إعداد كريم عبد المجيد
أثار اعتراف البرلمان الأوروبي بالمذابح الأرمينية في 15 أبريل/ نيسان 2015 حديثًا طويلًا وانتقادًا كبيرًا من جهة الحكومة التركية، واصفة هذا الاعتراف بأنه مناهض للتاريخ والقانون، وذلك في ذكرى مرور 100 عام على ما يطلق عليه «مذابح الأرمن» التي ارتكبت في الأراضي العثمانية عام 1915؛ الأمر الذي يتطلب معرفة الجذور التاريخية للأرمن في التاريخ العثماني، والأسباب التي أدت إلى حدوث هذه المذابح التي ترفضها جهات وتؤيدها أخرى.
تعامل الإدارة العثمانية مع الأرمن
شكل الأرمن أقدم وأكبر مجتمع غير مسلم يتركز في الولايات الشرقية للأراضي العثمانية، حيث اتسم هذا المجتمع بكونه من عرق واحد، ومن ديانة مسيحية بمذهب غالب هو المذهب الأرثوذوكسي. وقبل الفتح العثماني للقسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية لم يكن يُسمح في العهد البيزنطي للكنيسة الأرمينية الأرثوذكسية أن يتم تمثيلها من ضمن الكنائس الموجودة بالمدينة؛ لأن الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية كانت تصنفهم كمبتدعين.
وفي القرن الرابع عشر، سمحت الإدارة العثمانية للأرمن بتنظيم أنفسهم كجماعة مستقلة بعد أن أصبحت مدينة بورصة عاصمة للعثمانيين عام 1326، فقاموا بنقل مراكزهم الروحية من مدينة «كوتاهية» إلى «بورصة».
وبعد فتح القسطنطينية عام 1453، قام «الفاتح» بتعيين زعيم روحي للأرمن، وهو البطريرك «هوفاكيم الأول» الذي استدعاه من بورصة إلى إسطنبول عام 1461، وأسند إليه رئاسة وتمثيل جميع الأرمن الذين يعيشون بالدولة ضمن نظام «الملل» الذي تتعامل به الدولة مع رعاياها، كما عينه بطريركًا لكنيسة أعطاها له كهدية بمقاطعة صامتيا بإسطنبول.
استمر الأرمن في تعيين أساقفتهم بشكل انتخابي طبيعي وحر، وكانوا يتحدثون بلغتهم بشكل طبيعي دون فرض أي قيود عليهم، كما كانوا أحرارا في إحياء فاعلياتهم الثقافية. سُمح لأحد أساقفتهم عام 1567 بتأسيس المطبعة الأرمينية، كما سُمح لهم بإنشاء مطابع أخرى في كل أنحاء الدولة، مثل المطبعة الأرمينية في «إزمير» عام 1759، وفي «وان» عام 1859، وفي «موش» عام 1869، وبلغ في عام 1908 عدد المطابع الأرمينية في الدولة 38 مطبعة، وكانت تصدُر في إسطنبول وحدها عام 1910 خمس صحف وسبع مجلات باللغة الأرمينية.
أما عن مشاركة الأرمن في الحياة العامة في الدولة، فقد كان لهم دور لكثير من أفرادهم وعائلاتهم في اقتصاد الدولة. فلم يشاركوا في التجارة فقط، بل شاركوا في جميع القطاعات الاقتصادية من صناعة المجوهرات، والتجارة في عملات الذهب والفضة، وصناعة الخزف والمنسوجات وغيرها. ومع الوصول للقرن التاسع عشر نجد أن الدولة قد سمحت الدولة لهم بدستور خاص بهم ينظم شئون حياتهم يتكون من 150 مادة في عام 1863، كما كان الممثل الأرمني والممثلة الأرمينية هم المسيطرون على مسارح الدولة، وكانوا يملكون مئات المدارس في القرن التاسع عشر الخاصة بتعليم أولادهم، ووصلت شخصيات منهم إلى أعلى مناصب في الدولة مثل وزير الخارجية، ووصلت عائلات منهم إلى المعماريين الرسميين للدولة مثل عائلة باليان التي تنتشر آثارها في عاصمة الدولة، فهم مصممون مثلا قصر الدولمابهجة، ومنهم من ذاع صيته كمؤلف للموسيقى العثمانية الكلاسيكية.
لم يكن هناك مشكلة للأرمن مع الدولة العثمانية على طوال عهدها إلا في القرن التاسع عشر. فقد بدأت المشاكل تظهر في الربع الأخير من القرن نفسه. وقامت الدول الأوروبية بتزكية هذه المشاكل والحرص على جعلها قائمة دائمًا، للمساهمة في تمزيق الدولة عبر دعم القوميين الأرمن الذين نادوا بدولة مستقلة لهم على الأراضي العثمانية.
روسيا كعامل أساس للتمرد الأرمني
تاريخ الحرب بين روسيا والدولة العثمانية تاريخ طويل، استمر من القرن السادس عشر حتى القرن العشرين. منها حرب بدأت في عام 1768 انتهت بهزيمة الجيش العثماني وتوقيع معاهدة «كوچوك كينارجا» بين روسيا والدولة عام 1774، أصبحت روسيا على إثرها راعية المسيحيين الأرثوذكس في الأراضي العثمانية، فشمل هذا حماية روسيا للأرمن الذين يعتنق الغالبية منهم هذا المذهب.
يرجع اهتمام روسيا بالأرمن إلى بداية القرن الثامن عشر، حيث استفاد منهم بطرس الأول [ت 1725] في الحرب ضد إيران، ودعاهم للعيش في الأراضي الروسية، وقد هاجر جزء منهم بالفعل لروسيا. وفي أثناء الحرب العثمانية الروسية عام 1877، عملت روسيا على الاستفادة من الأرمن القانطين شرقي الأناضول. وبعد إقرار معاهدة السلام التي أنهت الحرب بين روسيا والدولة العثمانية في مارس 1878، طالب الأرمن روسيا بمقابل للخدمات التي قدموها في الحرب، فطالبت روسيا من ضمن بنود معاهدة السلام مع الدولة بإصلاحات للأرمن القانطين شرقي الأناضول وتأمين السلام والأمن لهم، وأن تخبر الدول الأوروبية المهتمة بالأرمن بكل جديد يخصهم.
دعمت روسيا العناصر الأرمينية ذات النزعات القومية بشكل كبير، كأداة للمساعدة في كسر وحدة أراضي الدولة، وكعامل لنشر الفوضى والقلق للحكومة العثمانية، وقد كان لهم جهود كبيرة في هذا الاتجاه.
الجمعيات الأرمينية واستخدام السلاح لإقامة أرمينستان
تم تشكيل الجمعيات الأرمينية في القرن التاسع عشر كمؤسسات خدمية لأغراض البر والإحسان، إلا أنها تحولت إلى بؤر للإرهاب والعنف بهدف إنشاء دولة «أرمينيا» أو «أرمنيستان» من الثوريين ذوي النزعات القومية، فتأسست جمعية الصليب الأسود في مدينة «وان» عام 1878. وفي عام 1880 بدأت الجمعيات الأرمينية التي أنشأت في روسيا ودول أوروبية بإرسال الأسلحة إلى أرمن الأناضول. وفي عام 1885 تشكل في مدينة «وان» الحزب الثوري الأرمني الذي كانت غايته إطلاق الثورة على الدولة العثمانية، وتأمين حكم ذاتي للأرمن.
وفي عام 1887، شكل الأرمن بمدينة «جنيف» حزب «الهجناق» الذي كان يهدف إلى تأمين الاستقلال العرقي والسياسي لأرمن الأناضول عن طريق الدعاية والإرهاب، وتنظيم الاحتجاجات والإضرابات العمالية.
وفي عام 1892، أعلن قيام حزب جديد باسم حزب »الطاشناق» الذي كان من ضمن أهدافه إعلان الثورة والعصيان ضد الدولة، وتشكيل عصابات مسلحة، وتسليح الشعب، وترتيب الاغتيالات ضد مسئولي الحكومة و من يسمونهم «الخونة» من الأرمن الذين يتعاونون معها.
أما على جانب الأعمال الإرهابية التي قامت بها هذه الأحزاب، نجد محاولة اغتيال والي «وان» عام 1892، وقتل سائق عربة بريد في مدينة «طوقات» ونهب العربة، إثارة تمرد في مدينة «سامسون»، مما أدى إلى مقتل أتراك وأرمن في هذه الحوادث، أستغلتها الدول الأرووبية للترويج لاضطهاد الدولة العثمانية للأرمن وقتلهم. استمرت العصابات الأرمينية في عام 1895 في إثارة القلاقل والاضطرابات والقتل في مدن مثل إسطنبول، طرابزون، دياربكر، أورفة، وقاموا بقتل الأتراك والأرمن الذين رفضول المشاركة معهم، وأشعلوا الحرائق في أماكن عديدة. وفي عام 1896 قامت عصابات الهنجاق والطشناق بإحداث حركة عصيان في مدينة «وان» قتل على إثرها 417 مسلمًا و 1715 أرمينيًا، وفي العام نفسه تم الهجوم على البنك العثماني في إسطنبول واقتحامه، وارتقى الأمر في آخره إلى محاولة اغتيال السلطان عبد الحميد الثاني عام 1905.
وأثناء الحرب العالمية الأولى، قرر الأرمن دعم الروس في الحرب، والانضمام إلى الجيش الروسي في حالة عبوره إلى داخل الأراضي العثمانية وتراجع الجيش العثماني، حيث تم استخدام القنابل لتفجير الأبنية الحكومية، وتنفيذ المذابح بالمسلمين الموجودين في المناطق التي سيطرت عليها روسيا بشكل كامل.
وتعد مدينة «محمودية» في ولاية «وان» واحدة من المدن التي شهدت أبشع المذابح لللمسلمين على يد الأرمن أثناء الحرب عام 1915، كما أُحرقت المباني الحكومية، وهوجمت مراكز الشرطة، ولم يستطع والي المدينة السيطرة على هذا العصيان، فأعلن استقالته من منصبه، ليقوم الأرمن بعمل مذابح أخرى في الولاية أدت لمقتل مئات من المسلمين، وفر حوالي 8000 مسلم من المدينة باتجاه «بتليس». وقد أصدر قيصر روسيا بيانًا شكر فيه أرمن الولاية على تضحياتهم وتسهيلهم سيطرة الروس على الولاية.
بناء على هذه الأحداث اتخذت الحكومة العثمانية قرار تهجير الأرمن ونقلهم بشكل مؤقت من أراضيهم إلى جنوب شرقي حلب، وأورفة، ودير الزور، والمناطق المحيطة بها؛ لتشتيت محاولاتهم القيام بعصيان في الولايات التي يعيشون فيها وقت انشغال الدولة بالحرب، كما قامت بالهجوم على مراكز وأحزاب العصابات الأرمينية واعتقلت من فيها.
وقد تم الهجوم على قوافل الأرمن في طريق تهجيرهم إلى أراضيهم الجديدة وقتل أعداد كبيرة منهم من قبل ملشيات كردية انتقامًا للأفعال التي كانت تتم في الولايات التي كانوا يقطنون بها. كما مات الكثير بسبب الأمراض وسوء التغذية طوال رحلة التهجير. وهوجم الأرمن في بقية الولايات العثمانية في الأناضول. وكل هذا الهجوم كان ينبع في الأساس كردة فعل على ما أحدثه الأرمن وعصاباتهم من اضطرابات وقتل، ومساندة للروس أعداء الدولة.
فمن الذي من المفترض أن يطالب بحق لهذه المذابح -مع التسليم بسقوط ضحايا لا ذنب لهم-؟ هل هم الأرمن الذين شاركوا في إسقاط الدولة العثمانية وإقامة المذابح للمسلمين على أرضها، أم الذين قتلوا الأرمن كردة فعل على عمالتهم وأفعالهم الإجرامية بحق المسلمين؟
(المصدر: موقع إضاءات)