لماذا الخوف من فكر الشيخ «سلمان العودة»؟
بقلم د. عبد الرحمن البشير
في عقود أربعة متتالية من العمر الفكري للشيح الدكتور «سلمان العودة»، شهدتها رجلا متميزا، ومتطورا، ومناضلا، يجمع في داخله الثبات على الأسس، والتمرد على الأوضاع، فهو ثابت على القيم والمبادئ كالجبال الراسيات، ولكنه متمرد على الذات، والموضوع بمرونة عالية، فهو في كل عقد إنسان جديد، بدأ حياته سلفيا محضا، ولكنه لم يكن منغلقا في داخل المدرسة السلفية، فقرأ لغير السلفيين، ومع هذا كان يميل حيث تميل المدرسة السلفية في خياراتها الفقهية والعقدية.
في لحظة ما قبل أزمة الخليج الثانية، بزغ فجره مع جيل الصحوة، وطرح رؤية تجمع في داخلها المنهج السلفي العقدي، والعقلية الحركية مستفيدا من وجود حركة الإخوان في الجزيرة، فكانت محاضراته نوعية، وأشرطته متميزة، فشرقت أفكاره وغربت، ورفع صوته بأن الإسلام عقيدة وعبادة، أخلاق وشريعة، وواجه العلمانيين بعنف، ولكن بعلم أيضا، فكانت مرحلة من مراحل حياته المتميزة والمثيرة.
وقعت الأزمة الثانية في الخليج، وجاءت القوات الأجنبية إلى الجزيرة العربية، فرأى في هذه اللحظة أن مرحلة جديدة بدأت مع هذه الأزمة، وأنذر من العواقب مع لفيف من إخوانه، فدخل السجن كعادة المفكرين المؤثرين، وتم إعفاؤه من العمل والتدريس، وراجع أفكاره في السجن، وقرأ كثيرا، وتأمل أكثر، وأنضج أفكارا عميقة، وخرج من السجن بعد أن مكث فيه سنين عددا، ولكنه في هذه المرة خرج من السجن إلى واحة الحياة مختلفا، ومتطورا، ومُبدعا.
جاء الرجل بعد هذه المرحلة في نهاية القرن العشرين، وبداية القرن الواحد والعشرين، ففكر وقدر، ثم فكر وقدر، فعرف أن الزمن قد تغير، وأن الجيل الجديد يتطلب منه صوتا جديدا، وأن المرحلة الجديدة تتطلب قراءة جديدة، فوُلد العودة من جديد، ومن رحم التساؤلات العميقة، فطرح آراءه جديدة ومختلفة حول الحرية والدين، وحول الفكرة والعقيدة، فخاطب الجيل الجديد في الجزيرة العربية من خلال الإعلام الجديد بلغة غير مسبوقة في الجزيرة، واستطاع بذلك أن ينفذ إلى القلوب والعقول.
في هذه اللحظة، هدأت عاطفته أكثر، ولكن كبر عقله، واستوى على الجودي، فكانت الأسئلة التي يطرحها، والأفكار التي يناقشها نوعية، وجديدة بكل المقاييس، بحيث نجح في تجاوز لغة الإقصاء، واستخدم لغة الحوار، ومن هنا عرف الخصوم بأن الرجل ليس العودة (القديم) فهو نسخة جديدة من العودة (القديم)، إنها كانت رحلة صعبة يعرفها من مرّ مثيلا لها في حياته، فرأيته مبدعا ومتألقا في قنوات روتانا الفضائية، وفي (MBC) الفضائية، فكانت الروعة في الجمع ما بين الشكل والمضمون، والحريّة والإلتزام، والتأصيل والتجديد، ووجد الجيل الجديد ضالته في هذا الخطاب المتزن.
خافت السلطات من روعة الرجل، ومن طرحه المتزن، فحكموا عليه مرة أخرى بالإعدام المعنوي، فرفضت القنوات استضافته، فعرف الرجل بأن التاريخ لا ينتهي، فأبدع أسلوبا جديدا في التواصل مع جمهوره الواسع، والممتد عبر الجغرافيا الإسلامية، فهو من أهم المؤثرين في العالم، وكان التواصل الاجتماعي عبر نوافذه الكثيرة خياره، فنجح في ذلك أيما نجاح، ذلك لأن الرجل لا يخاف من الخوف، بل الخوف لديه هو أن لا يعمل في كل المحطات، فلا يمكن لأحد أن يغلق فمه، أو أن يشلّ يده، ولأجل هذا كتب أكثر من ستين كتابا ورسالة، ووجدت الكتب والرسائل طريقها نحو العقول والقلوب، فما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله توقف وانقطع.
ليس الرجل عضوا في جماعة محلية، أو عالمية، ولكن الرجل يعمل مع جميع الخيرين في العالم، فهو مسلم معاصر، ومفكر قدير، وفقيه راسخ القدم في العلم، وداعية نشط في الدعوة، وفنان في التعامل مع الناس، ووالد ناجح، ومرب منفتح، وكاتب ماهر، ومن هنا نجح في اختراق العقول والسدود، فأحب الناس جميعا، فهو مع كل التيارات المعتدلة، والوسطية، لا يحارب الأفكار التنظيمية، بل يوجهها، ويواكب الأحداث، ولا يتخلف عنها، ويتقن لغة العصر، ولا يعيش فقط في هموم القرون الوسطى، بل لديه وجود حقيقي في مفاصل التاريخ، فيكتب، ويحلّل، ويخاصم، ويحاور، ولكن يفعل كل ذلك بعلم وحكمة واتزان.
في أثناء الربيع العربي، وقف مع الثوار ضد الطغاة، وأعلن مواقفه الفكرية مع الحرية، وطرح في سوق الفكر كتابه (أسئلة الثورة)، وكانت الأفكار عميقة، والتساؤلات جديرة بالتوقف، بل وحاول طرح مفاهيم جديدة حول الفكر السياسي، وآلياته الجديدة ما بعد الثورة، والحذر من الثورة المضادة، ونصح شباب الثورة كثيرا، وكأنه يعرف أن الزمن ليس لصالح الثوار، ولكن اللحظة ما زالت مع الثورة.
ليس الدكتور سلمان العودة نسخة واحدة كما يحسب الكثير من الذين لم يتابعوا رحلته الفكرية عن كثب، فهو نسخ عديدة ومتنوعة، وفي كل نسخة تاريخ، ووراء كل لحظة من التاريخ معاناة، رأيت فيه عقل المفكر، وفقه العلم، وحكمة الداعية، ولكن مع هذا فهو شخصية متمردة، والتمرّد بالنسبة له تطور نوعي، ولاحظ فيه هذا كل من قرأ كتابه (حوار هادئ مع الغزالي) في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين حين أصدر الشيخ الغزالي كتابه المثير حينئذ (السنة النبوية بين أهل الحديث وأهل الفقه)، فكان العودة من الذين قاموا عليه بالرد العنيف، ولكن الدكتور العودة راجع أفكاره، وعلم بأن الغزالي لم يأتِ بجديد، وإنما مال إلى بعض الخيارات، وربما، مال الشيخ العودة إلى بعضها مؤخرا، وهكذا تمرّد على ذاته، ولولا التمرد على الذات لما ظهر العودة في نسخته الإنسانية، والإيمانية.
قرأت له كثيرا، اتفقت معه أكثر، وخالفته في بعض الآراء، ولكنى أحببته، فرأيت فيه الإنسانية بأبهى صورها، وخاصة حين ماتت زوجته، وأولاده معا، فرقّ قلبى معه، وعشقت أسلوبه، وحبه الإنساني لزوجته، وأعجبنى جدا كيف يتعامل مع أولاده الصغار والكبار، بل وكيف يتجاوز الهنات من أصحابه، ومن خصومه معا، فالرجل من عالم آخر، ومن ثقافة أخرى.
إن النظام يخاف منه، لأنه ليس من علماء السلطان، ويخاف من أفكاره، لأنها ليست من وحي المصلحة، بل هي مزج ما بين الواجب والمصلحة، ويحاول النظام أن يحول بينه وبين التأثير، ولكنه لا يعرف أن الفكر لا يموت بموت صاحبه، بل ينطلق من القفص بروح جديدة بعد أن يموت الإنسان لفكره.
لن يموت العودة ما دامت أفكاره موجودة في العقول والقلوب في الخريطة، ولن يخرج العودة من التاريخ ما دامت الأفكار تخترق جدران الزمان والمكان، ولن ينسى الناس مواقفه ما دامت المبادئ في تدافع وصراع، هناك ألف رجل تخرج من مدرسة العودة، ولكن الجبناء لا يفقهون!
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)