مقالاتمقالات مختارة

الفتنة الكبرى

بقلم د. محمد المختار الشنقيطي

كان ما سمي بـ “الفتنة الكبرى” مدخلاً للانتقال من منظومة أخلاقية هي “قيم التعاقد السياسي الإسلامية”، إلى منظومة قيمية مغايرة تماما هي “قيم التملُّك والقهر”، وذلك ما عناه مالك بن نبي بالانتقال من “جو المدينة” إلى “جو دمشق” (مالك بن نبي، شروط النهضة، 47).

فلم يكن انتقال مركز الدولة الإسلامية من المدينة إلى دمشق انتقالاً جغرافياً فحسب، وإنما كان كان تحولاً أخلاقياً شاملاً مِن قيم [“الرُّشْد السياسي”] إلى “قيم المُلْك“.

وكان للانتقال الجغرافي دلالته أيضاً، فما كانت قيم الملك لتجد لها جذوراً في مهد الإسلام حيث وُلدت وترعرت [الدولة على عهدَيْ النبوة والرُّشْد]، وإنما كانت دمشق وبغداد – حيث وَرِثَ المسلمون فيها التقاليدَ الامبراطورية البينزطية والساسانية- هما المؤهلتان لاستضافة ذلك الانحراف في القيم السياسية.

وحينما تَكَشَّفَ أنَّ التنازلَ عن الشرعية السياسية عام الجماعة لم يؤد إلى رجوع أمر الجماعة إليها بعد موت معاوية، بل تم استغلالُهُ لبناءِ واقعٍ دائمٍ يُخَذِّلُ قيمَ الإسلام السياسية، ويتأسس على الوراثة والغلبة، انفجرت “ثوراتٌ دامية”، تسعى إلى إحياء القيم السياسية الإسلامية، واسترداد [“الرُّشْد السياسي“].

ومن تلك الثورات :

ثورة الحسين بن علي ضد يزيد بن معاوية. وقد ثار الحسين “غضباً للدين وقياماً بالحق” حسب تعبير ابن العربي (العواصم، ص 237).

ومنها ثورة أهل المدينة الذين “قاموا لله” حسب تعبير الذهبي (سير أعلام النبلاء، 4/ 37)، وقاد هذه الثورة الصحابي عبد الله بن حنظلة، والتابعي عبد الله بن مطيع.

وثورة الصحابي عبد الله بن الزبير الذي نجح في جمع السواد الأعظم من الأمة إلى جانبه، وكان هو وأصحابه “يرون الأمرَ شورى” (تاريخ الطبري 4/ 494)، أي إنهم كانوا يحملون مشروعاً سياسياً مناقضاً لمشروع المُلْك الجبري والتسلط القهري.

ومنها ثورة التوابين بقيادة الصحابي سليمان بن صرد،

وثورة الفقهاء بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث.

لكن “فشل” تلك “الثورات الدامية” في استرداد “[الرُّشْد السياسي]” زرع تشاؤماً دفيناً في الضمير المسلم حول “أي جهد للإصلاح السياسي مهما يكن متعيِّناً“.

وكان للفظائع التي ارتبكها أمراء الجور (أمثال يزيد بن ومعاوية، وعبيد الله بن زياد، والحجاج بن يوسف) أثر كبير في تعميق هذا التشاؤم.

ومن تلك الفظائع :

ذبح [السُّلالة النبوية] في كربلاء،

واستباحة المدينة المنورة في وقعة الحَرَّة،

وإحراق الكعبة في إخماد ثورة ابن الزبير، حيث “احترق البيت [الحرام] زمن يزيد بن معاوية، حين غزاها [أي مكة] أهلُ الشام” (صحيح مسلم 2/ 970).

وزاد من هذا التشاؤم : سوءُ صنيع بعض قدامى المعارضين السياسيين في التاريخ، الذين استباحوا المجتمع كله (خروجاً على “الحاكم الظالم” وعلى “الشعب المظلوم” معاً !)؛ بحجة تخليصه من الجور السياسي، كما أصبحت تفعل اليومَ بعض [الجماعات القتالية والتكفيرية] التي تجرَّدت من [الأخلاق المُحَقَّقة] والفقه العميق والحكمة السياسية.

كل ذلك جعل الخوفَ من الفتنة : هاجساً مَرَضياً، وكابحاً نفسياً، يستبطنه العقل الفقهي الإسلامي؛ الذي ضَحَّى بـ “الشرعية [السياسية]” حفاظاً على “وَحْدَةٍ موهومة تتأسس على القهر”، ويا لها من صفقة خاسرة، أدرك الدكتور رضوان السيد عواقبها، وعبَّر عنها بالقول: “فَفَقْدُ الشرعية يقود إلى : فقْدِ الوَحدة، وخُسرانِ قضية الإسلام كله على المدى الطويل” (رضوان السيد، الأمة والجماعة والسلطة، 143).

ولقد توسَّع أمراء الجوْر في تعريف “الفتنة” حتى أصبحت تشمل كلَّ موقفٍ ناقد أو ناصح، يرفض السير في ركاب الظلمة ويستبشع ظلمهم. وكان السفَّاح الحجاج بن يوسف – ولا غرو- رائد هذا التعريف المتوسع للفتنة، فضمَّنه “النَّجْوى” التي قد يتناجاها الرعية فيما بينهم، و”الشكوى” من ضياع حقوقهم، و”الخطابة” المعبِّرة عن همومهم ! (الشيزري، المنهج المسلوك في سياسة الملوك، 559).

وقد سار كثير من السلاطين وفقهائهم على نهج الحَجَّاج بن يوسف في تعريف الفتنة تعريفاً متوسعاً، حتى رأينا في أيامنا هذه مَن يعتبر :

المظاهرات السلمية فتنة،

والكتابة الناقدة للظلم السياسي فتنة،

وحتى النصح العلني للحكام فتنة !

لكنَّ عبرةَ أربعةَ عشر قرناً من تاريخ المسلمين تدل على أنه “لا فتنةَ أعظم من الاستبداد“.

وقد أدرك ذلك الشهيد الحسين بن علي حينما كتب إلى معاوية مرة قائلاً : “ولا أعلم فتنة أعظم من ولايتك أمر هذه الأمة !” (ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، 14/ 206).

و”إنَّ الظالمَ يَظْلِمُ، فيُبتَلَى الناسُ بفتنةٍ تُصيبُ مَن لم يَظْلِم، فيعجز عن ردِّها حينئذ. بخلاف ما لو مُنع الظالم ابتداءً؛ فإنه كان يزول سببُ الفتنة.” (ابن تيمية، منهاج السنة، 3/ 323).

و”الاستبداد قد يبلغ من الشدة درجة تنفجر عندها الفتنة انفجاراً طبيعياً”. (الكواكبي، طبائع الاستبداد، 180).

وهكذا أدرك ابن تيمية والكواكبي بفقههما وذكائهما السياسي أنَّ “أصلَ الداءِ” هو “الظلمُ السياسي”، وأنَّ الأخذَ على يد الحاكم الظالم ابتداءً هو الذي يقي المجتمعات من الفتن الاجتماعية والحروب الأهلية.

إنَّ “الفتنة” في الاصطلاح القرآني هي “إيذاء المؤمن لمنعه من اعتقاد ما يراه الحق، أو من الاستمرار عليه”. (أبو زهرة، زهرة التفاسير، 6/ 3127).

فدَفْعُ المظلومِ لجَوْرِ الظالم : ليس فتنة،

والثورةُ السلمية :

ليست فتنة،

وإنما هي الوقايةُ – من الجَوْر والظلم- والعلاجُ.

إنَّ الاستبدادَ ليس أخفَّ الضررين، ولا خيْرَ الشرَّيْن، كما يحاول أن يقنعنا فقهاء السلاطين من الطُّمَّاع والمغفَّلين،

وإنما هو : أصلُ الفتنةِ وجِذْرُها، والسببُ المُفْضِي إليها. إنه :  حربٌ أهليةٌ مُؤَجَّلةٌ،  وبركانٌ كامنٌ مشحونٌ بالدماء والأشلاء [..]

لقد سكتتْ أمَّتُنا على الظلم السياسي زمناً طويلاً، [وهاهي تتجرع السُّمَّ] إِثْرَ إِثْمِ السكوتِ على الظلمِ والركونِ إلى الظالمين.

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى