بقلم إبراهيم الحكيمي
يفعلها وكأنه مُدرك لما تخفيه الصدور، مستنتجًا من ذلك صواب رأيه وصِحّة تفكيره مقابل توحُّل الآخرين في مستنقعات الخطأ.. يستشري هذا المرض كثيرًا في المجتمعات العربية. يُصادَفُ المصابون به في كل مكان تقريبًا، في المجالس، المدارس، الجامعات، وأثناء النقاشات والندوات وأحيانًا ضمن الأسرة الواحدة.
إنه وبرغم ما اُستُحدث في العالم من تطورات هائلة في كل المجالات العلمية والإنسانية، والاجتماعية؛ وبالتالي توقعنا بديهيًا أنها ستساهم بشكل كبير في رفع مستويات الوعي عند الفرد والمجتمع؛ إلا أن الملاحَظ والملموس واقعيًا أن معظم عقليات الأفراد ترفض الانفتاح لتستوعب هذا العالم بأبعاده، وتغَيُّراته، وزواياه الكثيرة. لا زِلتَ اليوم تُواجه من يَعتبرك عدوًا لا تُجالَس ولا تُؤتَمن لأن لك رؤية تُخالف ما رُسّخ في عقله، حتى وإن كانت هذه الرؤية لا تتعارض جوهريًا مع مخزونه الفكري والعقائدي. ولا زِلتَ تسمع أخبارًا عن ضحايا، اُنتُزعت أرواحهم ثمنًا لانتماءاتهم وجُرأتهم في مخالفة الموروثات التي تَرتزق من خلفها كيانات وجماعات عِدّة..
التعصب الذي يُفترض أن يكون مُوضوعًا في أحد زوايا المتاحف الأثرية مازال جاثمًا على عقول البعض، تاركًا إياهم مثيرون للشفقة في مرمى سهام الجهل. التعصّب للفكرة، للرأي، للطائفة، للدين، للعرق، وللجنسية وغيرها مرعبٌ جدًا في زمن أصبح فيه العالم كله وطنًا -افتراضيًا- واحدًا لا تفصله حدود، وصار بإمكان أي شخص في شرق الأرض – بكل بساطة-أن يُكوّن صداقات مع آخر في غرب الأرض ويحتك بالثقافات المختلفة ويتعلم ما طاب له من العلوم والمعارف.
جمال الإسلام بتجدده، ومبادئه التي تمنح للجميع حقوقهم حتى بعدم اعتناقه وأسّس للتعايش والسلام وتقبّل الآخر كما خلقه الله |
إلا أن هذه البيئات الافتراضية، لم تستطع أن تَمحي آثار الخطوط الحمراء التي قَيّدت بها البيئة الواقعية مخيلات البعض، فعجزوا عن التحرّر وصاروا يَثِبون كمن مسّه الشيطان لمجرد ملاحظتهم حركة تتجاوز تلك الخطوط الحمراء التي سببت انكماشًا مخيفًا لعقولهم.. لقد صنعت الطوائف الدينية المتشددة، والأُسر المنغلقة على موروثاتها وتقاليدها جيلًا مرتبكًا يخشى في كل لحظة أن يتقدّم خطوة. لأنه محشو بأفكار أن الفتنة كامنة في انتظارهم هناك، وأن النار متلهفة خلف ذاك الأفق لالتهام كل قادم..
ما الذي يدفعك حقًا إذن للشتيمة والتجريح، وخلق الفُرقة وزرع الكراهية والحقد بين أبناء مجتمع واحد؟ جمال الإسلام بتجدده، ومبادئه التي تمنح للجميع حقوقهم حتى بعدم اعتناقه فقال (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) “الكافرون”.. (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) “البقرة”.. وأسّس للتعايش والسلام وتقبّل الآخر كما خلقه الله، فكما لك حقٌ في إبداء رأي تعتبره صواب، فللآخر كذلك حقٌ في إبداء رأي قد يعتبره صواب مثلك.. فالشورى أساس لمبدأ الحرية في التعبير وقول الرأي مهما كان مخالفًا وشاذًا والحقّ أحقّ أن يُتّبع في النهاية بعد خوض كل طقوس الاختلاف، واتضاح الأمر، والبيان للناس أين تكمن المصلحة العامة.
هل من الحكمة أن تَصُبّ سخطك الأعمى على فكرة أنت لم تعطِ لنفسك الوقت الكافي لاستيعابها؟ ترفضها لمجرد ظنّك فقط أنها مدمرة وخاطئة، كيف إذًا كنت ستتعامل مع عالم من صنع أفكارك أنت وحدك؟ عالم معزول ليس فيه إلا ما تصنعه يداك.. أرجح يا صديقي أنك ستعيش ملتحفًا غُبار الأرض لا حول لك ولا قوة.
استمع يا صديقي.. استمع أكثر مما تتحدث، وحين تتحدّث لا تَخُض فيما تجهل. اقرأ أولًا واعرف جيدًا ما أنت بصدد رفضه وتحريمه ومحاربته. وإياك.. إياك أن تَسوء أخلاقك في ثورة غضبك أو في سكينتك، فلا تنسَ أنك تحارب العالم بدعوى الفضيلة والدّين وأنت بفعلك تُناقضهما. وبعد إن لم تتحلى بأخلاق دينك الذي تتبعه في أشد لحظات حاجتك، فكيف نفسر أمر قناعتك به؟ فما اقتنع امرئ بأمر ما إلا امتثله رأيًا وسلوكًا. عُد من جديد إلى البداية يا صديقي.. وهذه المرة استعمل عقلك في التعلّم ووظّف مبدأ الشك الذي يوصل إلى اليقين ولا تنسَ أن تكون ناقدًا للفكرة في معزل عن شخص صاحبها.
(المصدر: مدونات الجزيرة)