مقالاتمقالات مختارة

ليس أشأم في عيوب الحكام والعلماء أشأم من سلوك أسلوب التنازلات والمساومات

بقلم فضيلة البروفيسور/ الأمين الحاج محمد ( رئيس رابطة علماء المسلمين )

بسم الله الرحمن الرحيم
نصيحة من الشيخ الأمين الحاج رئيس الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة فى السودان

لم أرَ في عيوب الحكام والعلماء أشأم من سلوك أسلوب التنازلات والمساومات
“لا يصلح آخر هذه الأمة إلاَّ بما صلح به أولها”، مالك رحمه الله.
الأصل في هذا الدين الثبات على المبادئ والمسلَّمات، والنفور والاستنكاف من سلوك أسلوب التنازلات والمساومات، والبحث والتفتيش عن الزلات والهفوات.
قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: “إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ”، (سورة النحل: 106)، بعد أن بيَّن سبب نزولها وأنها نزلت في عمَّار بن يسار رضي الله عنهما في أخذه بالرخصة عندما اضطر إليها: (والأولى والأفضل أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله، كما ذكر الحافظ بن عساكر في ترجمة عبدالله بن حذافة السهمي أحد الصحابة أنه أسَرته الروم، فجاؤوا به إلى ملكهم فقال له: تَنَصَّرْ وأنا أشركك في ملكي، وأزوجك ابنتي!، فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلتُ، فقال: إذاً أقتلك، فقال: أنت وذاك، قال: فأمرَ به فصلب، وأمر الرماة فرموه قريباً بين يديه ورجليه، وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى، ثم أمر به فأنزل، ثم أمر بقدر من نحاس فأحميت، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يُلقى فيها، فبكى، فطمع فيه، ودعاه، فقال: إني إنما بكيت؛ لأنَّ نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذا القدر الساعة في الله فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله.
وفي بعض الروايات أنه سجنه، ومنع منه الطعام والشراب أياماً، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه، ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل، فقال: أما أنه قد حل لي، ولكن لم أكن لأشمتك بي!!، فقال له الملك: فقبل رأسي وأنا أطلقك، فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين؟، قال: نعم، فقال: ما عليَّ أن أقبل رأس هذا الكافر ويطلق سراحي وسراح من معي من المسلمين!، فقبَّل رأسه، فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده. فلما رجع إلى المدينة قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبدالله بن حذافة، وأنا أبدأ، فقام فقبَّل رأسه رضي الله عنهما)، (تفسير القرآن العظيم، لابن كثير جـ2/912).
وكذلك أخذ بالعزيمة، وآثر الباقية على الفانية حبيب بن زيد رضي الله عنه عندما أسره المتنبئ الطاغية مسيلمة الكذاب لعنه الله.
قال الشهيد المحدث المؤرخ الكلاعي رحمه الله في سرده للبطولات الخالدة في حروب الردة: (وكان حبيب بن زيد وعبدالله بن وهب في الساقة – مؤخر.ة الجيش أو القافلة– فأصابهما مسيلمة، فقال لهما: أشهدا أني رسول الله! فقال له الأسلمي: نعم، فأمر به فحبس في الحديد، وقال لحبيب: أتشهد أني رسول الله؟، فقال: لا أسمع، فقال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟، فقال: نعم، فأمر به فقطِّع، وكلما قال له: أتشهد أني رسول الله؟، قال: لا أسمع!، فإذا قال له أتشهد أن محمداً رسول الله؟، قال: نعم، حتى قطَّعه عضواً عضواً، حتى قطع يديه من المنكبين، ورجليه من الوركين، ثمَّ حرقه بالنار، وهو في كل ذلك لا ينزع عن قوله، ولا يرجع عما بدأ به، حتى مات في النار رحمه الله)، (الخلافة الراشدة والبطولات الخالدة في حروب الردة، لأبي الربيع سليمان الكلاعي 565-634هـ، صـ146).
هذا هو الطريق ودع عنك بنيات الطريق أيها المسلم؛ لأنَّ قوام هذا الدين أمران، هما:
1. حفظ أصول الوحيين، وقد تكفل الله بذلك: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُــونَ”، (سورة الحجر: 9).
2. الحفظ العملي وهو الثبات على المبادئ والمسلَّمات، والحذر من أسلوب التنازلات والمساومات، والنفور والاستنكاف عن الأخذ بالرخص التي أجازها الشارع دعك عن الزلات والهفوات والسقطات التي من تتبعها تزندق أو كاد، وتجمع فيه الشر كله، فبقاء هذا الدين حياً لا يكون إلاَّ بذلك، فلو لم يأخذ سحرة فرعون، وأصحاب الأخدود، وعبدالله بن حذافة السهمي، وحبيب بن زيد، وغيرهم كثير بالعزائم، لما قامت لهذا الدين قائمة، فثبات قدم الإسلام بالبذل والتضحية، والثبات على المبادئ والمسلَّمات مهما كانت النتائج: “أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ”، (سورة البقرة: 214).
قال خَبَّاب بن الأرت رضي الله عنه: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بُرداً له في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله ألا تستنصر لنا؟، ألا تدعو لنا؟، فجلس محمراً وجهه فقال: “والله لقد كان من قبلكم يُؤخذ فتجعل المناشير على رأسه، فيفرق فرقتين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء وحضرموت لا يخاف إلاَّ الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”)، (متفق عليه).
أشد الناس بلاء الأنبياء، ثمَّ الأمثل، فالأمثل:
لا يُمَكَّن أحد في هذا الدين حتى يبتلى، فأشد الناس بلاء الأنبياء، ثمَّ الأمثل، فالأمثل، ولهذا روى عن عمر بن عبدالعزيز أنه قال: (لا تغبطوا أحداً، لم يصب في هذا الدين)، أو كما قال.
مهاجرة الحبشة ضَرَبوا المثل الأعلى في الثبات على المبادئ:
روى الحافظ ابن كثير في سيرته جـ2/21-22 وذلك عندما لم يستجب النجاشي لطلب رسولَي قريش في تسليمهما المهاجرين عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: “فقـــال عمرو بن العــاص – وهو أحد الرسولين–: والله لآتينه غداً بما استأصل به خضراءهم؛ ولأخبرنه أنهم يزعمون أن إلاهه الذي يعبد عيسى ابن مريم عبد!، فقال له عبدالله بن أبي ربيعة –الرسول الثاني–: لا تفعل، فإنهم إن كانوا خالفونا فإنَّ لهم رَحِماً ولهم حقاً.
فقال: والله لأفعلنَّ.
فلما كان الغد دخل عليه، فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسلهم عنه.
فبعث والله إليهم، ولم ينزل بنا مثلها!
فقال بعضنا لبعض: ماذا تقولون في عيسى إن هو يسألكم عنه؟
فقالوا: نقول والله الذي قال الله فيه، والذي أمرنا نبينا أن نقوله فيه، فدخلوا عليه وعنده بطارقته، فقال: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟.
فقال له جعفر – ابن أبي طالب–: هو عبدالله، ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
فدلى النجاشي يده إلى الأرض فأخذ عوداً بين أصابعه، فقال: ما عدا – زاد– عيسى ابن مريم على ما قلت هذا العود.
فتناخرت بطارقته، فقال: وإن تناخرتم والله!، اذهبوا فأنتم سيوم – آمنون– في الأرض، من سبَّكم غَرِم، من سبَّكم غَرِم، من سبَّكم غَرِم”، وطرد رسولي قريش شر طردة.
قلت: إذا ثبت هؤلاء النفر المستضعفون الغرباء على المبادئ ونصروا دينهم، فنصرهم الله، واستنكفوا أن يأخذوا بالرخصة وهم مضطرون وفي أمس الحاجة إليها، فهل يليق بأحد بعد وهو آمن في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت عامه أن لا يكون له همٌ إلاَّ سلوك أسلوب التنازلات، والجلوس في طاولات المفاوضات، وهو يعلم مسبقاً بنتائجها الخاسرة، وقراراتها الظالمة؟!.
العاقل من اتعظ بغيره، ولكن قومي لم يتعظوا ولا بأنفسهم
سردت هذه المقدمة، وجئت بهذه التوطئة نصحاً لحكامنا، ومعذرة إلى ربنا ولعلهم أو بعضهم يثيبون إلى رشدهم؛ لأنَّ قوام هذا الدين النصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم كما أرشد إلى ذلك رسولنا الكريم، الناصح الأمين، فلا خير فينا إن لم نقلها، ولا خير فيهم إن لم يعوها ويرجعوا إليها.
وهي أن كل الذي أصابنا وأوصلنا إلى هذه الحال التي لا نحسد عليها هو سلوك حكامنا سبيلَ التنازلات، ونهج طريق المساومات، بدءاً باتفاقية الخزي والعار – نيفاشا – التي لم نزل نتجرع مرَّها، وحنظلها، وعلقمها، ومروراً بما تبعها.
وقد حَذَّرْنَا من مغبة هذا الجرم العظيم، وحذَّر كثير من العقلاء والمخلصين، ولكن لا حياة لمن تنادي.
لله در الشاعر العربي القائل:
بذلت لهم نصحي بمنعرج اللوى *** فلم يستبينوا النصح إلاَّ ضحى الغد
ومما يؤسف له أن قومي هداني الله وإياهم، لم يستبينوا النصح، ولا مساء بعد غد.
لقد أُتيَ قومنا من عدم استشارتهم للمشايخ العقلاء، وانغلاقهم على أنفسهم.
قال بعض العلماء: يجب أن يكون عند الحاكم شيخ عالم بمصالح الرعية؛ لأنَّ نظر الشيخ أتم من نظر الشباب.
وقال بعض الفضلاء:
إن الأمـــور إذا الأحداث دبرها *** دون الشيوخ ترى في بعضها خللاً
ولهذا قال عمر رضي الله عنه، عندما اختلف عليه السابقون من المهاجرين والأنصار في الدخول وعدم الدخول في الطاعون، قال: عليَّ بِمشيخة الفتح – أي مسلمة الفتح، فتح مكة – فلم يختلف عليه أحد منهم، فقال بعدها: إني صابح على ظهر، هذا قبل أن يبلغه الحديث الذي نهى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم على الدخول في الطاعون.
اللهم إنَّا نشكو إليك ضعف التقي، وجَلد الكافر:
إذا كان عمر رضي الله عنه في ذلك القرن الفاضل، والعصر الزاهر، شكا من ضعف التقي، وجَلد الفاجر، فكيف بنا نحن في هذا العصر الخاسر؟.
والله لا ينتهي عجب المرء من جلد عرمان، وباقان، وعقار، ومن شايعهم، وفي المقابل من ضعف، وخور، وعجز حكامنا، وحرصهم على سلوك نفس الطريق والدخول في عين النفق المظلم، والجحر الذي لُدِغوا منه مرات ومرات، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين”، (صحيح سنن أبي داود للألباني رقم [4862]، وقال: صحيح).
لا يصلح آخر هذه الأمة إلاَّ بما صلح به أولها:
هذه الكلمة المضيئة، والمقولة الصادقة قالها إمام دار الهجرة، مالك بن أنس رحمه الله، وقال كذلك: “ما لم يكن في ذاك اليوم ديناً، فلن يكون اليوم ديناً”، فالدين تمَّ وكمل، فليس بعد التمام والكمال إلاَّ النقصان والخسران.
وكان صلاح أولها بالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه السلف، وكان سبب نصرهم وعزهم، نصرهم لهذا الدين مصداقاً لقوله تعالى: “إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ”، (سورة محمد: 7)، “وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ”، (سورة آل عمران: 126).
فطالما نحن خاذلون لديننا، متمردون على شرع ربنا، طالبون للعزة والنصرة بسلوك أسلوب التنازلات والمساومات الذي ثمرته الخسران في الحياة وبعد الممات، راغبون في رضا الكفار والملحدين، ونحن نقرأ قوله عز وجل: “وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ”، (سورة البقرة: 120)، فأنَّى لنا الصلاح؟.
أيها الحكام خاصة والأمة عامة!! تذكروا وعوا مقولة عمر رضي الله عنه: “لقد أعزنا الله بالإسلام، فمن ابتغى العزة في غيره أذله الله”.
أيها الحكام الحذر الحذر من النتازل عن المبادئ والمسلَّمات، أو شبر واحد من هذه الديار المسلمة، فهي أمانة في أعناقكم، وارجعوا إلى دينكم، وتحملوا مسؤولياتكم، ولا يستخفنكم الذين لا يعقلون من الكفار، والملحدين، والمنافقين، واحذروا أسباب الخذلان واسعَوا لرفع المعاناة عن الأمة، فقد كاد الغلاء أن يفتك بها، واحذروا الظلم، فإنَّ الظلم ظلمات يوم القيامة، ودعوة المظلوم التي تُفْتَح لها أبواب السماوات، ويستجاب لصاحبها ولو بعد حين، واعلموا أن الله ينصر الدولة الكافرة العادلة على الدولة المسلمة الظالمة.
وأخيراً، أحب أن أذكر بما قاله نصر بن سيار مخاطباً مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية:
أرى تحت الرماد وميــض نار *** ويوشك أن يكون لها ضِـرام
وإن لــم يطفها عقـــلاء قـــوم *** يكــون وقودهــا جثث وهـام
فقلت من التعجب ليـت شعري *** أيقظـــان أميــة أم نيـــــــام؟
فإن يك قومنا أضحــوا نِيامــاً *** فقــل هبــوا لقد حـان الحمام
اللهم احفظ علينا إسلامنا، وسوداننا، اللهم ألف بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام، اللهم ارفع عن بلادنا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين الغلا، والوبا، والربا، والزنا، والزلازل، والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم ردنا إليك جميعاً رداً جميلاً.
اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الكفر، والفسق، والعناد، وانشر رحمتك على العباد، واجعلها بلاغاً للحاضر والباد.
اللهم انصر دينك، وكتابك، وعبادك المؤمنين، وأذل الكفر والكافرين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وصلى الله وسلم على نبي الملحمة والمرحمة، وعلى آله، وصحبه والتابعين.

 

 

(المصدر: رابطة علماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى