العقلانية ونظرياتها تزعم النعومة في علاقتها الإنسانية، وتبنيها المنهج المثالي في تعاملها مع المخالفين. هكذا استحوذت على لقب (العقلانية) وحزبها وأغرت متذوقي الفكرة وطلبه العلم والثقافة، واستدرجتهم إلى زاويتها المعتمة، وأوهمتهم أنها كنف الهمّ الاخلاقي والحقيقة والعدل، ثم لا تلبث – شأن تيارات مثالية أخرى – أن تتداعى، وتهوي أمام مرأى مسمع أنصارها وخصومها على حد سواء، وتسقط بفعل التدمير الذاتي، لم يقع على مبناها الصلد المكين أي قصف أو تحرش من خارجها؛ لأن عناصر الفساد والتلف متجذرة في بنيويتها.
كتاب (استبداد العقل) يعرض فصلاً مغيباً أو مهملاً من فصول التاريخ العربي العباسي، ويجلي أحداثاً، يطفو بها إلى السطح، ويعرض حقائق معروفة وأخرى هُمشت، وآن لها أن تسفر عن نفسها مقدمةً وحدثاً واستنتاجاً.
المعتزلة كما يعرض لهم الكتاب نفر من طلبه العلم الشرعي، تفقهوا على يد علماء عصرهم مثل الحسن البصري، غير أن نزعة عقلية مضادة للتأويل السائد والمباشر للنص دفعتهم إلى الصدع برأيهم داخل الدرس الشرعي، ثم تطور الأمر، حيث تحولت أسئلتهم وإشكالاتهم إلى عقيدة كبرى، ميزتهم عن عموم أهل السنة الذين يقودهم ويربيهم صفوة من علماء السلف، الماضون على نهج الصحابة والجيل الأول من التابعين في تلقي العقيدة بالتسليم وتغليب النص على الهوى (الاستقلال العقلي الجامح عن قاعدة التفكير الفقهي)، وتواطأ المؤرخون وراصدو تاريخ المعتزلة على تسميته ب(العقل) وتسميتهم: (العقليين)، أو: العقلانيين، وهم من غلّبوا العقل على ما يرد من سوء فهمهم لمعطيات النص والوحي، وبالتالي فإن ميلهم إنساني ذاتي محض، ينازع الوحي والغيب، ويخوض فيه في سبيل الحقيقة التي تقود إلى العدل، بوصفة قيمة عقدية كبرى داخل التوحيد الاعتزالي، فالعدل يمثل موقفاً شرعياً أوليّاً، يتخطى مفاهيم مركزية إسلامية أجمع عليها أهل السنة، وبهذا ربطوا ربطاً سببياً وبنيوياً بين التأويل الإنساني والعدل والتوحيد، غير أن فهمهم الاستثنائي للتوحيد انعكس على فهمهم للعدل وكأنه ليس عدل المسلمين المتعارف عليه، كما التوحيد عندهم وعند المسلمين.
دشنت معتزلة المأمون والمعتصم والواثق محاكم تفتيش لإثارة الرعب في أوساط العلماء والناس بعد أن خسرت مناظراتها مع الإمام أحمد وأصحابه، شأن دعاة العقل في كل زمان ومكان، إذا فشلوا نظرياً لاذوا بالعنف لحيازة السلطة والزج بخصومهم في غيابه السجون، عبر استدعاءات واعتقالات تنتهي إلى غرف تحقيق وأسئلة متربصة، مدارها القرآن وتصنيفه (خالقاً أم مخلوقاً)، فيلجؤون إلى سؤال إرهابي غاية في الدناءة، حيث يلزمون المتهم بالإجابة على نحو (املأ الفراغ الآتي)، يضطرونه إلى إحدى إجابتين ملزمتين (هل القرآن خالق أو مخلوق؟)، فإن اختار الأول كفر عند جميع المسلمين، وإن اختار الثانية كفر في عقيدة الإسلام وآمن بعقيدة المعتزلة، وكأن هدفهم سياسي بحت، لا شأن له بعقيدة ولا دين، تحت وطأة (أكون أو لا أكون)، أمام هذا السلفي البارع في ردوده، المكين في علمه. إلا أن الإمام أحمد يفطن إلى هذه الحيلة (العقلانية) الدنيئة، ليجيب بالحق والمختلف عن توقعاتهم المريضة قائلا ” القرآن كلام الله المنزل “، فيستشيط جنرالات المعتزلة غضباً، ويلقون به في غيابهم التعذيب؛ لأنه لم يجب على سؤال غبي في صياغته وفكرته.
الكتاب بذل رصداً تاريخياً يكشف التطور التاريخي للأفكار والعهود التي تشكلت فيها النظرية الاعتزالية، يشي بأنها استجابة لا مبادرة وردة فعل لا فعل، والعنف يتبلور فكرةً وانفعالاً في هذه الزوايا الناشزة عن السائد والمتداول الإسلامي السني، فكانت العصابيةُ التعبيرَ الأمثل للأقلية المنبوذة، ما ضاعف من عزلتها وانطوائها على نفسها، رماديةُ عقلها وشعورها، فكان هذا ارهاصاً طبيعياً لاستبداد العقل واستثمار اللحظة التاريخية لنيل الحظوة في البلاط الملكي والانتقام من الأكثرية بتصفية أو إذلال رؤوسها، وامتدّ استبداد العقل أن يكفّر عقل معتزلي عقلاً معتزلياً، كما دب بين شيوخ دأبهم التحريض بعد أن أعيتهم الحيل لإفحام خصم أو إلجام مخالف.
من يطّلع على هذا الكتاب يستدعي طوعاً استبداد العقل الحديث، وما يبدر من العقلانيين الجدد من إقصائية واستئصالية تتخطى الفكرة المتوحشة إلى التكتل الثوري والتأليب والتربص بذوات الخصوم، لا آرائهم، وما يسوّقون له من نماذج تخوينية ورثوها عن أسلافهم المعتزلة بنفس اللغة والخُلق والحقد وإثارة شبهات طائشة، لعلها تصيب مقتلاً.
(المصدر: موقع المثقف الجديد)