بقلم د. علي الصلابي
شارك العراقيون في كفاح الشعب الجزائري على جميع المستويات الرسمية والشعبية، وقد مَرَّ الموقف العراقي تجاه الثورة الجزائرية بمرحلتين، الأولى انتهت مع الإطاحة بالنظام الملكي في 14 يوليو/ تموز 1958م، والثانية في عهد الجمهورية العراقية الأولى وحكومة عبدالكريم قاسم. وفي المرحلة الأولى: لم يكن موقف العراق جيدًا بحكم نفوذ أو ضغوط الدول الغربية خاصة بريطانيا ذات التأثير الكبير، واضطرت الحكومة للاستجابة النسبية لضغوط الشعب العراقي الذي خرج يُندد بالاستعمار الفرنسي معلناً التأييد للثورة الجزائرية، وشكّل لجان المساندة المادية بما فيها جمع تبرعات مالية وطبية وغذائية، وكانت المساعدات العراقية الغذائية فعالة لأنها تأتي في الأزمات، وضمنت الحكومة العراقية 250 مليون فرنك فرنسي سنوياً لدعم حرب التحرير الجزائرية، وخصصت 250 ألف جنيه استرليني تدفع لجامعة الدول العربية لمساندة القضية الجزائرية.
خلال الدورة العاشرة للجمعية العامة للأمم المتحدة، كما دعمت العراق القضية الجزائرية، حيث جاءت أول محاولة لإدراج القضية الجزائرية في أعمالها العادية، وهي أول دورة عادية تنعقد بعد قيام الثورة الجزائرية، وذلك على إثر طلبٍ تقدمت به أربع عشرة دولة أفرو- آسيوية في 26 يناير/ كانون الثاني 1955م، وكان الوفد العراقي برئاسة فاضل الجمالي في هذه الدورة من بين الوفود التي طالبت بإدراج القضية الجزائرية في جدول أعمال الجمعية العامة.
وخلص ممثل العراق إلى القول بأن على هيئة الأمم المتحدة أن تؤدي واجبها أخلاقياً وقانونياً تجاه الثورة الجزائرية وقضيتها العادلة، وذلك بالضغط على الشعب الفرنسي وحكومته قصد معالجة هذه القضية بنفس الطريقة والروح التي عولجت بها قضيتا تونس ومراكش.
1 ـ الدعم المالي للجزائر بعد إسقاط الملكية بالعراق
زار وفد من الحكومة المؤقتة العراق يوم الثلاثاء 21 أفريل 1959م برئاسة فرحات عباس من ضمن رحلات قاموا بها للبلاد العربية، حيث استقبلوا استقبالا جماهيريا حاشدا يقدر بمائة ألف من الجماهير، وقال عباس فرحات بلسان عربي قلّما نطق به: هؤلاء أحبونا ففعلوا بنا ما فعلوا، فماذا كانوا يفعلون لو أنهم يكرهوننا؟
بعد ثلاثة أيام من وصولهم عقد مجلس الوزراء، وتقدم وفد الثورة الجزائرية بمطالبهم حيث قال مندوبهم: “الآن جاءت الساعة الحاسمة، ساعة بعدها النصر، أو بعدها الفناء، المال والسلاح، هذا ما نطلب من العراق. نريد المال الجزيل والسلاح الوافر، فالعرب كلهم تقدموا فيما مضى بما يستطيعون. والآن جاء دوركم فانظروا ماذا أنتم فاعلون؟
أجاب قاسم بأن السلاح سيأتي على الفور، لكن المال غير متوفر وبعد أخذ ورد ونقاش في قيمة المساعدات اتفق الطرفان على أن تدفع العراق 3 مليارات فرنك للثورة الجزائرية على أربعة أقساط.
وهكذا كان والله!. فمنذ تلك الساعة، إلى يوم استقلال الجزائر لم يتأخر قسط عن موعده المحدد، فحيا الله همة العراق، وحيا الله شعب العراق.
2 ـ دعم الثوار الجزائريين بالسلاح
كان التنسيق بين العسكريين العراقيين والجزائريين مكثفاً ومنظماً وسرياً، والنقل كان مباشرة عن طريق الطائرات العراقية نزولاً بليبيا، بإشراف مباشر عراقي جزائري، بالتنسيق مع السلطات الليبية، ولم يتوقف الطيارون العراقيون عن إيصال السلاح للمكان، وفي الموعد المحدد، وقدم العراق للجزائر حتى أدق الأسلحة، وأجهزة اتصال عسكري «50 جهازاً» يصعب الحصول عليها في مكان آخر، لأن العراق تحصل عليها من منظمة الحلف الأطلسي عندما كان عضواً في حلف بغداد قبل ـ انقلاب عبد الكريم قاسم ـ
3 ـ طلبة الجزائر في العراق
سمحت الحكومة العراقية للطلبة الجزائريين بالتدريب في كلياتها العسكرية، وذلك تحت نفقتها، حيث بلغ عدد الخريجين الجزائريين من هذه الكلية العراقية الحربية ما يقارب الأربعين عسكرياً برتبة ملازم ثان، هذا إلى جانب كلية الطيران التي استقطبت ما يقارب 27 طالباً عام 1962م منهم خمسة طيارين.
4 ـ مقاطعة العراق للحكومة الفرنسية
قررت الحكومة العراقية في 13 نوفمبر 1958م وقف كل نشاط اقتصادي وتجاري للفرنسيين في العراق، وكان لهذا القرار تأثير سلبي كبير على المصالح الاقتصادية الفرنسية بالعراق، بحيث أن 70% من المشاريع العراقية الكبرى مثل الطرق، وإقامة الجسور وبناء السدود، والمنشات العامة والمصالح الكبرى ؛ كانت تنفذ من طرف شركات فرنسية، واعتبرت مجلة المجاهد هذا القرار موقفاً رائعاً جاء تدعيماً عملياً لثورة الجزائر، وتعبيراً قوياً عن وحدة النضال العربي الذي صهرته بوتقة الآلام والآمال المشتركة، مشاعر قومية أصيلة رسبت في أعماق النفس العربية أجيالاً طويلة لتظهر اليوم كأشد ما تكون حرارة وحيوية وقوة.
5 ـ تعبئة شعبية ودعم في المحافل الدولية
على المستوى الجماهيري كان الانسجام متكاملاً وقوياً، من أجل التعبئة المعنوية والمادية للمعركة المقدسة في الجزائر ضد الفرنسيين، بما فيها المظاهرات والاحتجاجات الجماهيرية المتكررة والمكثفة دورياً وفي كل مناسبة، وعلى رأسها ذكرى أول نوفمبر التي مثلت حدثاً بارزاً في العراق، وأعطيت اهتماماً خاصاً من طرف العراقيين حكومة وشعباً.
وقد خصصت عشر دقائق يوميا للتعريف بالثورة الجزائرية في المدارس، وكانت إذاعة بغداد تخصص برنامجاً يومياً حول الثورة الجزائرية لمضاعفة تدعيم وتعبئة الشعب العراقي والعربي بصفة عامة للوقوف لجانب إخوانهم بالجزائر.
على مستوى العلاقات الثنائية الرسمية، وصل الموقف العراقي لدرجة النقد والهجوم القوي ضد أي إجراء يمس أو يؤثر مباشرة أو غير مباشرة على مسار حرب التحرير الجزائرية، حتى ولو حدث ذلك مع دولة مثل الاتحاد السوفياتي التي تهم المصالح الوطنية الحيوية للعراق، فعبد الكريم قاسم الرئيس العراقي دون تردد حذّر خروتشوف الرئيس السوفياتي من زيارة حاسي مسعود «بالجزائر»، معتبراً ذلك مساساً بالعلاقات الثنائية بين العراق والاتحاد السوفياتي والعلاقات العربية السوفياتية ككل.
وكان العراق أول قطر عربي يعترف بالحكومة الجزائرية المؤقتة، كما كانت العراق في مقدمة الأقطار العربية سياسياً ودبلوماسياً في العمل على تدويل القضية الجزائرية، وفي خطاب للسيد هاشم جواد وزير خارجية العراق في افتتاح مؤتمر وزراء الأقطار العربية ببغداد «30 يناير/ كانون الثاني 1961م» أكد فيه: إن معركة الجزائر التي خضناها في الأمم المتحدة مازالت تستدعي مزيداً من العمل والتضحية، وتستوجب توفيقاً في الخطط في الشدة على العدو بشتى الوسائل الاقتصادية والسياسية المتيسرة مساندةً للجهود العسكرية الجبارة والكفاح المرير الذي يخوضه إخواننا الجزائريون.
كان التأييد العراقي للجزائر جدياً وملتزماً، ونتائجه كانت ملموسة ومؤثرة إيجابياً على مسار الثورة الجزائرية، وهذا باعتراف السيد فرحات عباس بعد زيارته للعراق أبريل/ نيسان 1959م: زيارتنا للعراق الشقيق تعتبر نصراً كبيراً للقضية الجزائرية، حكومة العراق أدت واجبها كاملاً، وعلى الخصوص فيما كانت قد تعهدت به إلينا.
ونفس التقييم تضمنه البيان المشترك بين حكومتي العراق والجزائر أثناء زيارة الوفد الجزائري برئاسة السيد فرحات عباس: العراق حكومة وشعباً يؤازر القضية الجزائرية بالأسلحة والأموال وفي الميدان العالمي، كما تضمن البيان مطالبة الشعوب والبلدان العربية بمضاعفة المساعدات والدعم السياسي والمادي للثورة الجزائرية والإسراع بتنفيذها.
لم يقف الدعم العراقي هذا الحد، بل ازدان الأدب العراقي بالمدائح وقصائد وأدبيات الاعتزاز والفخر بالشعب الجزائري وصبره وصموده. وكان شعراء العراق على الموعد، بل كانوا من أكثر شعراء الدول العربية غزارة في الإشادة بالثورة الجزائرية ودعمها، فقد استطاع السفير الجزائري في العراق عثمان سعدي أن يجمع في مجلدين شعر العراق في الثورة الجزائرية وسمّاه «الثورة الجزائرية في الشعر العراقي»، وكان أبرز شعراء العراق الذين امتدحوا الثورة الجزائرية بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي ونازك الملائكة ومحمد مهدي الجواهري. وتجاوزت عدد القصائد ما يربو على 250 قصيدة، منها القصيدة الموغلة في التقليدية والعمودية، ومنها القصيدة العمودية المتجددة أو الحديثة، ومنها القصيدة المتحررة من جميع قيود القافية وقوالب شطري البيت. وشعر كهذا غني بموضوعاته، لأنه تناول أحداث الثورة الجزائرية وما أكثرها. ومن هذه الموضوعات:
· قوة الثورة وصلابة عودها.
· وصف بطولات الثوار.
· أمجاد جيش التحرير الوطني ومعاركه.
· ثورة الجزائر كأمل للعروبة ومثال للكفاح الإنساني
· فرنسا وحلفاؤها كما صورها الشعراء العراقيون.
· فرحة إعلان الاستقلال والجمهورية.
ومن القصائد الشاخصة في الشعر العراقي التي أشادت بكفاح أهل الجزائر آنذاك، أبيات اِستحثَّ بها الشاعر العراقي حميد فرج الله الجزائر لتُشعل نار الثورة من جبال الأوراس ضد المستعمر الفرنسي، فأجابته بأن فيها بركانًا مشتعلًا بهمة أبنائها الشجعان. كما يخاطب فرج الله المستعمر الفرنسي بأن استعماره زائل أمام دعم شعوب الأرض للكفاح الجزائري العظيم، وهذه أبيات فرج الله:
هيّا اضرمي النار في أوراس صاخبة… أنا الجزائر يغلي فيّ بركان
لي من بنيّ ليوث لا تطاولهم …………عند الملمات في باريس ديدان
يا وحش باريس ما ترجوه من وطن … هبت لنصرته في الأرض أوطان
وهبَّ شعب به كالطود مندفعًا ……… للمجد يدفعه وعي وإيمان.
(المصدر: ترك برس)