مقالاتمقالات مختارة

الفرق بين الرخصة الشرعية وتتبع رخص العلماء

بقلم عدنان بن عيسى العمادي

الحمد لله الذين جعل شريعتَه سَمحةً بيضاءَ نقيةً، وجعلَ هذه الأمةَ أمةً موَفقةً مَهديةً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده أبانَ لنا الدينَ أوضحَ بيان، وأنزل إلينا الهدىٰ والفرقان؛ وعلَّمنا ما لم نكن نعلم، وكان فضل الله علينا كبيراً، أما بعد:

فإن الله تعالى أَحكمَ فرائضَهُ في كتابه وفي سنةِ نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أمرَنا باتِّباعِها؛ فقال سبحانه:  ﴿وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [سورة اﻷنعام 155]، وقال تعالى:  ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾  [سورة اﻷحزاب 36]، ففصَّلَ لنا شرائعَه تفصيلا، وأَلزمَناها إلزامًا ؛ فكان مما أَلزَمَنَاهُ مِن شريعتِه أمُّ الفرائضِ: الصلاةُ والصيامُ وغير ذلك ؛ فقال عز وجل:  ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾  [سورة النساء 103]، وقال سبحانه:  ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾  [سورة البقرة 183].

ثم رَخَّصَ اللهُ تعالى في بعضِ ما أَحكمَ مِن الفرائضِ بتركِه أو تخفيفِه رحمةً منه وفضلًا ورَفعًا للحرَج عنَّا كما قال سبحانه:  ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾  [سورة الحج 78]، وقال تعالى في موضعٍ مما خفَّفَ عن عبادِه:  ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾  [سورة اﻷنفال 66]، وأشارَ إلى الأخذِ بالرَّخصِ عند العجز عن الواجباتِ المُحَتَّماتِ بقوله:  ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [سورة التغابن 16].

ومما جاء من الرُّخَصِ: رُخصتُه سبحانه في تخفيفِ الصلاةِ في الخوف والجهاد والسفر ؛ فقال تعالى:  ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾  [سورة النساء 101].. وقال في رُخصتِه في التيممِ لمن لم يجدِ الماءَ:  ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾  [سورة النساء 43].. وقال في رخصتِه بترك الصيام في المرض والسفر:  ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ۚ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾  [سورة البقرة 184]، وغير ذلك من الرخصِ الثابتةِ بنصِّ الكتابِ أو السنةِ.

وقد بيَّنَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الأخذَ بِرُخصةِ اللهِ تعالى محبوبٌ عند اللهِ ؛ فقال فيما روينا عنه: « إنّ اللهَ يحبُّ أنْ تُؤتىٰ رخصُه، كما يَكره أن تُؤتىٰ معصيته » [ أخرجه أحمد: ٥٨٦٦، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ]، وقد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه غضِبَ على أُناسٍ تَرَكوا رُخصتَه في أمرٍ من الأمور ؛ فعن عائشة أمِّ المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: ” رخَّصَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في أمرٍ ؛ فتَنَزَّه عنه ناسٌ مِن الناسِ، فبَلَغَ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم ؛ فغضب حتى بانَ الغضبُ في وجهه، ثم قال: « ما بالُ أقوامٍ يَرغبونَ عمّا رُخِّصَ لي فيه، فواللهِ لَأنا أعلمُهم بالله وأشدُّهم له خشيةً » [ أخرجه البخاري في كتاب الأدب من صحيحه: ٦١٠١، ومسلم في كتاب الفضائل من صحيحه: ٢٣٥٦، واللفظ له ]..

ثم جاءَ أقوامٌ فاشتبَهَ عليهم أمْرُ الرخصةِ الشرعيةِ – التي كان مَنشأُها الوحيُ ورحمةُ الله تعالى بالمؤمنين – بأمرِ رخصةِ العلماء التي مَنشأُها الاختلاف بينهم في فهمِ النصِ أو عدمِ بلوغِ النص لبعضهم ؛ فجعلوا الرُّخصةَ مِن أقوال العلماءِ في اختلافِهم -التي هي الأسهل من أقوالهم – كرخصةِ الشرعِ التي جاء بها النصُّ ؛ فغلطوا في ذلك فيما يظهرُ لي مِن ستةِ وُجوه:

الأول: أنّ رُخصةَ الشريعةِ حكمٌ شرعيٌّ جاء به اللهُ تعالى في كتابِه نصًّا أو بيَّنَهُ نبيُّه صلى الله عليه وآله وسلم في سنتهِ بيانًا واضحاً؛ فهي وحيٌ، أما الأيسرُ مِن أقوال العلماءِ فليس بنصٍّ شرعيٍّ ؛ إنما هو اجتهادٌ ظنيٌّ، وليست اجتهاداتُ العلماءِ أحكامًا شرعية مُتَيَقَّنةً.

الثاني: أنّ رخصةَ الشريعةِ مأمورٌ بها على وجهِ الندبِ والاستحباب، وأما الرخصةُ من كلام العلماء فليست مطلوبةً في الشرعِ أصلًا، وإنما المطلوب شرعًا مِن العامة اتِّباعُ الأعلمِ الأوثقِ الأورَعِ، لا تتبُّعِ الأيسرِ مِن أقوالهم.

الثالث: أن الأخذ برخصةِ اللهِ تعالى إنما هو امتثالٌ لأمرِ الله تعالى وأمرِ رسولِه صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فالآخذُ بها يأخذُ بها على وجهِ التعبُّدِ لله ابتداءً، وإن كان مع ذلك يريدُ التخفيفَ الذي أباحه اللهُ له، وأما مَن يتتبع الأيسرَ من أقوالِ العلماء ؛ فهو يتتبع مِن أقوالِهم ما تَشتهيه نفْسُه وتَهواه، وليس يَتَحرىٰ بذلك مرادَ اللهِ تعالى ولا أمرَه.

الرابع: أنّ الرخصةَ الشرعيةَ لا تحتملُ الخطأَ والصواب ؛ بل كلُّها صواب شرعه اللهُ، وأما أقوالُ العلماء ففيها الصوابُ وفيها الخطأُ، والواجبُ على المسلم أنْ يَتَحرَّىٰ الصوابَ منها لا أنْ يَتبَعَ أخفَّها على نفسِه وأَوفَقها لِهواه.

الخامس: أنّ الرخصةَ الشرعيةَ رخصةٌ حقيقيةٌ ؛ فهي تركٌ أو تخفيفٌ بعد إيجابٍ أو زيادةِ تكليفٍ، وتَزول هذه الرخصةُ بزوالِ سببِها العارِضِ ؛ كقصر الصلاة للمسافر وترك الصيام للمسافر والمريض، أما الرخصة من أقوال بعضِ العلماء في المسائل الخلافية فليست كذلك ؛ فهي لم تكن واجبةً ثم خُفِّفَتْ ولا شُرِعَ تركُها لسببٍ عارِضٍ، وإنما هي القولُ الأيسرُ والأسهل مِن قولَينِ فأكثرَ مِن أقوال العلماء التي اختلفوا فيها ؛ فليست مما كان واجبًا ثم شُرع تركُه تخفيفًا لسببٍ عارِضٍ، وإنما هي حكمٌ واحدٌ يحتملُ الصوابَ والخطأَ أَخفُّ مِن حكمٍ آخرَ على صفةٍ ثابتةٍ لا تتغير ؛ كأخْذِ مُتتبِّعِ الرخَصِ في اختلافِ العلماء في المعازفِ بقولِ المبيحين لها ؛ لأنه أيسرُ وأحبُّ إلى قلبِه، رغم أن الخلافَ في المعازف خلافٌ شاذٌّ معارِضٌ لصحيحِ النصوصِ ؛ فليس هذا من باب الرخصةِ الشرعية التي هي تخفيفٌ لِسببٍ عارضٍ بعدَ إيجابٍ.

السادس: أنّ الرخصةَ الشرعيةَ حكمٌ شرعيٌّ مُحكَمٌ، وأما الأيسرُ مِن أقوالِ العلماءِ فهو مِن المتشابهاتِ ؛ لِتَرَدُّدِهِ بين الحِلِّ والحُرمةِ، وما كان مترددًا بين الحلِّ والحرمةِ كان تقوى اللهِ تعالى في تَركِهِ واجتنابِه كما أرشدَ إلى ذلك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: « إنّ الحلال بيِّنٌ، وإن الحرام بين، وبينهما مُشتبهاتٌ لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس ؛ فمن اتقى الشبهات استبرأَ لِدينه وعرضِه، ومن وقع في الشبهاتِ وقع في الحرام، كالراعي يرعى حولَ الحِمىٰ يُوشكُ أن يَرتعَ فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى اللهِ محارمُه… » [أخرجه البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه: ٥٢، ومسلم في كتاب البيوع: ١٥٩٩، واللفظ له].

وقد بيَّنَ تحريمَ تتبعِ الرُّخَصِ من أقوالِ العلماءِ عددٌ من الأئمةِ والعلماءِ، وسَمَّوا متتبعَ الرُّخَصِ فاسقًا ؛ كما نص عليه الإمامُ أحمد – رحمه الله – وبعضُ الشافعيةِ [ انظر: البحر المحيط للزركشي ٨/٣٨١، المسودة في أصول الفقه لآل تيمية ص٥١٨ ]، ونقل زروق المالكي – رحمه الله – الإجماع على تحريمه وعَدَّه تلاعبًا يالدِّين والعياذ بالله [ انظر: شرح زروق على متن الرسالة ٢/١١١٢ ]..

ومِن الحَسَن أن أختمَ ببعض النقول عن العلماء في ذلك زيادةً في التثبيتِ ؛ فقد جاء عن التابعي سليمان التيمي – رحمه الله – (ت ١٤٣) أنه قال: ” لو أخذتَ برُخصةِ كلِّ عالمٍ ؛ اجتمعَ فيك الشرُّ كلُّه ” [سير أعلام النبلاء للذهبي: ٦/٣٢٥].

وعن ابن القاسم – رحمه الله – قال: ” سمعت مالِكًا والليثَ بن سعد – رحمهما الله – يقولان في اختلافِ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليس كما قال ناسٌ: فيه تَوسِعةٌ، ليس كذلك ؛ إنما هو خطأٌ وصواب” [الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: ٦/١٧٨].

وقال مالكٌ – رحمه الله -: ” كان زياد مولى عياش يَمرُّ بي وأنا جالسٌ ؛ فربما أفزعني حِسُّه مِن خلفي، فيضع يدَه بين كتفي فيقول لي: عليك بالجِدِّ، فإنْ كان ما يقولُ أصحابُك هؤلاءِ مِن الرُّخَصِ حقًّا ؛ لم يَضُرَّك، وإنْ كان الأمرُ على غيرِ ذلك ؛ كنتَ أَخَذْتَ بالحَذَر” [تاريخ الإسلام للذهبي: ٣/٤١٣].

وقال سَحنون المالكي – رحمه الله -: ” يؤخَذُ هذا العلمُ عن الموثوقِ بهم في دينِهم، المَحسوسِ بخَيرِهم، فإنْ أَخَذوا بالتشديدِ ؛ فعن علمٍ، وإنْ أَخذوا بالرُّخَصِ ؛ فعن علمٍ” [ترتيب المدارك ٤/٣٩٣].

وقد أَحسنَ من انتهى إلى ما سمع مِن هؤلاء الأئمة، والحمد لله رب العالمين..

(المصدر: شبكة الألوكة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى