الشّيخ بن عاشور أوّل رئيس للاتّحاد العام التّونسي للشّغل
بقلم د. فتحي الشوك (خاص بالمنتدى)
عندما تسلّط الأضواء على سيرة الشّيخ العلّامة محمّد الفاضل بن عاشور فغالبا ما توجّه إلى الجانب العلمي المعرفي الأكاديمي الّذي نبغ فيه ليكون أحد أهمّ علماء الدّين الّذين عرفتهم تونس و العالم الاسلامي في القرن العشرين ممّن حملوا مشعل الاصلاح و التّجديد و التّنوير،ليتمّ تناول إسهاماته النّظرية بإسهاب و توسّع متغافلين عن تلك العمليّة التّطبيقية،فهو انخرط منذ نعومة أظفاره في النّضال الوطني ضدّ المستعمر الفرنسي و كان له دورا مؤثّرا في الحركة الطلّابية و مؤسّسا في الحركة النّقابية كما لا ننسى انخراطه مبكّرا في مساندة القضيّة الفلسطينيّة و قضايا الحقّ و العدل في العالم.
فهل كان التّركيز على الجانب النّظري و تجاهل العملي مقصودا ممّن لا يقبلون دورا للدّين في الدّنيا؟
و كيف يمكن من خلال سيرة هذا العالم الفذّ الجليل أن نستلهم نهجا اصلاحيا مثمرا و ناجعا بما فيه خيري الدّنيا و الدّين؟
الشّيخ الفقيه العالم:
ولد الشّيخ محمّد الفاضل بن محمّد الطّاهر بن الصّادق بن عاشور بضاحية المرسى بتونس يوم 2شوّال 1327ه(16اكتوبر1909) و ترعرع في بيت عزّ و علم و حكمة اذ كان والده هو العلّامة محمّد الطّاهر بن عاشور شيخ الجامع الأعظم و نابغة زمانه صاحب تفسير التّحرير و التّنوير و هو من أشرف على تنشئته ،فحفظ القرآن في سنّ التّاسعة و تمكّن من مبادئ القراءات و التّوحيد و الفقه و اللّغة العربيّة و قبل ان يلتحق بالزِيتونة ليتحصّل على شهادة التّطويع سنة 1328ه(1928)ليعمل بها مدرّسا منذ سنة 1351ه(1931) ثمُ التحق بكلّية الآداب بجامعة الجزائر لاستكمال دراسته للّغة الفرنسية فيتخرّج منها سنة1354ه(1934) حاملا أعلى درجاتها العلميّة.
ارتقى سلّم المدرّسين الزّيتونيين حتّى سمّي مدرّسا من الطّبقة الأولى.
ترأّس الجمعية الخلدونية الّتي أسّسها الاصلاحي البشير صفر(1856_1917) سنة 1945و سعى لأجل تطويرها من خلال بعث “معهد الحقوق العربي” و “معهد الفلسفة”.
و بعد الاستقلال سنة 1956 أسندت إليه عمادة كلّية الشّريعة و أصول الدّين في جامعة الزيتونة 1961 و استمرّ في مهمّته حتّى وفاته.
تولّى مناصب قضائية عدّة من بينها ترأّسه للمحكمة الشّرعية العليا كما تولّى منصب مفتي الجمهوريةالتونسية(1962_1970).
كان عالما بارزا في فقه الشّريعة واللّغة و تراجم الأعلام و تدقيق البحث العلمي،عرف بذلاقة اللّسان و فصاحة البيان و قدرته على الاقناع بالحجج الدّامغة و سعة صدره و رجاحة عقله،و حماسته للإصلاح و الاجتهاد و التّجديد و تناوله لكلّ قضايا عصره.
كان خطيبا فصيحا مفوّها و محاضرا مميّزا عرفته جامعات العالم المرموقة ،في السّربون بباريس ،في اسطنبول بتركيا ،في عليكرة بالهند و في جامعات الكويت.
كما كان عضوا في المجمع اللّغوي بالقاهرة و رابطة العالم الإسلامي بمكّة المكرّمة و عضوا مراسلا بالمجمع العلمي العربي بدمشق و مجمع البحوث الإسلامية بمصر و الجامعة الإسلامية بالمدينة المنوّرة.
من مؤلّفاته: الحركة الأدبية و الفكرية بتونس، أركان النّهضة الادبية بتونس، تراجم الأعلام، المصطلح الفقهي في المذهب المالكي، أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي،التفسير و رجاله.
المناضل الوطني و النّقابي:
كان الشّيخ محمّد الفاضل بن عاشور امتدادا طبيعيا لوالده العلاّمة محمّد الطّاهر بن عاشور ،وفيّا للحركة الاصلاحية التنويرية التي وضع أسسها خير الدّين التونسي ،سار على نفس النّهج و قد نذر نفسه لذلك بل أراد أن يثبت أنّ ما يحمله نظريّا قابل للتّنزيل و للتحقّق على أرض الواقع.
فهو لم يتردّد في المشاركة الفعلية و الجادّة في النّضال السّياسي و الاجتماعي و الثّقافي منذ سنوات شبابه الأولى.
كان من بين المساهمين في تنظيم مؤتمر طلبة شمال افريقيا الّذي جمع طلبة من عموم أقطار المغرب العربي سنة 1931 و قد تناول في مداخلته ضرورة و وجوب تطوير التعليم الزيتوني في تونس و في جامعة القرويين بالمغرب كما ركّز على أهمّية تعليم المرأة.
و في 20جانفي 1946 ساهم في بعث الاتّحاد التّونسي للشّغل لينصّب على رأس المنظّمة فيما اختير الشّهيد فرحات حشّاد كاتبا عامّا لها، و هو ما أثار حفيظة النّقابات الفرنسية ذات التوجّهات و المرجعيّة الشّيوعية المهيمنة على السّاحة النّقابية لأسباب تاريخيّة و ذات الامتدادات القويّة في تونس و الّتي لم تستسغ وجود “رجل دين” زيتوني معمّم على رأس المنظّمة الشغّيلة،فحاولوا مستطاع جهدهم عبر الضّغط بواسطة النّقابات العالمية قصد عزله،ليصمد الشّهيد فرحات حشاد في البداية معلّلا بالردّ:”إنّه نقابي يمثّل الزّيتونيين شأنه شأن النّقابات المسيحية عندكم” ،و ليرضخ في النّهاية و يتمّ تجميد عضويّته و عزله .
انخرط الشّيخ الفاضل في النّضال ضدّ المستعمر الفرنسي و كان من بين الشّخصيات الوطنيّة الّتي حضرت مؤتمر ليلة القدر الّذي عقده الحزب الحرّ الدستوري في شهر أوت 1946 حينما فرّ الحبيب بورقيبة الى الشرق،و قد تمخّض عن فعاليّاته إمضاء عريضة تطالب باستقلال البلاد و خروج القوّات الأجنبيّة منها لتمكينها من الانضمام الى الجامعة العربيّة و منظّمة الأمم المتّحدة،فكان ردّ سلطة المستعمر أن قامت باعتقاله صحبة مناضلين بارزين آخرين نذكر من بينهم صالح بن يوسف و المنجي سليم و علي البلهوان و الباهي الأدغم و أحمد بن ميلاد و الطيب العنابي و الصحبي فرحات و سليمان بن سليمان و عمار الدخلاوي ،ليتمّ الافراج بعد ضغط شعبي و من الباي نفسه في 31 أوت 1946،فأقام لهم الشيخ محمد الفاضل بن عاشور حفلا كبيرا بالمرسى احتفاء بهم.
في خريف 1946أصبخ الشّيخ عضوا بارزا في الدّيوان السّياسي للحزب الحرّ الدستوري ليهمّش دوره و يستبعد كما حصل مع سابقيه من زيتونيين إصلاحيين ذوي التوجّه الإسلامي .
الهمّ الوطني القُطري لدى الإصلاحي المجدّد تمدّد و اتّسع ليشمل الأمّة بعد القرار الجائر بالتّقسيم و منح المغتصب الصهيوني ما لا يستحقّ،حيث تصدّر صفوف المدافعين عن حقّ الشّعب الفلسطيني و عقد لأجل ذلك لقاء جماهيريّا تحسيسيّا بجامع الطابع بتونس حيث أكّد أنّ فلسطين هي وطن الفلسطينيين و لا حقّ لغيرهم فيه،كما حاضر متناولا القضيّة الّتي أصبحت محور اهتماماته في أربعة مناسبات بين 17ديسمبر 1947و 7افريل 1948،تحت عنوان” فلسطين الوطن القومي للعرب”.
العالم الإصلاحي الشّامل:
هكذا كان الشّيخ محمّد الفاضل بن عاشور حاملا لهمّ وطنه و أمّته ،مدافعا عن هويّة مستهدفة من قبل مستعمر غاشم سعى إلى تغييرها قسريّا مباشرة و عبر أدوات تنفيذ محلّية الصّنع ،فرّخها و زرعها لتقوم و تكمل المهّمة بالوكالة فكانت خير خلف لأحسن سلف!
خلال نشاطه النّقابي كان لا يخفي هواجسه من أن تفقد المنظّمة الشّغيلة بوصلتها لتوظّف في خدمة الايديولوجيّات الغربيّة التغريبيّة اللّائكيّة منها بالخصوص،و يبدو أنّ رجّات زلزلة التّأسيس مازالت ارتداداتها مستمرّة الى يومنا هذا حيث يغيّب دور الشّيخ المؤسّس في الغالب أو يذكر باستحياء و على عجل و يقزّم دوره عن قصد للقطع مع مرجعيّة يرونها تتناقض مع العمل النّقابي و يصنّفوزها رجعيّة ظلاميّة متخلّفة!
و هو ما نلاحظه أيضا في سرديّة البعض لتاريخ الحركة الطلّابية التّونسية الّتي يستأصل منها جزءا أصيلا من نشاطها بسبب أصولها الزّيتونية.
أمّا في الحركة الوطنيّة الّتي صيغت على مقاس البطل الواحد الملهم و المنقذ فحدث و لا حرج حيث اشتغلت ممحاة أشباه المؤرّخين لتمحو كلّ دور لرفقاء النّضال و تنفخ في صورة الزّعيم محرّر الأوطان،خصوصا إذا ما ثبتت لهم صلة جينية أو شبهة اتّصال بالزّيتونة و العروبة و الإسلام.
و هو ما يستدعي اعادة قراءة موضوعيّة لتاريخنا المعاصر و اعطاء كلّ ذي حقّ حقّه لتصحيح المسار.
بعتبر الشّيخ محمّد الفاضل بن عاشور مثالا حيّا للعالم الإصلاحي الشّامل فإلى جانب نضاله بالكلمة و صفحات الكتب و منابر العلم فقد عرفته الميادين على أرض الواقع كلّما استدعى الظّرف ذلك.
كان مؤمنا بأنّ الأسلام دين تطوّر و اجتهاد و عمل و هو صالح لاستنباط الحلول و معالجة قضايا المجتمع المتنوّعة و المتجدّدة من عصر إلى آخر.
هو رمز للعالم الإصلاحي المجدّد ،المجتهد و المتنوّر ،المنفتح على مختلف الآراء ،و الرّافض لكلّ أشكال التشدّد و التعصّب و الانغلاق و التكلّس.
و هو عالم حيّ يعيش ما يعيشه وطنه و أمّته فيألم لألمها و يسعى لرفع وجعها و إرساء نهضتها حتّى أنّ أحد المقرّبين منه قال فيه حينما وافته المنيّة بعد مرض عضال:”قتله حمله لهمّ الأمّة و همّ الاسلام”.
توفّي في 20 أفريل 1970 ،رحمه الله و أسكنه فسيح جنانه.
المراجع: _شيخ الجامع الأعظم ( شريط وثائفي،الجزيرة الوثائقية2015)
_د.علي الزيدي:الزيتونيون،دورهم في الحركة الوطنية التونسية 1904_1945(2007).
_محمّد الفاضل بن عاشور: الحركة الأدبية و الفكرية في تونس.