مقالاتمقالات مختارة

“خلق القرآن”.. حين وقف الإمام أحمد في وجه السلطان

بقلم محمود جميل

نحن نعتقد أن قيمة الإمام أحمد بن حنبل بقيت ليس بسبب بلائه في محنة خلق القرآن. إن قيمة الإمام أحمد بقيت؛ لأن نصوصيته أرادت ذلك، تلك النصوصية التي حافظ عليها المجتمع الإسلامي وتمسَّك بها وأصبحت جزءًا من نفسيته، والإمام أحمد واحد من أعلامها وأحد أقطابها، بل وإمامها إن أردنا الإنصاف.

مثَّلت قضية خلق القرآن مواجهةً صريحةً بين المجتمع والدولة، الدولة ومعها المعتزلة (أصحاب العقل) في جهةٍ، والمجتمع ومعهم المحدثون (أصحاب النص) في جهةٍ أخرى. تريد المعتزلة ومعها الدولة فرض آرائها على المجتمع، ويأبى ذلك المحدثون والجمهور. كانت القضية فكرية في شكلها العامّ، لكن في جوهرها ومضمونها قضية سياسية، تريد الدولة من خلالها فرض سياسة عامة على المجتمع متمثلة في أنَّ من حق الخليفة أن يقتنع بما شاء من القضايا والآراء، وأن يفرضها على المجتمع، وليس من حق المجتمع الاعتراض على أي شيء من ذلك. في محنة خلق القرآن كان الإمام أحمد بن حنبل من أكثر مَن عُذِّب في سبيلها، وهناك من الأعلام مَن دفع حياته ثمنًا لتلك المحنة. والحقيقة أن البيئة وتعاقُب الأحداث وتتابُع سيرها في المحنة خدمت الإمام أحمد في أن يكون له كل هذا الدور في تلك القضية.

لقد كتب الخليفة المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم (قاضي البصرة) بألا يثق بقضاء القاضي أو شهادة الشاهد إلا بعد الإقرار بأن القرآن مخلوق، لكن ذلك لم يطرح القضية على المجتمع كما أراد المأمون، أي أن المجتمع لم يتفاعل مع القضية بالشكل الذي تصوره المأمون؛ فكتب إلى إسحاق مرة أخرى أن يرسل إليه سبعة من كبار المحدثين وهم: محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلم مستملي يزيد بن هارون، ويحيى بن معين، وزهير بن حرب، وإسماعيل بن داود، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن الدورقي (وكانوا من الذين ينفون خلق القرآن)؛ ليمتحنهم المأمون بنفسه، فلما وصلوا إليه وسألهم أقروا جميعًا بخلق القرآن.

تظهر قيمة الإمام في رفضه القول بغير ما يمليه عليه ضميره الاجتماعي، ونقصد بذلك ضميره ناحية أمته

هذا الموقف جعل الإمام أحمد بن حنبل على خطوةٍ واحدةٍ في مواجهة الدولة، وأن المواجهة قادمة ولا مَفَرَّ منها، ولو وقف الفقهاء السبعة -السالف ذكرهم- موقفًا آخر غير الذي وقفوه لتغير سير المحنة، وكان من المحتمل ألا يُذْكر دور للإمام أحمد في المحنة، أو على أقل تقدير كان سيكون دوره دورًا عاديًّا لم يرتقِ لدوره الذي صنعه فيما بعدُ.

هذا الذي أكده الإمام أحمد عند التعليق على ما حدث من الأئمة السبعة؛ إذ قال نادمًا: “لو كانوا صبروا وقاوموا لكان انقطع الأمر وحذَّرهم الرجل -يعني المأمون- ولكن لما أجابوا اجترأ على غيرهم”. على كل حالٍ وجد الإمام أحمد نفسه في مواجهة مع الدولة، فقد أرسله إسحاق بن إبراهيم إلى المأمون ليمتحنه هو ومحمد بن نوح، فلما كانا في الطريق علما بموت المأمون فرجعا، ولما تولى المعتصم الخلافة امتحنه المعتصم وتم إلحاق الأذى به.

وهنا تظهر قيمة الإمام في رفضه القول بغير ما يمليه عليه ضميره الاجتماعي، ونقصد بذلك ضميره ناحية أمته، فصمم على الدخول في المواجهة رغم ما عرضه عليه محبوه بأن يستخدم التقية كقيمة للتخلص من محنته فرفض ذلك. فكريًّا ونظريًّا ومن خلال المجادلات والحوارات التي دارت بين الفريقين والتي ذكرتها كتب التاريخ وغيرها انتصرت الدولة والمعتزلة على المجتمع والمحدثين. يقول الأستاذ أحمد أمين: إن المعتزلة والمأمون وإن كان رأيهم العلمي حقًّا وصحيحًا، فإن خصومهم على حق في ألا تثار هذه المسألة أمام العامة. ويقول أيضًا: لقد تجلى في هذه الحركة بأجلى بيانٍ صراعُ العقل والعاطفة، كان العقل والمنطق في جانب المعتزلة، والعواطف في جانب الجمهور والمحدثين.

ويقول الشيخ محمد أبو زهرة: ولكن إذا نظرنا من جهة الحكم على القضية من حيث كون القرآن مخلوقًا أو غير مخلوق فإن الأدلة التي ساقها ابن أبي دؤاد -يمثل الدولة والمعتزلة يعتبر أبو زهرة أن الكتب التي وصلت إلى إسحاق من كتبها هو ابن أبي دؤاد وليس المأمون- في تلك الكتب، فالعقل والبداهة تحملنا على الحكم للمعتزلة بصحة نظرهم. والحقيقة أنه لا ريب فيما وصل إليه أمين وأبو زهرة، فالمعتزلة على كل حال هم أرباب الكلام وأصحاب النظر العقلي.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى