بقلم أحمد فتحي هنداوي
يقف المرء حائراً بين التناقضات الفكرية والعملية عند كثير من أبناء الحركات الإسلامية، ومن أشد هؤلاء فجاجه وأكثرهم حيرة هو ذلك الاتجاه السلفي البرهامي، الذي لا تكاد تجد من ينافسه في الساحة في حجم التناقضات العلمية والعملية. فالطبيب ياسر برهامي، والذي يعرف بين اتباعه بأنه أعلم أهل الأرض بالعقيدة، تجده متفرداً في الانفصام بين منهجيته النظرية وتطبيقه العلمي، متناقضا في اختياراته السياسية، بين التكفير النظري للنظم السياسية المعاصرة وعدم اعتراف بشرعيتها، إلى ممارسة سياسية يبدو فيها مؤيداً لها ومحافظاً على وجودها لأبعد حد.
ففي بحثه المنشور في مجلة صوت الدعوة الناطقة باسم الدعوة السلفية بالإسكندرية، تحت عنوان” السلفية ومناهج التغيير” يتبرأ برهامي من العمل السياسي ويقلل من أهميته، ويصوره ككتلة من الظلام والخروج عن قواعد الشريعة. ويتضح ذلك في عدة نقاط حيث يقول:
1. “أما الحكم العلماني الديمقراطي فمصدر السلطة عنده هو الشعب، وتشريعاته تنبني على إرادته وهواه، فلابد للسلطة من الحفاظ على رغبة الشعب ومرضاته، ولا يمكن لها أن تعدل عن إرادة الشعب وهواه، حتى لو أدى ذلك إلى تحليل الزنا واللواط والخمر، فالمبادئ والتشريعات كلها عرضة للتغير والتبديل في الحكم العلماني والديمقراطي، حسب ما تطلبه الأغلبية”.
2. “المجالس التشريعية التي تسن قوانين مخالفة للشرع يلزمون بها العباد، وترى أن للأغلبية أن تفرض رأيها حتى ولو كان مخالفاً للشرع مجالس كفرية”.
3. “الأحزاب التي تقوم على مبادئ العلمانية والديمقراطية والاشتراكية والشيوعية وغيرها من المبادئ الوضعية التي تخالف أصل الإيمان والإسلام من فصل الدين عن الدولة وأنظمة المجتمع والمساواة بين الملل كلها، واحترام الكفر والردة وقبولها، كتعدد الشرائع لا يفسد للود قضية كما يزعمون، كل هذا من العصبية الجاهلية والولاء للكافرين والمنافقين مما يستوجب على كل مسلم رده وهجره ومحاربته والتبرؤ منه”.
في الوقت الذي نظَّر برهامي لكفر النظام المصري العلماني وكفر مؤسساته، نجد أن الدعوة السلفية لم تدع يوماً إلى معارضته أو معارضة مؤسساته عملياً، بل ودعت إلى منع التظاهر ضد النظام |
فالتصور السياسي نظريا للسلفية البرهامية يقوم على تكفير المؤسسات الديمقراطية، والاستنكاف عن المشاركة السياسية، ورفض مبدأ التعددية الحزبية، ولهذا فأنه “من السياسة ترك السياسة”، وذلك نظرا لاختلاف مضمون الحياة السياسية الحالية بالكلية عن التصور الإسلامي للسياسة حسب رأيه. عند هذا الحد النظري بالإمكان تفسير موقفهم، لكن التناقض العملي العجيب، وعدم التوان عن التعاون مع الحكومة المصرية سواء في عهد مبارك أو السيسي ضد خصومهم السياسيين، سواء من جماعة الإخوان المسلمين أو حتى الحركات السلفية الأخرى، بالرغم مما تعتقده السلفية البرهامية من كفر هذه الحكومات.
وهذا ما أكده برهامي نفسه على قناة الحياة في لقائه المشهور والذي صرح فيه من معاونته لجهاز الأمن المصري حتى عام 1994م في القضاء على تيارات العنف السياسي “السلفية الجهادية”، ومن مواقف حزب النور بعد الانقلاب وأثناء فترة حكومة الإخوان المسلمين. ومن العجيب أن برهامي في مقاله “العمل الجماعي بين الإفراط والتفريط”، في مجلة صوت الدعوة أيضاً، يقدم الجماعات الإسلامية كبديل لنظام الدولة، حيث حث أن تقوم هذه الجماعات بوظائف الدولة التعليمية والقضائية والمالية والعسكرية وغيرها، حيث طالب بتكوين الجماعات من أجل إقامة:
1- “الجمع والجماعات والأعياد والتعلم لجميع أحكام الديانة، حتى يوجد العلماء المجتهدون في كل جماعة في قرية أو مدينة أو حصن”، مقدما جماعته كبديل للمؤسسات الدينية الرسمية خاصة مؤسسة الأزهر الشريف.
2- “الحسبة والإمارة والخلافة والجهاد بنوعيه الدفع والطلب، ونظام القضاء والحكم بين الناس بمقتضي الشريعة الإسلامية، وتنفيذ هذه الأحكام من حدود وحقوق وتعزيزات وغيرها”، مقدماً جماعته كبديل عن مؤسسات الدولة الثلاث من التنفيذ والتشريع والقضاء وكذلك الدفاع.
3- “نظام المال الإسلامي القائم على سد حاجات المسلمين وخاصة فقراءهم وأراملهم وأيتامهم وغيرهم، ووجود أنواع المهن والصناعات التي يحتاج إليها المسلمون”، وهنا يقدم جماعته كبديل للمالية والقوي العاملة.
ففي نفس الوقت الذي يرفض فيه برهامي -نظرياً- مؤسسات الدولة المصرية، وآلياتها، ويدعو لإنشاء الجماعات من أجل أن تحل محل هذه المؤسسات، فهو عملياً يشارك ويعاون هذه المؤسسات، في القضاء على الحركات الإسلامية الأخرى، كما سبق بيانه، بل ويشارك واتباعه في الانقلاب العسكري على أول رئيس مدني منتخب، والمنتمي للحركة الإسلامية، لعودة النظام العسكري، بل وتثبيت رئيسه المنقلب بتأييده وعمل الندوات التي تجوب مصر من أجل تأييده.
ويمكن تفهم سلوك النظام المصري في توظيف فتاوي ومواقف هذا التيار في اللعبة السياسية للتأثير على الناس، بما يضعف إمكانات ومجالات العمل السياسي الإسلامي. ولا أدل على ذلك من سماح نظام مبارك للدعوة السلفية البرهامية بالتمدد وتكوين تنظيم كبير ممتد في معظم المحافظات المصرية، والذي ظهر على السطح بعد أحداث ثورة 25 يناير 2011، مما مكنهم من تكوين حزب النور، والذي مثل ثاني أكبر الأحزاب المصرية بُعيد الثورة اعتماداً على تنظيم الدعوة السلفية بإمكاناته المادية والبشرية.
ففي الوقت الذي نظَّر برهامي لكفر النظام المصري العلماني وكفر مؤسساته، نجد أن الدعوة السلفية لم تدع يوماً إلى معارضته أو معارضة مؤسساته عملياً، بل ودعت إلى منع التظاهر ضد النظام واعتبرته من المفاسد المحرمة، حيث كان من آخرها الامتناع عن المشاركة في أحداث ثورة 25 يناير 2011م، وما بعدها من أحداث، معللة بغلبة مفسدتها على مصلحتها. وعلى العكس مما نظَّرت له من حرمة الأحزاب والمشاركة في البرلمانات، سارعت في المشاركة بعد ثورة 25 يناير بذراعها السياسي حزب النور في الانتخابات البرلمانية، وأصبحت ثاني أكبر حزب في عدد المقاعد بالبرلمان، وسبحان مغير الأحوال.
ولذلك يمكننا القول أن الدعوة البرهامية شاركت مشاركة سياسية “سلبية” -إن جاز التعبير- في تجفيف الحياة السياسية قبل وبعد الثورة، بدعوتها لإخراج تيار الإسلام السياسي من الحياة السياسية المصرية، والتكريس للسلبية السياسية للمواطن المصري تحت غطاء من التوجيه الديني، وعملها ضد جماعات الإسلام السياسي بكل أطيافها سواء منها جماعة الإخوان المسلمين أو الحركات السلفية الأخرى، وبذلك عملت كحائط صد أو صمام أمان ضد أشكال المعارضة الإسلامية للنظام المصري قبل ثورة يناير 2011 سواء منها السلمية أو العنيفة، ثم المشاركة مع النظام العسكري للانقلاب وعودة الدكتاتورية.
لا شك أن ظاهرة “ياسر برهامي” ستوفر أرضية خصبة للباحثين للكشف عنها كنموذج للتناقض والانفصام العجيب بين النظرية والتطبيق، واللعب بعقول الأتباع باسم الدين |
يطرح برهامي في بحثه “السلفية ومناهج التغيير” نموذج للدائرة المفرغة للتغيير السياسي للواقع المصري، كأنه يريد تتويه الحركة الإسلامية في دائرة مفرغة، حيث يؤصل لمنهج التغيير من خلال عدة نقاط:
1- ينتقد منهج جماعة الإخوان والجماعات التي تؤمن بالعمل السياسي من خلال المجالس النيابية.
2- ينتقد منهج الحركات الجهادية المسلحة، ولكن نقد برهامي للحركات السلفية المسلحة ليس من باب رفض المواجهة المسلحة، ولكن من باب ترك المواجهة لعدم القدرة عليها، مما يؤكد الاشتراك في الفكرة النظرية بينها وحدوث الخلاف في التطبيق العملي فقط.
3- ينتقد -نظرياً- الحركات السلفية ذات المنحي التربوي لعدم إنكارها على الأنظمة الحاكمة مسائل كعدم الحكم بالشريعة الإسلامية، والتبعية للغرب.
ثم يؤسس برهامي بعد ذلك لما سماه “الدعوة السلفية والتغيير” في ثلاثة نقاط:
• الدعوة إلي الإيمان بمعانيه وأركانه كلها: والتي أثبت فيها محاربة الشرك في كل صوره والتي منها شرك الحكم والولاء.
• إيجاد الطائفة المؤمنة الملتزمة بالإسلام والساعية في نفس الوقت لتحصيل أسباب القدرة فيما تعجز عنه في الحال.
• كيفية التمكين: يقول برهامي “فنحن لا نوجب على الله أمرا معيناً نعتقد حتميته ولزومه وأنه لا سبيل سواه، والأخذ بالأسباب المقدورة لنا واجب علينا والنصر من عند الله لا بالأسباب”.
فمع انتقاد الدعوة البرهامية لطرق التغيير السياسي السلمي أو المسلح أو تربية الفرد ونشر العقيدة السليمة، لم يأت منهج التغيير الذي صاغه برهامي بجديد مختلف عمن انتقدهم، وانتهى إلى قوله “والنصر من عند الله لا بالأسباب”، تاركاً الأسباب وطريقها ومنتقداً لكل سبب أخذ به غيره من حركات التحرر سواء ذات التوجه الإسلامي أو غيرها، مانعاً اتباعه من سلوكها، من غير وصف أو سلوك سبب آخر، تاركا اتباعه يدورون في دائرة مفرغة.
هذه الدائرة المفرغة والأفكار المتناقضة نذر يسير من تناقضات أطروحات برهامي والتي باتت كالمتاهة لاتباعه ومريديه. فهل تم تشكيل الدعوة البرهامية لتلعب هذا الدور؟ لا شك أن ظاهرة “ياسر برهامي” ستوفر أرضية خصبة للباحثين للكشف عنها كنموذج للتناقض والانفصام العجيب بين النظرية والتطبيق، واللعب بعقول الأتباع باسم الدين، توجيهم لخدمة نظم الظلم والاستبداد العسكرية في عالمنا العربي.
(المصدر: مدونات الجزيرة)