بقلم محمد شعبان أيوب
فكانت وفاة السلطان القوي الأشرف قايتباي وارتقاء ولده محمد إلى عرش المملكة بداية لخمس سنوات من الاضطهاد وسفك الدماء بين المماليك على عرش مصر والشام، وفي تلك السنوات 901- 906هـ/1496م- 1501م ارتقى إلى منصب السلطنة خمسة من السلاطين الضعفاء، كان همهم الحكم وجمع المال، لكنهم قوبلوا بمجموعات متصارعة على الحكم، متعطشة له، فما يمر العام والعامان إلا ويُقتلون شر قتلة، وكان آخر هؤلاء السلطان طومان الأول أو العادل الذي كان أسعد حظا من سابقيه حين دبر قادة الجيش انقلابا عسكريا عليه، هرب على إثره واختفى في القاهرة قبل أن يلقى مصير سابقيه.
اجتمع الأمراء في القلعة وكان المرشّح لمنصب السلطنة الأمير تاني بك الجمالي قائد الجيش المملوكي الذي كان مختفيًا من بطش العادل طومان باي قبل الانقلاب عليه وهروبه من القاهرة، لكن أغلب الأمراء والجند رفضوه سلطانًا بسبب ما اشتهر به من الطيش والشدة، عند ذلك كان المرشّح الثاني لهذا المنصب هو الأمير قانصوه الغوري “رأس نوبة النوب” أو ما يمكن وصفه برئيس أركان الجيش، فعند ذلك أعلن الأميران المتزعمان للانقلاب العسكري على العادل طومان باي، قيت الرجبي والأمير مصرباي أنهما يرشّحان الأمير قانصوه الغوري، “وقالوا ما نُسلطن إلا هذا. فسحبوه وأجلسوه وهو يمتنع من ذلك ويبكي”[1]!
ولم يكن بكاء الغوري ناتج عن ورع وتقوى، وإنما كان خوفا على نفسه من خاتمة السلاطين السابقين الذين قُتلوا كلهم أو سجنوا على أخف الأحوال. في المقابل كان اتفاق الأمراء على سلطنة قانصوه الغوري بسبب ما اشتُهر به من اللين والود، بل رأى البعض من هؤلاء أنه يسهل خلعه مقارنة بمن سبقه دون إراقة دماء وتصارع بين المماليك، لذا بادرهم الغوري بالموافقة بعد تمنّع وبكاء قائلاً: “أقبل ذلك بشرط أن لا تقتلوني بل إذا أردتم خلعي وافقتكم”[2]. هكذا ببساطة تم إعلان قنصوه الغوري سلطانا على مصر والشام والحجاز في مرحلة من أخطر مراحل تاريخ تلك المنطقة.
ولد قانصوه بن عبد الله الأشرفي الغوري سنة 850هـ/1446م، ويُنسب إلى طبقة الغور، وهم مجموعة من الناس اشتهروا بتعليم وتربية الأطفال، وقد اختُلف في أصلهم، فمن الباحثين من ينسب قانصوه إلى العرب في غَور الأردن “بفتح الغين”، ومنهم – وهو الأصح – من ينسبه إلى الغُور “بضم الغين”، وهي منطقة ببلاد الترك[3]. وكان الغوري من مماليك السلطان الأشرف قايتباي، وقد جعله مدة من الزمن في الثكنات العسكرية في قلعة الجبل بالقاهرة، حيث تعلم المهارات العسكرية وبعض الثقافة الإسلامية كأقرانه من صغار المماليك حينئذ، ثم ما لبث أن أعتقه وعيّنه من جملة الجمدارية، أي العساكر المسئولون عن خزائن ملابس السلطان.
ف أصبح الغوري بعد ذلك من جملة فرسان الحرس السلطاني الخاص “الخاصكية”، ثمّ ترقّى إلى أن أصبح كاشف الوجه القبلي (أي المسئول عن الأمن وعمارة الجسور وإصلاح الطرق وغير ذلك في الإقليم المرسل إليه)، وذلك سنة 886هـ، وفي سنة 889هـ بدأت رتبته العسكرية في التقدم فأصبح أمير عشرة، أي أميرا على عشرة فرسان، وقد اشترك في بعض الحملات العسكرية المملوكية ضد العثمانيين وفي سلطنة الناصر محمد بن قايتباي أصبح من الأمراء ذوي الدرجة الأولى في الجيش المملوكي “أمير مائة مُقدَّم ألف”، ففتح له الطريق ليتقلد المناصب العسكرية الكبرى حيث ترقى ليصبح “رأس نوبة النوب” أي رئيس أركان الجيش المملوكي في دولة الظاهر قانصوه الأشرفي في ذي القعدة سنة 905هـ، وفي أثناء ذلك قرّبه الأمير طومان باي الأول، ثم ما لبث أن جعله وزيرًا ودوادرًا كبيرًا بدلاً منه بعد سلطنته سنة 906هـ، وظل على ذلك حتى خُلع العادل طومان باي الأول[4].
تلقّب قانصوه الغوري بلقب أستاذه وسيده الذي اشتراه السلطان قايتباي، وكان لقبه “الملك الأشرف أبو النصر”، وكان أول ما قام به بعد سلطتنه القضاء على رأس النظام القديم، ذلك السلطان الذي قرّبه وجعله وزيرا، حيث تتبع الغوري أخبار السلطان المخلوع طومان باي، وبالفعل تمكن من القبض عليه في بيته القديم بالقاهرة، وعلى الفور أنزل عقوبة الإعدام به فقُطعت رأسه، وعُلّقت في قلعة الجبل[5].
كان بكاء الغوري مشهدا تمثيليا ليظهر أنه ضعيف لا قيمة له أمام المماليك، فقد أثبت على العكس من ذلك أنه رجل قوي صلب، رغم أنه كان قد جاوز الستين من عمره عندما ولي منصب السلطنة؛ ذلك أنه عمل بسرعة على إعادة النظام والاستقرار إلى العاصمة، وملأ مناصب الدولة بمن يثق فيهم من كبار الأمراء[6]، قال الغزي: “ولما تسلطن أخذ يتتبع رؤوس الأمراء، وذوي الشوكة، فيقتلهم شيئاً شيئاً”[7]. وبالقضاء على النظام القديم يتسلم النظام الجديد مقاليد الحكم دون إعاقة أو اضطراب، وهو المنطق الذي ساد في عصر الجراكسة في مصر والشام في القرنين الخامس عشر حتى دخول العثمانيين في الأراضي العربية في الثلث الأول من القرن السادس عشر الميلادي، بل يمكن أن يكون المنطق الذي ساد في كافة الأنظمة العسكرية على الدوام، وكان المماليك من أوائله في العصر الوسيط.
وأبرز ما واجهه الأشرف قانصوه الغوري في بداية سلطنته أنه عمل على ملء خزانة الدولة الفارغة إثر خمس سنوات عجاف من القتال والتناحر الداخلي، وقد وضع لنفسه سياسة مالية لم يسبقه إليها أحد من سلاطين المماليك، جاءت تعسّفية بصورة فجة واسعة؛ حيث فرض ضرائب إجبارية على كل نوع من أنواع الممتلكات، على الأراضي والحوانيت والعقارات والطواحين والمعدّيات والسفن ودواب النقل وخدَم القصور، كانت نسبتها تبلغ ما يساوي مدة تتراوح بين سبعة أشهر وعشرة سنوات كاملة، كما ضاعف الرسوم الجمركية، وتلاعب في وزن العملة من الذهب والفضة لتستفيد الخزانة من الفارق، بل الأعجب من ذلك أنه فرض رسومًا/ضرائب على الموتى، وأشار عليه أحد مستشاريه بفرض ضريبة على المماليك، وكاد يفعل لولا أنه واجه معارضة شديدة من جانبهم فخشي مواجهتهم وهم الجيش والأمن، وكانت النتيجة أن حقّق الغوري أغراضه وحصل على ما كان يرغب فيه من أموال، ولكن على حساب الشعب الذي ازدادت حالته سوءًا، وأخذ يئن من قسوة الضرائب الباهظة[8].
واللافت أن الأموال التي جُمعت من الناس بهذه الطرق التعسفية، كان مُعظمها يُصرف بسخاء وإسراف في وجوه غير منتجة، أولها مجالسه الصاخبة، وملذّاته المشتهرة، وعلى جشع المماليك وأطماعهم ومصالحهم الشخصية ليظلوا موالين له، فضلاً عن شراء عدد كبير من المماليك الجدد ليكوّن الغوري منهم فرقة عسكرية جديدة كما فعل السلاطين الكبار من قبله؛ ليكونوا حرسه الخاص والأقوى بين طوائف الجيش، ثم إن هذا المال كان يُنفق منه على المنشآت المعمارية التي بناها الغوري في القاهرة وغيرها، والتي لا تزال شاهدة على عصره[9].
كانت هذه الضرائب والمصادرات السمة الأهم والأبرز في عصره؛ ذلك أن الغوري واجه تحديين كبيرين، هما التحدي العثماني في الشمال بعد هدوء دام لأكثر من ستة عشر عامًا بين الجانبين، والتحدي البرتغالي في المحيط الهندي وجنوب البحر الأحمر واضطراب التجارة في البحر المتوسط، ولجوء سلطان الهند إليه بعد هجوم البرتغاليين، وكانت الهند من أهم موردي البضائع الشرقية إلى المماليك، الذين كانوا يربحون من ورائها أموالاً طائلة من خلال الجمارك المفروضة، واحتكار بعض البضائع التي اهتمت الدولة المملوكية ببيعها للتجار وفق ما تراه أسعار كانت حكرا لها، وغالبًا ما كانت البضائع الهندية تُباع في اليمن وجدّة على ساحل البحر الأحمر.
أدى ظهور القرصنة البرتغالية إلى كساد التجارة في الأراضي المملوكية، وما ترتّب على ذلك من شحّ موارد الدولة المالية في دواوينها المالية، يقول ابن إياس المعاصر للغوري في أحداث شهر محرم سنة 920هـ: “كان في تلك الأيام ديوان المفرد وديوان الدولة وديوان الخاص (دواوين المال) في غاية الانشحات والتعطيل؛ فإن بندر الإسكندرية خراب ولم تدخل إليه القطائع (السفن التجارية) في السنة الخالية، وبندر جدة خراب بسبب تعبّث الفرنج (البرتغال) على التجار في بحر الهند، فلم تدخل المراكب بالبضائع إلى بندر جدّة نحوًا من ست سنين، وكذلك من جهة دمياط”[10].
وامتدت المصائب الاقتصادية بسبب شح الوارادات التي اعتمد عليها الاقتصاد المملوكي، ليتطور الأمر سوءا بفتن المماليك، وعصيانهم للأوامر العسكرية، بسبب ضعف أوضاعهم المالية، حيث اجتمعوا بالسلطان الغوري شاكين له سوء أحوالهم بجرأة وتحدٍّ قائلين: “أنت أشحتَ الدواوين، حتى صار اللحم ينكسر (لا يأتي إليهم) خمسة أشهر، وكذلك العليق يُعطوه لنا من الشون قمح مسوّس ما تأكله الخيل، والجامكية (الراتب) التي تُعطيها لنا ما تكفانا لكراء بيت واسطبل وجامكية (راتب) الغلام ولكسوتنا، والقماش كله غالي حتى الخام ما يُوجد … فما نشبع في أيامك لا من اللحم ولا من الأقسمة، ونحن جياعة عراية”[11]. وبدلا من أن يعمل الغوري على إصلاح الوضع الاقتصادي للشعب والمماليك على السواء، راح يدعّم أمنه الشخصي، وهي فلسفة المستبد في كل زمان، فبالرغم من سوء الأوضاع المالية استجدّ الغوري طبقة جديدة في الجيش المملوكي سُميت بالطبقة الخامسة لم يكن لها أي داع، وراح يعتمد عليهم في حملات الدولة على البرتغاليين في البحر الأحمر والمحيط الهندي، فضلا عن حمايته الشخصية مع حرسه الخاص[12].
وهكذا كان دليل الغوري في سنوات حكمه قائم في الغالب على الاستبداد العسكري، وفرض الضرائب، وعدم الاهتمام بالمخاطر الخارجية ووضع المماليك على الساحة الإقليمية الذي راح يتقلص شيئا فشيئًا مع صعود العثمانيين وضمهم لأراض واسعة من الأناضول كانت تابعة لمصر والمماليك، فضلا عن ظهور الخطر البرتغالي واكتشاف رأس الرجاء الصالح الذي قلص التجارة من مصر باعتبارها المركز الأهم للقارة الأوروبية بين الشرق والغرب، وفي تقريرنا القادم سنرى كيف تعامل الغوري مع الخطر البرتغالي الذي راح يهدد مكانته وعرشه، ويهوي بمصر في هاوية الانهزام العسكري والاقتصادي على السواء.
(المصدر: ميدان الجزيرة)