مقالاتمقالات مختارة

معنى قولهم.. إن هذا العلم دين!

بقلم خباب مروان الحمد

من الكلمات المأثورة عن الإمام محمد بن سيرين قوله:

“إنّ هذا العلم دين؛ فانظروا عمّن تأخذون دينكم”. وقد يسأل كثيرٌ من الناس: ما معنى أنّ العلم دين؟!

 

إنّ من أولويات الديانة وشرافة العلم التحقق والتثبت من المعلومة قبل نشرها وبيانها؛ ولهذا قرن علماء المسلمين دينهم بصدق الإسناد وسلامته من العيوب حتى يتثبتوا من أصل المعلومة؛ ويستندوا على أساس متين؛ فالإسناد بمثابة الأساس للبناء؛ وهو الطريقة الهندسية السليمة لصناعة المُركّبات الدينية؛ فلولاه لما استطعنا معرفة صواب الشيء من خطأه، ومنخوله ونقاوته من دخله. إنّ التثبت من المعلومة قبل نقلها يقتضي الضبط والعدالة وسلسلة السماع؛ مع البُعد عن شذوذات السند لأنّ خلفها شذوذات في الفهم، ومن الضروري كذلك إسقاط جميع العِلل التي تعتلق بأصل الصحّة؛ حتى يظهر المتن بأجمل حُلّة، وأنصع حجّة، وبعد التثبُّت يحصل الثبات.

 

في الأزمات تنتشر الشُذوذات

تنتشر بين الناس مفاهيم دينيّة مغلوطة في الأوقات التي تكثر فيها الفتن والأزمات؛ فتسمع بالأغاليط والغرائب، ويتحدّث كثيرٌ من الوُعّاظ والدعاة بمفاهيم سقيمة، وهذا قد حصل قديماً إبّان قيام كثيرٌ من دهماء الناس بإثارة المشاكل في عصر خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فحين حصلت فتنة قتل عثمان؛ ظهرت البدع؛ اهتمّ العلماء كثيراً بالبحث والتنقيب عن صحّة كل حديثٍ. يشرح ذلك الإمام محمد بن سيرين فيقول: “لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سمّوا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم”. ومن هنا وجب التثبُّت من طبيعة من يتحدّث بالعلم قبل النقل عنه.

 

المُشافهة أثناء التلقي
إنّنا اليوم نعيش واقعاً كثرت فيه الهزائم النفسية في مجال الفقه والفكر والتفسير؛ فصار كثير من المتفيهقين يأتون بأقوال شاذّة؛ ليس لقوّة دليل أو حجّة استدلال

من أصول أخذ العلم لكل طالبٍ له في بداياته وأصيله أن يتلقّاه من الأفواه والمشافهة والمثافنة؛ فهي الأصل في الإفادة العلمية، وهذا ما عليه اعتقاد المسلمين قاطبة، فقد قال تعالى : “وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقران مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ” وقال تعالى حاثاً نبيّه محمداً -صلى الله عليه وسلم- أن يتّبع إقراء جبريل له وألاّ يعجل: “لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقرآنه (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْانه (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ” بل كان أوّل تلقٍ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلم القرآن؛ من خلال المقرأة وإتباع القراءة خلف جبريل -عليه السلام- كما في قوله تعالى: “اقرأ باسم ربّك الذي خلقْ“.

 

والقضيّة برُمّتها فيها جانب معنوي؛ إذ العلم كما هو مسطور في الكتب؛ إلاّ أنّه يؤخذ من خلال المخالطة عمّن تُعرف عنه الديانة والثقة؛ ولهذا يقول الأوزاعي: (كان هذا العلم كريما، يتلاقاه الرجال بينهم، فلما دخل في الكتب، دخل فيه غير أهله) (سير أعلام النبلاء 7 / 114). ولعلّ هذا يشرح لنا طريقة انتقاء العالِم من الصالحين؛ ويوضح مُكنة العلماء سابقاً حين تأتّت لهم المَلَكة العلميّة التي يستوحونها من أفواه مشايخهم في طريقة مناقشتهم للأدلّة وفهمهم للنصوص وعرضهم الحُجج؛ مع الاهتمام بالهيئة النفسيّة في امتثال العالم دين ربّه، وخشيته له؛ حيث يكسوه العلم والدين ثوب الوقار والحشمة، مع تعظيمه الأدلّة وحسن التعامل معها.

إنّ أخذ العلم لا يُقتصر فيه على لم شتات المسائل وحفظها؛ أو اقتدار باحث على جمع تعاشيب موضوع من الموضوعات ليكتب فيه، أو حُسن تصوّره لها؛ أو قُدرة على الخطابة واللباقة في الحديث أمام الآخرين، أو وصوله إلى درجة أكاديميّة رفيعة المستوى؛ فهذه كلّها على أنّها مُهمّة في التوصيف العلمي، لكنها ليست كافية؛ لأنّ العلم له مُحدّدات من أبرزها خشية الله والإخلاص له ومراقبته، والموضوعية، وحسن فهم كلام العلماء، ومعرفة مصطلحاتهم، وبيئتهم العلمية، واستنطاق معارفهم من أقرانهم الذين عاشوا معهم؛ بعرض المسائل ومقارنتها في كتبهم وفهم أدوات نقاشهم.

 

نقائص استشياخ الكُتُب

لم يتلقّ العلم بعضهم عن الأعلام الأثبات؛ فكان شيخه كتابه، فوقع في الأغلوطات، لا كما يراها المرء في نفسه؛ فحتماً كُلّ أحدٍ سيرى أنّه الأفضل في الفهم، وفي المثل الشعبي: (لا أحد يقول عن زيته عكر) لكن العلامة بامتثاله طريق العلم؛ تكون بشهادة العلماء على دِقّة مسلكه في الفهم واستقامة سلوكه، ومن هنا قيل: (من كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه) وهذه العبارة دقيقة المسلك، وليس صحيحاً أنّها واردة في زمن لم تنتشر فيه الكتب المطبوعة والمُنّمّقة، فكثير من الناس يستشيخون الكتاب ويقعون في أخطاء عديدة. قد يُقال: لكننا نجد بعض الناس لهم شيوخٌ كُثرُ، ولكنّنا لا نجدهم قد أصابوا في مسائلهم؟! ومع الإقرار بوجود أولئك إلاّ أنّ تلقيهم على عشرات العلماء نعتبره جزءاً من أجزاء التكامل للشخصية العلمية؛ لكن ثمّة قضايا لم تُستكمل فيهم، ومن أهمّها: القضايا النفسية الداخلية؛ فمن ذا الذي يُخبرنا إن كان فيهم هوى؟ أو حظوظ للذات؟ أو تسلق وتملق لجهات معينة ليأخذوا بمناهج رديّة؟ أو ضغوط نفسية وهزيمة داخلية على تبني بعض الآراء الشرعية؟!

ومن المُقاربات التي تخفى في زمن الماديّة واللهث خلف المحسوسات؛ أنّ مبدأ تقلُّب القلوب، وما يليها من صنائع فكريّة ماجنةٍ؛ لا تتعلق بأخذهم عن العلماء؛ لأنّهم وسائل تدل على العلم، لكن قد تنحرف نيّة بعضهم في الأخذ عن هذه الوسائل؛ فيستكثر منها؛ لتملُّق أو تزيُّد أو مباهاة؛ وكم من شخصٍ ضلّ بعد علمٍ؛ وكم من شخص أرادَ سُبُل هداية؛ ثمّ انقلبت نيّته؛ فصار يتبع أسباب الضلال، ويترك طُرق الدليل، كمن يؤتى صوتاً حسناً فبدأ يقرأ القرآن ثمّ تأثّر بأهل الغناء والمجون فأصبح ماجناً فاسقاً؛ وأضلّه الله على علم فزاغ ورواغ؛ واستخدم القرآن فيما لا يُرضي الله.

 

تكامل العالِم
يربط العلماء في منهجيّة التلقي بين حفظ العلم وفهمه، وأخذه عن العلماء الصالحين؛ بالتوازي مع أمانته العلمية، وحسن أخلاقه

خليقٌ بكلّ طالبِ نجدة علميّة أن يُحسن التحري في البحث عمّن يُجيب عنها، ولابدّ أن يكون ذلك متكامل الشخصيّة نفسياً واجتماعياً وسلوكياً، لأنَّ نقص عوامل ترقية شخصيّته وسُويّته؛ تؤثر في فكره المنطقي، ومنطوق كلامه.

 

إنّنا اليوم نعيش واقعاً كثرت فيه الهزائم النفسية في مجال الفقه والفكر والتفسير؛ فصار كثير من المتفيهقين يأتون بأقوال شاذّة؛ ليس لقوّة دليل أو حجّة استدلال؛ ومن أجزاء حقيقة ذلك الهزيمة النفسيّة تجاه الطرف الآخر، ما استطاع صاحبها أن يُظهر الخلل النفسي؛ لأنّه يكشف عن عيوبه؛ أو أنّه لا يدري عن نفسه انهزامه؛ فيقوم بالقراءة في الكتب لاختيار الآراء الشاذّة، وينشرها لاتّساقها مع تركيبته النفسية، ويُساعد على ذلك بيئة مجتمعيّة تتقبّل هذه الآراء باسم الانفتاح، وقد يتبنّاه بعض السلاطين فيغدو مقبولاً في الأوساط الرسميّة ؛ فتكون هذه العلائق لها أثرها في النفخ بالبوق وصدعه بهذه الرؤى الخنفشارية!

 

لا يؤخذ العلم عن سفيه أو خائن لأمانة العلم!

يقول الإمام الأوزاعي: “اعلموا أن هذا العلم دين، فانظروا ما تصنعون، وعمن تأخذون، وبمن تقتدون، ومن على دينكم تأمنون” ( تاريخ دمشق:٦ /٣٦٢). يربط العلماء في منهجيّة التلقي بين حفظ العلم وفهمه، وأخذه عن العلماء الصالحين؛ بالتوازي مع أمانته العلمية، وحسن أخلاقه، والسؤال عن طبيعة نزاهته في تعاملاته المالية؛ فتلك من سمات علماء السوء؛ ويتحرّون بُعده عن الارتماء على أبواب سلاطين السوء بُغية التملق والمداهنة والتكسُّب المعيشي.

وفي هذا يقول إبراهيم النخعي: “كنا إذا أردنا أن نأخذ عن شيخ، سألناه عن مطعمه، ومشربه، ومُدْخله، ومُخرجه، فإن كان على استواء أخذنا عنه، وإلا لم نأته” (الكامل في الضعفاء: (1 / 154) ومن مثلِ هؤلاء يؤخذ، ونعم المأخذ، أمّا من لا يؤخذ عنه فقد نبّه الإمام مالك على بعض أوصافهم فقال:
“لا يؤخذ العلم عن أربعة:
سفيه يعلن السفه، وإن كان أروى الناس.
صاحب بدعة يدعو إلى هواه.
من يكذب في حديث الناس، وإن كنت لا أتهمه في الحديث.
صالح عابد فاضل، إذا كان لا يحفظ ما يحدث به” (السير : 8 / 67 – 68).

وفي هذه التوصية لم يجد الإمام مالك امتلاء الشخص من العلم كافياً في الأخذ عنه؛ فإنّه بدأ بالتحذير من السفيه، والسفه تتمحور أصوله اللغوية حول: نقص وخفة العقل والطيش والحركة، ويجمع ذلك الاضطراب الشخصي؛ فمن أراد الأخذ عن العلم فيأخذه عمّن يكون صاحبه معروفاً بالاستقامة الفكرية والنفسية والسلوكية.. ومن هنا يعظم أجر التحري، والتفتيش عن العالِم الصادق في وضح نهار العالَم.. وفي الأمّة خير كثير.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى