقصى متجسسًا على المدرسين والوعاظ، وغيرهم من الجواسيس.
وقد اضطرنا ضغط المخابرات البريطانية وملاحقتها الشديدة لنا أن نقوم بدفاع ومقاومة من نفس العمل، فأنشأنا دائرة خاصة لمقاومة التجسس، وأفدنا من ذلك فوائد كبيرة، واستطعنا أن نحصل على معلومات دقيقة لما كان يدور بين السلطات البريطانية في لندن، وسلطات الانتداب البريطاني في فلسطين، وبين السلطات الفرنسية في لبنان بشأن التدابير التي تقرر اتخاذها لاعتقال رجال اللجنة العربية العليا.
في 13 تشرين الأول 1939 وبعد عامين كاملين من إقامتي بلبنان غادرت إلى بغداد بعد خطة قمنا بوضعها وتحديد موعدها بدقة، وكانت الرحلة من لبنان إلى دمشق ثم إلى بغداد.
وصلت إلى العراق وذهبت إلى البلاط الملكي، واستقبلنا رئيس الديوان، وقابلنا -أيضًا- الوصي الأمير عبد الإله.
سهلت السلطات العراقية الأمور لنا، وكفلت معيشة قادة الثورة وكبار المجاهدين، واتفقنا على ألا يتدخل الفلسطينيون خلال إقامتهم بالعراق في الشؤون الحزبية أو السياسة المحلية.
ساور الإنجليز القلق الشديد من وصولي وإخواني المجاهدين إلى العراق، وكانت السفارة البريطانية في بغداد تبادر بالاحتجاج لحكومة العراق على كل حركة من حركاتي.
وصلتنا معلومات أن الإنجليز يخططون لخطفي ونقلي خارج العراق، فتم تخصيص دورية قوية من الجيش العراقي لحراستي.
طلبنا من السلطات العراقية أن يقوم الجيش بتدريب المجاهدين الفلسطينيين تدريبًا عسكريًّا فوافقت، كما قبلت عددًا من الشبان في دورة ضباط الاحتياط في الكلية الحربية العراقية.
كان الجيش العراقي على باب معركة دموية داخلية عندما استقالت وزارة نوري باشا السعيد 1941، حدث نزاع حول من يتولى مكانه، فتدخلنا للصلح بين الأطراف، وكلل الله جهودنا بالتوفيق، وصفا الجو في العراق.
ألف السيد رشيد عالي وزارته التي ألغت الأحكام العرفية فور تأليفها، ونالت ثقة الجيش والشعب؛ لوقوفها في وجه المطالب الاستعمارية.
حاول الإنجليز حشد جيوشهم في العراق وحمله على قطع السياسات مع إيطاليا، لكن الوزارة الكيلانية رفضت، وسرعان ما نشبت الحرب بين العراق وإنجلترا في شهر مايو 1941.
كان لانتصارات ألمانيا المتتالية ولهزائم بريطانيا وحلفائها المتلاحقة تأثير عظيم على العراق وسائر العرب، وقد وقر في نفوسهم أن بريطانيا وحلفائها من المستعمرين هم سبب البلاء، وأصبحوا يعتقدون أن كل ضعف يصيب بريطانيا وحلفائها هو قوة لهم، وأن أعداءها هم أصدقاؤهم.
زارني طه باشا الهاشمي وحدثني ملمحًا بفكرة الاتصال بألمانيا، وأن يكون ذلك بواسطة المنظمات الفلسطينية؛ إذ من غير المناسب أن تقوم بذلك الدول المرتبطة مع بريطانيا بمعاهدات، وكانوا يرون أن يتم اللقاء بواسطتي، فأجبته -نحن الفلسطينيين- لا نملك الأسباب والوسائل لذلك، والواقع أني لم أكن مطمئنًّا لبعض العناصر التي كانت معنية بهذا الأمر.
تتابعت الأحداث في العراق، وبرز في ميدانه فريقان يختصمان، أما أحدهما فالإنجليز وأتباعهم، والثاني فصفوة الأحرار المخلصين.
كانت الحرب بين العراق وبريطانيا على أشدها، وعلى إثر ذلك تحرجت الحالة في منطقة القنال بجبهة بغداد، وفكرت الحكومة العراقية وقيادة الجيش العراقي في الانسحاب إلى منطقة الموصل واتخاذها مقرًّا للدفاع والمقاومة، لكن الأحداث توالت بسرعة، ولم تتمكن الحكومة وقيادة الجيش من الانتقال إلى الموصل، واضطررت لمغادرة العراق إلى الحدود الإيرانية، واللجوء إلى إيران.
كان للطابور الخامس أثر كبير في الفشل الذي منيت به حركة العراق، وكان هذا الطابور يتألف من عناصر كثيرة أهمها اليهود في العراق.
كان الإنجليز يحرصون على إثارة الأشوريين واليزيديين وغيرهم من الطوائف غير المسلمة، وعلى المباعدة بين المسلمين أنفسهم من أهل السنة والشيعة، كما حرضوا الأكراد وأثاروهم، وفقًا لخطتهم الاستعمارية المعروفة: فرق ثم احكم.
كان لزامًا على العراق أن ينشئ إدارة مخابرات قوية لإحباط تلك المؤمرات، وقد دهشت لما علمت بعدم وجود ذلك الجهاز، فاقترحت عليهم إنشاءه، فقال طه باشا الهاشمي وكان وزيرًا للدفاع: لا يجدر بنا أن نفعل كما كان السلطان عبد الحميد يفعل من التجسس على الناس.
فقلت له: لعل عناية السلطان عبد الحميد بالمخابرات كانت من أعمال السلطان الذي ضاق الأعداء والمستعمرين ذرعًا بنباهته ودهائه، ولست أعني التجسس على المواطنين الصالحين، بل بث العيون والأرصاد لمعرفة أخبار الأعداء، وتتبع حركاتهم وأعمالهم.
ومن الحق أن نقول: إن الغفلة عن أهمية المخابرات كانت عامة في أكثر الأقطار العربية، ففي مصر -مثلاً- وصل الأمر أن تولى دومفيل مدير المخابرات البريطانية رئاسة مخابرات الطيران في الجيش المصري في العهد الملكي.
كانت الحكومة العراقية قد بذلت جهدها للحصول على أسلحة للجيش من بعض الدول الصديقة، فوصلها بعض الطائرات الحربية الألمانية والإيطالية، لكن لم يكن لوصولها الأثر الفعال المنتظر؛ لأن العراق الذي يتدفق البترول من أرضه قد حرمته الشركات الاستعمارية من إنشاء مصفاة للبترول الخاص بالطائرات، فكان يستورد بعض حاجة القوة الجوية من (عبادان) في إيران، ولما قامت الحرب لم يكن في استطاعة العراق تموين طائراته ولا الطائرات القادمة لمساعدته من ألمانيا وإيطاليا بالوقود، فظلت مكانها معطلة.
كنا في هذه الظروف نبحث أحوال الأمة العربية مع الصفوة المخلصة من أحرار العرب في العراق، بالتعاون مع الحكومة الكيلانية، وانتهى التفكير والبحث إلى محاولة الاتصال بالألمان للتعاون معهم على الوصول إلى هذه الأهداف الوطنية، وكلفنا أحد شباب العرب من طرابلس السيد عثمان كمال حداد بالاتصال بالألمان؛ نظرًا لإجادته عدة لغات، وأصدرت السلطات الألمانية قرارًا بمساعدتنا واعتبارنا حليفًا لها.
لقد وضح من الحوادث التي سردناها عن معركة العراق وما اعتزمته ألمانيا من مساعدة للعرب والعراق أن فرصة ثمينة نادرة سنحت للأمة العربية لو أنها استطاعت انتهازها لجنت ثمارها، ولقضت قضاءً مبرمًا على الكيان الصهيوني في فلسطين، لكن أهم العناصر التي فوتت تلك الفرصة الذهبية على الأمة العربية بضعة أفراد من أبنائها استمات بعضهم في مناصرة الاستعمار في سبيل منافعهم الخاصة ومناصبهم، وتخاذل بعضهم الآخر خورًا وجبنًا.
في إيران
خرجنا من بغداد منتصف ليل 29 مايو 1941، وكان وصولنا طهران يوم 3 يونيو، وطالبتنا الحكومة الإيرانية بكل أدب واحترام بأن نلتزم شروط اللاجئين السياسيين، وأن لا نقوم بأي نشاط سياسي، لذا لم يعد بوسعنا تنفيذ خطة مساعدة الألمان لنا.
نشبت الحرب بين ألمانيا وروسيا بعد وصولنا بأقل من ثلاثة أسابيع، وأخبرني أحد القادة العراقيين أنه اطلع على خطة من قبل الحلفاء لاحتلال إيران، فأطلعت الحكومة الإيرانية على تلك الخطة، فشكروني وأخبروني أنهم ليسوا على عداء مع إنجلترا، ولا يتوقعوا منها عدوانًا، لكن لم يمضِ على حديثي معهم بضعة أسابيع حتى حدث العدوان مثل الخطة التي أخبرتهم عنها بالضبط.
على إثر إعلان ألمانيا الحرب على روسيا قررنا مغادرة إيران إلى تركيا، طلبنا إذنًا بالدخول فاعتذرت السلطات التركية عن عدم السماح لي ولأسرتي بالإقامة كلاجئ سياسي.
دخلت القوات البريطانية طهران وأذاع قائدها بيانًا بمكافأة قدرها 25 ألف استرليني لمن يقدم معلومات تؤدي إلى القبض على المفتي حيًّا أو ميتًا.
اضطررت للهرب بأعجوبة نحو الحدود التركية، حتى وصلت إسطنبول بدون أن تعرف السلطات التركية، ثم سافرت بسرعة إلى بلغاريا.
عرفت أن أسرتي في طهران قد تم القبض عليها وزجوا بها في سجن الأهواز المعروف بقذارته، وكان عدد أفراد الأسرة عشرة ما بين سيدات وأطفال، فحشروهم جميعا في غرفة واحدة، ولبثت الأسرة 52 يومًا في السجن وصدر قرار بنقلها إلى البصرة في عربة لوري، ثم تم نقلهم بكل قسوة إلى بغداد لترحيلهم إلى القدس، لكن الناس تجمهروا وتمردوا على تلك القرارات، فتم السماح لهم بالذهاب إلى بيتنا في بغداد لمدة أيام، ثم نقلوهم إلى القدس.
تحركت إلى بودابست، ثم تابعت السفر بالقطار إلى إيطاليا، وكان قصدي الاتصال برجال دولتي المحور لاسئناف المباحثات التي بدأنها في العراق.
بعد بضعة أيام من وصولي روما قابلت الدوتشي موسوليني في قصر فينيسا، بسطت له مطالب العرب الرئيسية وهي الاستقلال الكامل، والسيادة التامة في جميع أقطارهم، وإنقاذ فلسطين من المؤامرة الاستعمارية الصهيونية، وإلغاء الوطن القومي لليهود فيها.
وقلت له: إن مقاومتنا لليهود لم تكن بحافز من التعصب الديني، بل دفاعًا عن كياننا وبلدنا، وإن العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في الأقطار العربية هي علاقات وثيقة بين مواطنين متحدين متعاونين.
فأجابني قائلاً: إني أعلم هذا، وأعلم الكثير عن أحوالكم، ولاسيما دينكم، ولقد درست القرآن والتاريخ الإسلامي، وأعرف تسامح الدين الإسلامي، ولكن هؤلاء لا يعلمون.
قال هذا وأشار إلى البارون انفوزو الذي كان واقفًا على قدميه.
كما قال لي -أيضًا- موسوليني: إن مطالبكم جديرة بالاحترام والتحقيق، وإن إيطاليا مستعدة أن تعترف بذلك، وتساعد على تحقيق استقلال الأقطار العربية، أما الوطن القومي لليهود فلكم كل الحق في مقاومته، ونحن معكم في ذلك، فاليهود في إيطاليا لا يزيد عددهم عن 45 ألفًا من بين 46 مليون إيطالي، ولهم كل حقوق المواطنة، لكنهم رغم ذلك ليسوا موالين لها، فكل واحد منهم جاسوس عليها وداعية ضدنا، فهم طابور خامس لبلادنا، ولذلك فإن موقفنا منهم سيكون مثل موقفهم منا.
ولما علم أني أعتزم السفر إلى برلين قال لي: أرجو أن توجه نظرهم هناك، ولا سيما الفوهرر إلى أهمية منطقة الشرق الأدني، لاسيما قناة السويس؛ فإنها حلق الإمبراطورية البريطانية، فمنها نستطيع خنقها وإخماد أنفسها، إنها أهم من كل جبهة.
ولقد كان موسوليني -كما علمت فيما بعد- معارضًا فتح الجبهة الروسية، وكان ينصح باجتناب الدخول في قتال مع روسيا الواسعة الأرجاء.
على الرغم من سيطرة موسوليني على إيطاليا، إلا أنه لم يستطع أن يناوئ السيطرة الروحية للكنيسة على نفوس الشعب الإيطالي، ولم يسعه إلا الاعتراف بالفاتيكان كدولة مستقلة ذات سيادة، وكان بداخلها سفراء الحلفاء وباقي الدول المناوئة لإيطاليا، وهم ينقلون ويتجسسون على كل الأخبار داخل إيطاليا بحرية تامة، بفضل الفاتيكان.
لمست خلال الأعوام الخمسة التي قضيتها في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية أن الكتلة الكاثوليكية الملتفة حول الفاتيكان، هي قوة عالمية عظيمة ذات قيمة كبيرة في الميزان الدولي، وأنها ساهمت بسبب كبير في مقاومة ألمانيا ودول المحور، وبالتالي في نتيجة الحرب العالمية الثانية، وقد كتبت في فرنسا حين كنت معتقلاً عقب الحرب إلى عبد الرحمن عزام باشا الأمين العام لجامعة الدول العربية، ولفت انتباهه لأهمية الفاتيكان، واقترحت عليه أن يحمل مصر وغيرها من الدول العربية على تبادل التمثيل السياسي معه، ولم يكن لأي دولة عربية حينئذ سوى لبنان من تمثيل سياسي معه.
ــــــــــــــــــــــــــ
* الكتاب الأصلي من إعداد: عبد الكريم العمر، الناشر: الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى 1999م، عدد الصفحات: 546
(المصدر: مجلة كلمة حق)