بقلم د. عبدالله اليحيى
هل الكيان الصهيوني دولة؟ يقول توني جوت، من جامعة نيويورك: «فكرة الدولة اليهودية تشكل مفارقة تاريخية، وأنها تشبه مشروع الانفصال العنصري الذي ساد أواخر القرن التاسع عشر، وأنه لا مكان لإسرائيل في هذا العالم الذي يتجه نحو التعددية الثقافية والإثنية، التي يجمع بعضها مع بعض القانون الدولي»، ولذا يتشكل وجود الكيان الصهيوني في فلسطين من التاريخ أولاً، وانسجامه مع من حوله، وأثر الجغرافيا عليه، ونموه، إن كان طبيعياً، وهذا ما لا نجده، ويدعو إليه الكاتب الصهيوني باروخ كمرلنك، قائلاً: «إن استقرارها [إسرائيل] الداخلي وتطورها المستمر يعتمد في المدى البعيد على الاعتراف بها من الشعوب الأخرى في المنطقة»، يقول الشعوب وليس الحكومات، وهذه مشكلة مستعصية، ويختم كتابه بهذه الكلمة: «من دون تسوية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ستصبح الدولة اليهودية المعاصرة مجرد أثر بعد عين في تاريخ العالم»، وتقول الإحصائيات إن 60% من الصهاينة سعوا للحصول على جوازات دول أخرى تساعدهم على مغادرة فلسطين أثناء ظهور الأخطار على كيانهم الهش، ويعتقد يعقوب شريت «أن دولة إسرائيل المنشودة، تلك التي من أجلها بذل الكثير من العرق والدم والدموع، ليست موجودة، ولن تكون إلى الأبد، إذن ماذا يوجد؟! يوجد مخلوق بشع فظيع مسلح من رأسه حتى أخمص قدميه، من العصا حتى القنبلة النووية، يدعى إسرائيل»، وفي كتاب «الدولة اليهودية.. النضال من أجل روح إسرائيل» تأليف يورام حاوني بحث مطول حول نقد شخصية الدولة، والتشكيك في شرعيتها وإثبات عدم عدالتها والتأكيد على أنها «خطيئة من حيث المبدأ» مع تهاوي المزاعم التاريخية، والوعد الإلهي، وعرقهم النقي، بل حاول أن تنظر إلى الكيان الصهيوني مجرداً من:
1- الحركة الصهيونية.
2- وعد بلفور.
3- الانتداب البريطاني على فلسطين.
4- قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين عام 1948م.
5- المنظمات الصهيونية الإرهابية.
6- المصطلحات المخادعة كـ«المسألة اليهودية» و«العداء للسامية»، و«الهولوكست».
7- التحالف مع الدول الكبرى.
8- القوة العسكرية.
9- الفساد والضعف والتشتت لدى الدول العربية المحيطة بفلسطين.
فمن تلك النوافذ لن ترى الدولة المزعومة على أرض الواقع، ولن تجد دولة تشبهها في التأسيس، وفي الأكاذيب، والأساطير، وفي الحدود، وفي استيراد شعب من عشرات الدول، وفي الوجهين المتناقضين علمانية أمام الغرب ودينية أمام الشعب.
ثم إن الدولة تتشكل من شعب وحدود ودستور وحكومة، فما يسمى «الشعب الإسرائيلي» اجتمع من تسعين دولة يتحدثون بثمانين لغة، وينتمون إلى سبعين قومية لم يستطع التعليم والتربية والإعلام الصهيوني دمجهم في محيط جغرافي صغير ليكونوا شعباً منسجماً متناغماً متجانساً، يعبر في مجمله عن دين وثقافة ولغة واحدة، ولا تزال جميع شرائح المجتمعات الصهيونية في فلسطين متقاطعة ومتصادمة، ولا تزال الفجوات بين يهود الشتات والصابرا، واليهود الغربيين والشرقيين، واليهود الأصوليين والعلمانيين، واليهود البيض والسود؛ تتشظى إلى فئات، وكل فئة إلى تيارات وحركات وجماعات، وهذا ما دفع بن جوريون إلى الحيرة والقلق والتساؤل: «ينبغي أن نسأل أنفسنا سؤالاً لم يسأله شعب آخر، هل صحيح أننا شعب؟ في رأيي نحن لسنا شعباً بعد… وهذه العملية التاريخية التي بدأت لتوها فقط طويلة جداً»، ويمزق الكيان قضايا يجب أن تكون محل إجماع لدى الشعوب الطبيعية، كـ«الهوية والجذور، والثقافة» و«السلام» و«الرؤية للمشروع الصهيوني»، ويضع ليبو فيتش إصبعه على الجرح الكبير قائلاً: «مشكلتنا ليست حسبما صيغت في عنوان حديثنا هذا (دولة إسرائيل إلى أين؟) إنما المشكلة في الشعب اليهودي الآن ما هو؟ ومرة أخرى، هذا هو السؤال الذي لا أعرف كيفية الإجابة عنه»(1)، وللكاتب اليهودي شلومو سان كتاب عنوانه «اختراع الشعب اليهودي» (413 صفحة)، سعى فيه إلى تفكيك الأساطير الصهيونية حول مصطلح «الشعب» الفضفاض، وتحريره من العمليات الاستيطانية، والأساطير، مؤمناً بأنه «لا موطن للإيمان والأديان»، ويأمل أن يكون الكيان الصهيوني «دولة كل المواطنين الإسرائيليين المقيمين فيها، بغض النظر عن أصلهم أو ديانتهم»، ويدعو اليهود إلى «إدراك أنه لا يمكنهم العيش في الشرق الأوسط من دون العرب»، وكتابه يتمحور حول أكذوبة الشعب المطرود، والمكروه، والمضطهد، والضائع، والباحث عن وطنه، وطعنه بالمسلمات الصهيونية على ضوء التاريخ، وقد اتهمه الغلاة منهم بـ«منكر الشعب اليهودي». أما الحدود فحتى اليوم وإلى الغد لن تكون طبيعية، ولا محل إجماع، ولن تعترف بها الجماعات اليهودية، ولا جيرانهم ولا العالم المتحضر، وهي ممزقة بين الواقع، والحدود التوراتية، وحدود عام 1948م، وحدود عام 1967م، وحدود «إسرائيل الكبرى»، والحدود المأمولة، والحدود الممكنة، والحدود الآمنة، ويتجاذبها أطراف يهودية كثيرة، أصولية وعلمانية، والمؤلم – كما تراه أسرة تحرير صحيفة هآرتس – في إدارة دفة الدولة أن «تسمح الحكومات الإسرائيلية لحفنة من المتزمتين بأن تملي على المجتمع الإسرائيلي جدول أعمال سياسياً واقتصادياً، وأن تقوده إلى ما يتخذ صورة لخرابها»، ثم تأتي قاصمة الظهر، وهي مطالبة الكيان الصهيوني بحدود آمنة! دون تفصيل! تقول صحيفة ديلي تلغراف: «ما لم يعترفوا [العرب والفلسطينيون] بحدود آمنة، بحدود معقولة لها، تظل إسرائيل في حالة حرب فعلية، ومن حقها اتخاذ الإجراءات العنيفة المطلوبة لحماية أمنها»، ويكفيها سوء أنها لم تسجل «حدودها» رسمياً، ولم يتم اعتمادها من الدول، أو من مجلس الأمن أو الأمم المتحدة، فهي الدولة الوحيدة في المنظمات الدولية التي لا تمتلك حدوداً.
وأما دستور الكيان فلم يسجل أو يعتمد حتى الآن، أو يتفق عليه وهي تسير على أنظمة لا رابط لها، ولا أسس تنطلق منها، ولا يزال الجدل حول كتابة دستورها قوياً وقاتلاً بين الأصوليين والعلمانيين، وليس في الأفق بصيص أمل للتوافق.
وأما الحكومة فهي من أغرب الحكومات في العالم، وقد وقع على استقلالها أكثر من ثلاثين شخصية صهيونية ليس فيهم من ولد في فلسطين، ثم من يتابع رؤساء الكيان ورؤساء الوزراء، والوزراء، وأعضاء البرلمان (الكنيست) من عام 1948م إلى عام 1967 م سوف يجد أن 80% منهم ولدوا خارج كيانهم المزعوم، إضافة إلى ذلك فإن الدولة المزعومة في صراع رهيب حول كونها يهودية أم دولة لليهود، وهل هي دولة ديمقراطية أم دينية؟ والإشكالية الكبرى تكمن في كونها حركة صهيونية أسست وطناً وهمياً، فمواطنوها مجرد وسائل لمشروع حركي صهيوني عجيب وغريب، أخذت العواصف تنحت في قواه وتفتت أعضاءه، وقامت ريح التعرية والنحت تلتف حول رقبته، وهذا ما يجعل الشك قوياً وحاضراً في بقاء هذا الكيان، وله مبرراته المنطقية.
والتأمل في حالة الكيان الصهيوني يكشف حجم رخاوته وتشتته، من خلال ما يتكئ في وجوده عليه، ومنه:
– استبداد أغلب الأنظمة العربية، وفسادها، وضعفها.
– تأثير وحضور الأسس الصهيونية في الكيان.
– الدعم الأمريكي المتنوع، والدائم، والعجيب!
– تعنت الكيان في عمليات السلام والحرب.
– تقديس وتقديم الجانب الأمني.
– القوة العسكرية.
– الروح الإيمانية بوجود الكيان.
– الاقتصاد القائم على الدعم الخارجي أولاً.
– التعليم الموغل في العنصرية والعنف وإعداد الشباب للجيش.
– التأييد والتعاطف العالمي المبني على التضليل الإعلامي.
– هجرة اليهود إلى فلسطين.
وكل ما مضى لا يوحي بوجود بنية أصيلة، ذاتية، ثابتة، داخلية، لا تؤثر فيها المواقف، والتغيرات الخارجية، وهي أيضاً سر تكرار كلمات مفصلية في الدراسات والمقالات والتصريحات السياسية الصهيونية كـ«أمن الكيان» و«الخطر الوجودي» و«العنف العسكري»، وسر رفضهم الاندماج في الشرق الأوسط، والإصرار على أوربية الكيان، مما جعله يفقد شرعيته الشرقية الجغرافية، وتأخر بناء هويته وملامحها حتى الآن، يقول الباحث أورن يفتاحيئل: «لم تنشأ في إسرائيل بعد هوية إسرائيلية ملموسة جامعة، عميقة وشمولية»، والحقيقة أنها لم تظهر فليس في هذه الأجواء تولد الهوية، لكي تكون أساساً للدولة، ولا شك أن «للمؤرخين الجدد» اليهود في فلسطين دورهم المهم في كشف أساطير الكيان، وأكاذيبه، وفضح عنفه وعنصريته ودعاويه الكاذبة، ثم جاء بعدهم فوج فكري تقدمي هز المسلمات الصهيونية، وخلخل الجذور، ونفى التفرد والتميز، منهم الكاتب شلومو ساند، حيث يقول: «إذا كان من السخف والبلاهة مطالبة اليهود الإسرائيليين بتصفية دولتهم، فإن من الواجب الإصرار على ضرورة أن يكفوا عن الاحتفاظ بها لأنفسهم، كدولة منغلقة، تمارس الإقصاء والتمييز بحق جزء كبير من مواطنيها الذين ترى فيهم غرباء، غير مرغوب فيهم».
(المصدر: مجلة البيان)