مقالاتمقالات مختارة

موقفُ الإسلامِ من الظَّاهرة القوميّة (3)

بقلم د. حسين عبد الهادي آل بكر

 

كيف نطرح قضايانا؟

يمكن أن نطرح حلنا لها من القاعدة الحقوقية التي تحدد العلاقة بين الأفراد من جانب وبين الشعوب من جانب آخر، فغياب هذه القاعدة يدخل مسائلنا في حكم المستحيل المستعصي.

المسألة المستحيلة لا توضح العلاقة مع الآخر لعدم استنادها لقاعدة حقوقية، الأمر الذي يجعلها مشاعا لتدخلات من الخارج فيسهل استغلالها، فانفجار الثورة السورية وارتفاع وتيرة التوجه نحوها واستغلالها؛ يدل بشكل واضح على عمق السياسة الدولية في المسألة، على الرغم من أن التدويل في هذه المسائل غير مفيد، وخصوصا أننا نملك إرثا تاريخيا من سياسة التدويل، فالأمم المتحدة وقوى الاستكبار العالمي عن طريق مجلس الأمم سبّبت مزيدا من التدهور والضياع للحقوق. لأن المسألة المستحيلة تفرز حلولا دبلوماسية لا علاقة لها بالواقع، فضياع القاعدة الحقوقية يجعل كافة المبادرات والحلول متعلقًا بالآخر وليس بأصحاب المسألة، مما يجعل الحلول صفقات سياسية لا علاقة لها بمصير المجتمع والأمة.

ولهذا لا بد من مبادرات سياسية واقعية وفق القاعدة الحقوقية ووحدة الأمة للمسألة التحليلية، لأنها في حقيقتها تعبر عن مأزق سياسي بالدرجة الأولى.

وأرى أن تطرح المبادرة وفق الأسس التالية:

1- الحرية لقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [ سورة الكهف: آية 29]، وقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [سورة البقرة: آية 256] وبالتالي لا إكراه في السياسة.

2- الكرامة الإنسانية لقوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} [سورة الإسراء: آية 70].

3- التعارف لقوله تعالى: {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [سورة الحجرات: آية 13].

دعوة إلى تعارف القوميات والحضارات على أساس الحوار والتفاهم والتعاون بدلا من الحروب والصدام الحضاري، وهذه الدعوة قائمة على أساس الحقوق والواجبات، فهل نحن مستعدون لطرح مشاكلنا ووضع حلول لها وفق هذا الطرح؟ وإذا نجحنا فلماذا لا نقدمه للعالم كمشروع حضاري لهذه الأمة.

إن النظر في مشاكلنا وفق القاعدة الحقوقية مع النظر في مصلحة الأمة هو أساس كل التصويبات التي يمكن أن تصحح المسار.

إننا أمام محاولة إيضاح استراتيجية الحل الإسلامي لقضايانا؛ نجد أنفسنا أمام كمٍّ من المعالجات التي أفرزت قاموسا ضبابيا لأبعد الحدود، لأن قضايانا داخلها الشأن الداخلي والخارجي، ولهذا لا بد من صوابية المنهج من جهة والوضوح من جهة ثانية لحلها.

إن الحل الإسلامي يحاول إعادة التفاعل داخل الأمة عبر توضيح ماهية الأمة، وإبراز الهوية داخل العناصر المكونة لها ثم يأتي الأمر الحقوقي ليثبت توازنًا في الحقوق والواجبات، ويزيل كافة أشكال اللبس، ويعطي زخمًا للأمة من خلال الاستفادة من كافة الإمكانات المتوفرة.

فالأمة بدون الجامع العقيدي تصبح قطعانا بشرية تتحكم فيها النزوات المريضة والإرادة الخارجية، وهذا ما حصل خلال القرن العشرين عندما ضاعت أو ضعفت الهوية.

إن قواعد الحل الإسلامي لا تصبح مجدية دون المؤسسة الجامعة التي تضمن استمرار العمل وتصونه من رغبات الأشخاص، لأن ماهية الأمة لا تعود إلى أصل سلالي واحد ومعين، بل هي مزيج من كافة الشعوب والعناصر منذ فجر الإسلام، ولا يمكن فهم الأمة بتعدد الولاءات، لأن الأمة الواحدة تفرض الولاء الواحد على أي ولاء آخر،

إن تعدد الولاءات داخل الأمة الإسلامية مزقها وجعلها أجزاء مبعثرة ما بين الولاء الطائفي والعشائري والقبلي والأسري والحزبي.

إن إزالة الحواجز بين مختلف العناصر المكونة للأمة هو التكتيك العملي لتطبيق استراتيجية المجتمع الواحد.

فتمزيق الجغرافيا هو حكم على الأمة بالتفرق والتقسيم والانعزال، وهذا ما حصل رسميا في اتفاقية سايكس بيكو، حيث انقسمت الأمة وأصبحت تعيش حالة المسألة المستحيلة في قضاياها ومشاكلها.

إن جغرافية الوطن وحدوده ليست مسلَّمات ترسمها السياسات الدولية والإقليمية، إنما هي حياة الأمة ووحدتها، لأن الجغرافيا هي كل متكامل، فلا يمكن مثلًا أن نفهم كردستان في ظل تقسيم إقليمي لأن هذا التمزق يمزق القاعدة لوحدة الأمة.

وليس الشأن الكوردي سوى واحدا من الأمور التي تحتاج إلى حل حقيقي، لأنه في النهاية يخصنا كأمة تحرص على وحدتها… فالقُوى الأجنبية عبر السلطات الإقليمية قامت في الفصل ما بينهم وبين الأمة عبر خلق نقاط تعسفية، ولهذا فإن الحل الإسلامي يرفض كافة المبادئ والقواعد الاستبدادية، ويعارض التدخلات الخارجية لحل هذه القضية.

الحل الإسلامي يأخذ الأمور من أساسها فيعتبر أن عليه مواجهة النزعات العنصرية لدى الدول الإقليمية التي أدت إلى ترسيخ تمزيق الأمة في النفوس بعد أن كان في الجغرافيا.

فعندما تنعدم الحدود الإقليمية السياسية وتكون هناك ولايات إسلامية متحدة، يصبح التعامل بين الأفراد مفتوحًا دون قيود عرقية، وعندئذ تقوم الوحدة داخل الوطن الإسلامي.

إن العشوائية والانقياد وراء تيار المشاعر فقط لا يجدي في مجال تنفيذ الحل الإسلامي، فلا بد من التنظيم والتخطيط لكافة مسائلنا المستعصية، كي يكون الحل إسلاميا متكاملا، والطرح الإسلامي يكون واقعيًا لأنه يرفض كافة الحالات المجتزأة والفوضوية الموجودة في الأمة.

إن ما عرضناه هو المخارج التي نصل إليها عبر هذا الحل، وهو طرح فكري بالدرجة الأولى، فمشاكلنا بعد أشكال المعاناة والاضطهاد التي طرأت عليها، وبعد الأحداث السياسية التي ضربتها تشابكت بحيث أصبح المنهج العلمي والموضوعي غائبا عنها.

وهنا لا نسجل قوالب جاهزة للحل، ولا صيغا سياسية يمكن اتباعها لتصبح الأحلام واقعا، إنما ننوه بالمنهج الغائب بكل ما يعنيه غيابه من غموض في مشاكلنا.

فالشأن السوري اليوم هو خط النضال والمعاناة في جزء من أمتنا، وهو عرضة لمختلف أنواع المساومات والضغوط والمبادرات، بينما يبقى النظر فيه مقصورا على فكرة ضيقة، هي التشكيل السياسي والظرف السياسي دون أي اعتبار لترابط هذا الشأن مع قضايا الأمة.

والمطلوب منا اليوم إعادة صياغة ذاكرتنا المعاصرة، وبالتالي تركيب العقل المسلم وفق المنهج السليم بحيث يستطيع صياغة حاضرنا ومستقبلنا بشكل جدي وواضح، وقضية من هذا النوع يحتاج فهمها فهما كاملا إلى درس طويل عميق، ولذلك يجب أن لا نتركها لمجرد استنتاجات الأمزجة الشخصية أو الحالات السياسية العارضة، فلا بد من دعوة كافة المهتمين بها للكتابة حول مسألة الحقوق والواجبات لأجل أن نصل إلى فهم صحيح في ضوء الواقع، لأنه بناء على الغموض والسكوت نشأت الشركات السياسية لاستثمار النزعات المختلفة باسم الوطنية والقومية.

فإذا كانت الشرعية تبحث عن شكل إنساني لمكونات أمتنا، فإن الوضوح يقتضي أولًا وأخيرًا دخول الجميع في صياغة الحياة التي تطمح إليها وليس الأمر مجرد حقوق سياسية أو مدنية لمكون ما في الأمة، وإنما إرادة كل مكون هي جزء من إرادة الأمة، ومصلحته هو مصلحة الأمة كلها… والله الموفق والهادي إلى صراط مستقيم.

 

(المصدر: مجلة مقاربات الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري / رابطة العلماء السوريين)

الحلقة الثانية هـــنا

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى