مقالاتمقالات مختارة

رمضان وحتمية المصالحة الشاملة

بقلم يسري المصري

في اليوم الثاني من هذا الشهر، ومع بزوغ النسمات الربانيّة وبداية السنة الإيمانية الجديدة، ووسط هذا الجو المفعم بكل ماهو يضيف للمرء عبادة وصدقاً وتجرداً وحسن ظن بالخالق جلَّ وعلا.

ولمّا كان #رمضان بابَ خير وأمن وأمان وطمأنينة للعباد، كانت المصالحة هي الحل الذي يليق بهذا الشهر وهذا الجو الإيماني، وحتى لا يتعجل البعض ويسرع في الحكم على المقال ويضعه فى إطاره “السياسي”، فنحن نتحدث عن المصالحة الشموليّة مع الله، ثم مع النفس، ثم المصالحة المجتمعية بين أطياف الشعب، ولنعلي جميعاً من قيم العمل والتسامح، وطيّ الماضي بما فيه، ونبدأ جميعاً صفحة مع الله العلي القدير ومع أنفسنا الضعيفة، والسعي للنجاة بها، والخروج من حيز ضيق الأفق التربوي والإيماني والذنوب لسعة الطاعات.

أولاً- المصالحة مع الله:

لعلّ من لطف الله بنا منحنا هذه المنح الربانية الرمضانية؛ حيث عظَّمَ الشهر وكرَّمه، وجعل العبادات وأجرها أكبر من الأيام العادية، وأن خصال الخير توازي فريضة فيما سواه، فضلاً عن أجر الصيام والقيام، وكأن الله عز وجل ينادي العباد جميعاً أن أقبِلوا عليّ ولن تخسروا، فأنا الجواد الكريم، وعلى هذا فإن المسلم في اختبار صدق حقيقي مع نفسه أولاً، وعبادته لربه بعيداً عن التجمل، وفي اختبار رجوع ولجوء حقيقي له ما بعده، (فالطاعة ولود) وصدق الطاعة ترجمة لقلب متعطش للاستقامة.

إن عوامل المصالحة مع الله كثيرة وعديدة، فالتزاور وصلة الأرحام والمكوث فى المساجد والتعفف عن السبّ والقذف واجتناب النواهي وإطاعة أوامر الله عز وجل، كل هذه إعلان مصالحة وقرب من الله، وبيعة على طريق الحق والاستقامة على مراد الله ومراد رسوله، لكن وفي نفس الوقت، فإن هذه البيعة وهذه المصالحة لها معوقات، فإن كانت الشياطين مكبّلة بالسلاسل، فإن شياطين الإنس حرّة طليقة تعمل على مدار اللحظة على إفساد القيم، وإفساد العباد بلا كلل أو ملل.

إن عوامل المصالحة مع الله كثيرة وعديدة، فالتزاور وصلة الأرحام والمكوث فى المساجد والتعفف عن السبّ والقذف واجتناب النواهي وإطاعة أوامر الله عز وجل، كل هذه إعلان مصالحة وقرب من الله، وبيعة على طريق الحق والاستقامة على مراد الله ومراد رسوله

ولا يخفى على عاقل -فضلاً عن مسلم- هذه الأموال التي تنفق في هذا الشهر الرباني على المسلسلات، وكأن هذا الشهر هو للمتع والملذّات والأجساد العارية، ويحسبون أن هذا تسلية للصائمين، وما هو إلا صدّ عن سبيل الله، وحرب على دينه، وسعي في تحريف العقول والقلوب، وإزالة مظاهر التقى والصلاح منها.

المعوّق الثاني- ظلم الطغاة، فلقد حال المجرمين بين المساجد وبين روادها، فتجد ومع استقبال رمضان يصدر قرار بإغلاق الآلاف من المساجد، بدعوى تحديد مناطق القيام في المساجد الكبرى فقط، ومرة أخرى تغلق المساجد بدعوى مديونيتها لشركات الكهرباء، وكل هذا يتم في هذا الشهر الكريم، ولا ندري من أين نجدها، من الإعلام وضلاله أم من مشايخ السلطان وحربهم على بيوت الله بدعاوي فارغة! لكن اليقين عندي أن بلادنا تتعرض لحملة صهيوصليبة على مدار الساعة، وحسبنا الله ونعم الوكيل في كل متخاذل جبان رضي بالذل والمهانة ومحاربة الدين من أجل كرسي زائل.

ثانياً- المصالحة مع النفس:

إن الإنسان حقيق أن يحب ذاته ولا عيب في ذلك، لكن الحب الذي أقصده هو السعي للنجاة بها، والفوز في هذا الشهر بكل ما يمكن تحقيقه من استثمار وتجارة مع الله، فلا يحرم نفسه من ثواب العبادات والصيام، وغض البصر، وحسن الجوار، وعظمة الصدق والكلمة الطيبة، فضلاً عن الابتسامة وقراءة القرآن، وإضاءة محرابه بالدعاء لربه والقنوت.

إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، والهوى قرين المرء، والنفس تميل للحرام مالم يؤدّبها، ورحم الله مالك بن دينار حين قال: “رحم الله رجلاً أتى بنفسه فوبّخها وشدّد عليها ثم ألزمها كتاب الله، فصار لها قائداً”، وتلك مكمن النجاة والفوز أخي الحبيب، فالقرآن يقودك للجنة ويشفع لك يوم القيامة، بل يتولى أمرك فور خروجك من القبر، وتقبل شفاعته حتى يُدخِلك الجنة، وترتدي تاج الوقار، فالمجد لكل عاقل أيقن أن الخلود للطائعين، والفوز للمصلحين، والمثوبة للصائمين، فلم يحد عن الطريق، أو يصيبه الاعوجاج، أو يرغب في البعد عنه، فضلاً عن محاربته والسعي لإفساد البلاد والعباد.

إن المصارحة مع الذات ومعرفة قدرها والسعي لمعالجة جوانب الخلل الإيماني فيها، كل هذا من حسن فهم المرء لدينه، وإلا فما قيمة أن يراجع الإنسان نفسه ويستغفر ربه ويتمنى الحياة السوية له ولأسرته والنعيم يوم القيامة!

إن المصارحة مع الذات ومعرفة قدرها والسعي لمعالجة جوانب الخلل الإيماني فيها، كل هذا من حسن فهم المرء لدينه

لكن هذه المصارحة يقف أمامها حظ النفس كحجر عثرة تحول دون الاستقامة، لذلك رمضان فرصة ذهبية للقضاء على كل هوى النفوس وحظوظها، بل وتحويلها لنفس لوّامة ومطمئنة شريطة صدق اللجوء والهمة العالية، والرغبة في صلاح الحال ونقاء القلب، والأهم حسن السريرة مع الله، فمن أصلح سريرته فاح عبير فهمه، لذلك فالمصالحة مع النفس أمر حتمي لكل من أراد النجاة دنيا وأخرى.

ثالثاً- المصالحة المجتمعية:

لا شكّ أنّ الشّقاق والعداوة والبغضاء ضربت -ولازالت تضرب- المجتمعات والشعوب والأسر، والمحاكم تشهد على كمية كبيرة من القضايا المجتمعية، ولا تجد بيتاً أو منطقة إلا بها مشاكل وخلافات وخصومات -إلا من رحم ربي- وعليه فإن حتمية طيّ الماضي بكل صوره من أهم متطلبات المرحلة -وخصوصاً- في هذا الشهر الكريم المعظم، فالثابت أنّ الجميع محل رضا الله وقبول عمله إلا المتخاصمين والمتشاحنين، فلا ترفع صلواتهم فوق رؤوسهم شِبراً!

إن النظم الحاكمة والنخب السياسية والشعوب المقهورة في حاجة لمصالحة حقيقية ترفع فيها من معاناة المظلومين، وتنشر بها سبل الاستقرار والأمن والأمان، في جو من الاعتراف المتبادل بالأخطاء والتلاقي على مساحات التوافق مهما كانت نسبة ضعفها، فاليقين عندي أن الكل مجروح، والبلاء عمّ على الكثير، وأصبح من المعيب أن يختلف ويتنازع أبناء الوطن الواحد بمختلف توجهاتهم، مما يعزّز تجبر الطغاة وتسلُّطهم على الجميع.

إن النظم الحاكمة والنخب السياسية والشعوب المقهورة في حاجة لمصالحة حقيقية ترفع فيها من معاناة المظلومين، وتنشر بها سبل الاستقرار والأمن والأمان، في جو من الاعتراف المتبادل بالأخطاء والتلاقي على مساحات التوافق مهما كانت نسبة ضعفها

إن رمضان فرصة حقيقة للبدء في كل خير وتصالح حقيقي، لذلك فالمرء إن لم يدرك هذا الشهر بالفهم السليم عبادة وقولاً وعملاً ثرياً فإنه بلا شك خسر خسراناً مبيناً.

وإن المرء إن لم يتصالح مع ربه بحسن الظن والعمل الجاد والسعي للاستغفار، والاعتراف بالذنب فيما مضى، والعزم على عدم العودة، وصدق التوبة فإنه بلا شك قد خسر خسراناً مبيناً.

وإنّ الشعوب إن لم تتصالح مع بعضها البعض، وتنشر قيم العفو والتسامح، وتسعى في بناء وطنها وتخليصه من كل ظالم، فإنها حتماً ستتجرع مرارة البغي، وأحسبها تتجرع رغماً عنها، لكن أصابها الخرس، لذلك فرمضان فرصة لتصحيح المسار الشمولي، مصالحة مع الله تستقيم بها القلوب، فمصالحة مع النفس تستقيم بها العقول، فمصالحة مجتمعية تثبت القلوب والنفوس والعقول، ويحيا الجميع في جو رمضاني حقيقي شعاره: “المصالحة هي الحل”.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى