بقلم حسام شاكر
يتباهى المريد الطيِّب بشيخ فذّ لا يُشَقّ له غبار، ويحدثك بإسهاب عن دراساته المعمّقة وبحوثه الفريدة في موضوعات دقيقة ونظريات شائكة، حتى تقنَع بأنه ناهز جهابذة العلم وأساطين الفكر وأعلام الفلسفة. يدفعك الشغف إلى سؤال صاحبك المأخوذ بشيخه: وكيف السبيل إلى دراساته وبحوثه الرائعة هذه؟ يجيبك بلا تردّد: حسنا، عليك باليوتيوب! تستدرك مستغربا: أليست مسطورة ومنشورة إذن؟ فيعاجلك بردّ صارم: هو لا يعجز عن تأليف الكتب، لكنّ أعماله أوسع من أي مكتبة، فهي منتشرة في مقاطع تنساح بين الجماهير وتحظى بالإعجابات الوفيرة. تسأله متعجِّبا: وهل تكون هذه وحدها دراساتٍ قابلةً للتقويم العلمي والنظر المنهجي، ومن بوسعه بالتالي أن يراجعها ويدرسها على حالها هذه؟ يجيب المريد المسكون بأطياف شيْخه: هذا ما يريده الناس اليوم يا صاحبي .. فهل تجادل في أنها وسيلة مؤثرة جداً؟!
تنزلق حواراتٌ كهذه إلى دركات العبث مع مأخوذين بشيوخ الزمن الشبكي ومهووسين بعلماء المقاطع ومفتونين بمجددي الشاشات. فالانبهار يستدرج القوم إلى الاقتصاد في التمحيص والتنازل عن الحسّ النقدي أو تشغيل العقول؛ سوى في اتجاهات محسوبة يقررها أصحاب الإطلالات المرئية البهيّة؛ التي ترفع رايات العقل والعلم والفكر والتجديد، مع تجاوز استحقاقاتها العملية المباشرة في سبر الأغوار واستيفاء البيان وتمكين الجمهور من المراجعة.
ومع هيمنة “الشيخ” على وجدان “مريديه” وإمساكه بخطام وَعيِهم من حيث لم يحتسبوا؛ فإنهم لا يَلحَظون عجزَهم عن الفحص والتدقيق فيما يأتي به في إطلالات مرئية يكتفي بها وحدها، وقد يدفعهم إعجابهم الشديد به إلى تلقّف ما يأتي به في الشاشات والشبكات بهَوَس مُفرِط أحيانا، على طريقة الآصرة التقليدية بين الشيخ والمريد. لا يترك الانبهار مجالا لأي شكّ بأصالة الفحوى ورصانتها وعلميّتها ودقّة تناولاتها وأمانة اقتباساتها، رغم انتفاء فرص النظر والتمحيص والمراجعة والنقد العلمي والأخذ والردّ على بصيرة، طالما ابتدأ التناوُل بإطلالاتٍ مرئية وانتهى بها.
علماء المقاطع ومجددو الشبكات يحرصون على تجاوُز المجتمع العلمي بأصوله والقفز فوق نُظُمه والالتفاف على معايير اشتغاله؛ وهذا بدعوى “حاجة الأمة كلها إلى التجديد” |
قد يُهُون الإشكال مع وعّاظ تزكية الأنفس أو جمهرة المدرِّبين الذين يفترشون الشاشات والشبكات بمعسول الكلام وسلاسة العبارة، رغم شطط بعضهم؛ لكنّ انخراط وجوه محسوبة على العلم والفكر والفلسفة والتجديد في طقوس الاكتفاء بالظهور المرئي هذا؛ كفيل بأن يجعل هذه الميادين النوعية وما يتخللها من قضايا كبرى ومسائل دقيقة عرضة لتلاعبات فجّة تبتغي التأثير الجماهيري والاستمالة والاستقطاب بأساليب التناول الموجّه والتحيّزات الانتقائية، كما يفتح الباب على مصراعيه لمساعي التدليس والتضليل المشفوعة بإيحاءات “علمية” و”فكرية” و”فلسفية”؛ وإن جاءت في أصلها أو طرائقها مارقةً من هذا كلِّه.
قد نرضخ أخيرا لاستنتاج ساذج بأنّ أجيال الحاضر باتت محظوظة حقا، فما الذي يدفعها إلى تأليف الكتب والأسفار لمعالجة معضلات الفكر والفلسفة، أو وضع الدراسات والبحوث في مسائل العلم والاجتماع؟ ها هي الحروف المعدودة في الشبكات، والثواني المرئية في المقاطع؛ تكفيهم اليوم لمناجزة أرسطو والغزالي وابن تيمية ونيتشه بتغريدة جريئة أو بمقطع جَسور، وهي تتيح لبعض المتحمِّسين فرصا غير مسبوقة لإعادة تأويل التاريخ ونقض ما استقرّت عليه أفهام الدين وتجريف حقول الاجتماع بلا هوادة، مع التناول الفلسفي المتعسف.
ليس من عجب، إذن، أن نجد شابّا عربيا أقبل على دروس السريانية والآرامية والعبرية، ثم خرج على جماهير أمّته باقتراحات جسورة لقراءة آيات معينة من القرآن الكريم بما يوافق هذه اللغات على نحو لم يسبق إليه الأوّلون ولم يأت بمثله الآخِرون. وما جاء به الشاب الوسيم بقبعته الأمريكية لم يختلف في طريقته عن نهج مشاهير الشاشات والشبكات بوجوههم النضِرة وأدائهم الساحر، فهو لم يُجاوِز في إطلالاته “التجديدية” تلك مقاطع “سناب تشات” التي تحظى بإقبال الناشئة في جزيرة العرب.
الرسالة واضحة: فما حاجة جهابذة عصرنا بتسطير الكتب وتصنيف الأسفار كما أجهد الأسلاف أنفسهم عبر القرون وكما يفعل علماء ومحققون إلى اليوم وإن لم يعترف بهم الزمن الشبكي بعد؟ تكفي فرسان هذا الزمن مقاطعُ الشبكات وإطلالة الشاشات، وسيحظَوْن بالتصدّر الجماهيري وبمزايدات سخيّة من مريديهم في ألقاب العلم والفكر والتجديد، وقد يستدرجهم أرباب حرب الأفكار المستعرة على جبهات العالم الإسلامي لاستعمالهم في منازلات ضد “خطاب التطرف”.
إنهم المتحدثون البارعون الذين يتوجّهون إلى الجمهور مباشرة بأقوال لا تمنح حتى أهل الاختصاص، فرصةَ تمحيصها وتدقيقها وقابلية تقليبِ النظر فيها، فعلماء المقاطع ومجددو الشبكات يحرصون على تجاوُز المجتمع العلمي بأصوله والقفز فوق نُظُمه والالتفاف على معايير اشتغاله؛ وهذا بدعوى “حاجة الأمة كلها إلى التجديد”، وأنّ “الزمن قد تغيّر اليوم”، إلى درجة لا يتورّع معها بعض مريديهم عن تبرير هذه السيولة المعرفية بالقول: إنه زمن الوجبات السريعة والقهوة المحمولة في الطرقات، وليس زمن الكتب والدراسات يا صاحبي!
يمنحك هذا الجيل من “العلماء والمجددين” الانطباع بأنّ أحدهم يمضي بلا هوادة إلى تأسيس جديدٍ في المسائل جميعا، حاملا معاول التحطيم تحت لواء “المراجعات” و”إعمال العقل” و”تنقية التراث”، وسيُعلِن المفتونون بأحدهم أنّ الأمهات قد عجزن عن أن يَلِدنَ مثله، وسيجادل آخرون إن كان شيخهم هو مجدِّد القرن أم الألفية، وقد يهمس بعضهم على استحياء: “لعله المهدي المنتظر”. لا حاجة وسط جوقة الافتتان والهوَس لأسئلة مشروعة عن بحوث أنجزها ودراسات وضعها وكتب نشرها في القضايا الكبرى والمسائل العويصة التي يشغل بها أحدهم الأسماع والأبصار، فالتبرير جاهز؛ بأنّ امتناعه عن هذا كله ليس عجزا منه بل زهدا في الأمر، وأنّ علومه وفلسفاته هي من السعة إلى درجة لا تحتملها كتب منشورة أو بحوث مسطورة.
تتفشى المقاطع بين الجماهير بلا ناظم ينظمها ولا رابط يجمعها، فلا يغدو تعقّبها مُيسّراً ولا ضبط نطاقها ممكنا
يُشهِر أحدهم سيف النقد في حملات مرئية لا تتيح مراجعة الفحوى إلا بشقّ الأنفس، وإن سعى أهل الاختصاص إلى فحص ما يأتي به؛ ابتلعتهم متاهةٌ شبكية من شظايا الحلقات والمقاطع المتجددة والحافلة بالتناقضات في ما بينها أحيانا. تتفشى المقاطع بين الجماهير بلا ناظم ينظمها ولا رابط يجمعها، فلا يغدو تعقّبها مُيسّراً ولا ضبط نطاقها ممكنا، فتتعالى المضامين على الفحص وتتطاول على المراجعة.
يتحصّن أحدهم بشظايا المرئيِّ والمسموع المتفرقة في الآفاق الشبكية، وبهذا يتّقي سِهامَ النقد العلمي والفحصِ المنهجي والمراجعة الرصينة، دون التنازل عن كسب المتابعين وحيازة الإعجابات والفوز بالألقاب، فهل من سبيل أدنى إلى استقطاب الجماهير واستمالتها وكسب المريدين من مسالك الشاشات والشبكات والمقاطع التي تتيح الظهور المتألِّق؛ بدل الاكتفاء بنصوص مجردة تحجب إطلالة الشيخ المرئية عن شغف مريديه به؟
لا يلحظ معظمهم أنّ ما يأتي في الشاشات والشبكات لا يقوم على نصوص مجرّدة أو على منطوق القول وحده؛ فإطلالاتها محفوفة بمؤثرات شتى مُصاحبة تنضح بالإشارات والإيحاءات والرسائل التي تستعصي على الضبط في الهيئة والصوت والأداء، وهي مضامين لا يصحّ إعفاؤها من الفحص أيضا. فلا تقتصر الرسائل المبثوثة في المقاطع على كلمات مجرّدة بل تنقدح التأثيرات من كيفيات الأداء أيضا وما يتخلله من إيماءات، كما يُحرِز الصوت مفعولا مؤكدا بطبقته وسرعته وشحنته المتلازمة مع انفعالات الموقف وتجلِّيات الوجه والبدن، وقد أدرك رواة الحديث النبوي هذا فأدرجوه في رواياتهم بحرص.
وتأتي فوق هذا مؤثراتٌ صوتية ومرئية مُضافة يستصحبها مُخرجو بعض الحلقات والمقاطع وقد يُقصَد منها استلاب وعي الجمهور الذي تتوجّه إليه، بما يجعل المضامين “العلمية” في مقامات كهذه متنصِّلة من معايير العرض العلمي والتناول المنهجي، ولهذا لا يُسمَح بمثلها في الأروقة البحثية والمنصّات الأكاديمية مثلا.
لا تثريب على متحدثي الشاشات والمقاطع في ما يختارونه من زخرف القول وطرائق الظهور وأساليب العرض، لكنّ المصارحة واجبة بأنّ بعض مقاطعهم وحلقاتهم تستعمل النقد في اتجاهات شتى لكنها تتحاشى بحصافة أن يُستَعمل النقدُ العلمي بحقها أو النظر المنهجي معها، لأنها تكتفي بالمادة الإعلامية التي تراهن على الذيوع والتأثير؛ دون المادة العلمية المجردة التي تتواضع للنظر والفحص والمراجعة لبيان سلامتها.
وإن لم تتجرّد المادة “العلمية” المزعومة عن المؤثرات المصاحبة ولم تتواضع للناظرين فيها؛ فإنها تُواجِه شبهةَ الاحتماء بالمنابر الإعلامية والتحصّن من النقد المنهجي الرصين |
وإن تدفّقت سيول المواد المبثوثة في وسائل الإعلام والشبكات؛ فإنّ بعضها يخاطب جماهير الحاضر والمستقبل لكسبها وتطويعها، فتنساح مضامينها بلا حدود دون تمليك الناس أدواتِ النظر العلمي والقدرة على استعمال الحسّ النقدي ارتداديا معها واستدعاء التمحيص اللازم إزاءها؛ خاصة إن لازمَتها مهاراتُ الأداء ومؤثراتُ المشهد؛ فقد تهيْمن بهذا على الوجدان وتستلب بما يأتي فيها الأذهان؛ رغم ما يتخللها، عادةً، من شعارات المرحلة التي تتمسّح بالعلم وتتذرّع بالعقل.
من حق الجمهور أن يتساءل إن كان ما يأتي به أحدهم من مسائل “علمية” قد وقع تمحيصُه علمياً كما ينبغي أم لا. فإن جاء أحدهم في إطلالة مرئية بما يُحسَب أنه تجديدٌ في العلم، أو دراسة غير مسبوقة في بابها، أو بحث فريد ونحوه، مما زاد فيه على من تقدّموا أو صحّح وعدّل؛ فإنّ المسؤولية تقتضي إتاحة الفرص للتمحيص والنظر وفق الأصول، أي بوضع المادة مسطورةً منشورةً واضحة جليَّة؛ لتُضبَط وتُبحَث وتُنظَر وتُراجَع وتناقَش، بدل الاستئناس بحمّى ردّ فلان على فلان، و”إفحام” هذا لمنافسه في صولات “يوتيوب” وحلقات الفضائيات؛ وقد لا تزيد الجمهور إلا حيرة واضطرابا.
أما إن جاء المتحدث بمادة كان واضحا في جملتها أنها استدعاءات وملخًصات مما تقرِّر أساسا؛ فإنه في هذا عالةٌ على مَن سبقوه وإليهم يُرجَع، مثل المواد التعليمية والإرشادية العامة، وإن كان الأمثل أن لا يقف صاحب البيان عند حدود الإطلالات الإعلامية؛ فالأجدر به أن يقدِّم بحوثاً ودراسات وكتباً أو أن يُوصي بمراجع ونحوها.
فمن يأتي بمادة “جديدة” في بابها ويُحسَب أنها “علمية”؛ لا يصحّ بها مهما استحضرت من المؤثرات ذات الإيحاء العلمي؛ أن تُعَدّ دراسةً رصينة في المسألة إن استعلَت على قابلية البحث أو تمنّعت عن التأهّل للنظر فيها وتمحيص فحواها، لتُعلَم جدّتها وأصالتها ولتُدرَك منهجياتها وسلامة مراجعها وإحالاتها واقتباساتها. فمن بوسعه، مثلا، أن يتحقّق مما يأتي في الشاشات والمقاطع إن غابت الإحالات وعلامات التنصيص والإشارات المرجعية مثلاً، وإن تملّصت الفحوى من قابلية الضبط، وهيْمن عليها الأداء السمعي البصري الحافل بالمؤثرات والمفعَم بالإيحاءات المُهيْمنة على الوعي والوجدان؟! تستعصي الإطلالات الإعلامية على التمحيص العلمي في مسائل هي علمية في أصلها، أما الجمهور فقد تستبدّ به تأثيرات يتضافر في تشكيلها الأداءُ البصري والصوتي والحركي والإيحائي على نحو قد يفوق في وَقْعه ما يأتي في الفحوى النصية المجرّدة.
وإن لم تتجرّد المادة “العلمية” المزعومة عن المؤثرات المصاحبة ولم تتواضع للناظرين فيها؛ فإنها تُواجِه شبهةَ الاحتماء بالمنابر الإعلامية والتحصّن من النقد المنهجي الرصين. وهي إذ تتقدّم إلى فضاءات المخاطبة الإعلامية الجماهيرية مع الإصرار على تجاوُز قنطرة الفحص العلمي؛ فإنها تكون بهذا عَرضا إعلاميا لا مادة علمية، حتى وإن اشتغلت بموضوعات علمية كما تفعل بعض الأفلام الوثائقية والمجلات الشعبية مثلا. ولا إشكال هنا بالطبع إن وقع الاعتراف بصفتها هذه، لكنّ المعضلة أن يُعدّ الاكتفاء بهذا منهجا علميا يفي بالغرض وخيارا تجديديا يكفي لسبر أغوار المسائل ويُعفي أصحابه من التناول وفق الأصول. فأسوأ من القعود عن البحث المنهجي أن يقع التنظير لهذه الحالة المتقاعسة وتبريرها، إلى حدّ شرعنتها والترغيب بها أحيانا، وقد يقع استحسانها بالإساءة التعميمية الجائرة بحق مَن نشروا كتبا وبحوثا والزهد بنتاجهم تصريحا أو تلميحا مع تشديد النكير على الجامعات والمعاهد أيضا.
يُمعِن البعض بذمّ الالتزام بالمنهجيات العلمية ويُنادون بتجاوز المعاهد المختصة والجامعات الرصينة. لكنهم لا يقبلون بمثلها بتخصّصاتهم
لا يغيب الهوى أو الشطط عن الكتب والبحوث والدراسات المنشورة في المشارق والمغارب، لكنها في هيئتها هذه تبقى، على الأقل، قابلةً للنقد ومتيسِّرة للمراجعة حسب الأصول، بخلاف الاكتفاء بالمواد المرئية التي تتفشّى بين الجماهير بلا ناظم ينظمها ولا رابط يجمعها، فلا يغدو تعقّبها مُيسّراً ولا ضبط نطاقها ممكنا ولا التحقّق من سياقها متاحا. وأما المروق من أصول التناول العلمي بدعوى الحرص على التأثير وضمان الذيوع فيبقى مَنطِقا إشكاليا للغاية، وقد يرسم هالة الشكّ حول سلامة المنهج وما ينبثق عنه؛ وإن جاء تحت شعارات برّاقة مثل حاجة المجتمعات إلى “التوعية والتجديد والإصلاح”.
باتت هذه النزعة العلموية ظاهرةً مُقيمة، ستلازم أجيال الحاضر والمستقبل، وقد تمضي إلى تفاقم مُطّرد، وتدفع بمفارقات متعاقبة ضمن حقبة “ما بعد العلم” التي يختلط فيها الزيفُ بالحقيقة، وتحظى معها الأوهام بذيوع متجدد، خاصة إن اكتست مسوح العلم والعقل وحرية النظر وانفتاح التأويل المتجرد من الضوابط.
يُمعِن بعضهم في ذمّ الالتزام بالمنهجيات العلمية ويُنادون بتجاوز المعاهد المختصة والجامعات الرصينة. ومن المفارقات أنّ المريدين المتحمسين للحالة لا يقبلون بمثلها في تخصّصاتهم التي أضنوا أنفسهم في التأهّل لها سنين عددا، وهم يدركون أنّ العلماء والأساتذة الذين تركوا بصماتهم في مباحث العلوم الإنسانية والتطبيقية ما كان لهم أن يكتفوا بالشاشة و”يوتيوب” و”سناب تشات”، وأنه لا يُقبل منهم هذا، ولن يُعترف بأي “بحوث فذة” إن جاءت حصرا في برامج القنوات ومقاطع الشبكات، لكنهم يستسهلون مع الدين والفكر والفلسفة ما لا يرضون لحقول اختصاصهم.
ألا يجدُر بالمريدين تطبيق المعيار ذاته في الحقول جميعاً إن استساغوا الحالة حقاً، كي لا يَقِف الأمر عند حدود “التجديد الديني” و”تنقية التراث” مما يُنادون به وحده؟! إنها دعوة مفتوحة، إذن، لإغلاق كليات الطب والصيدلة بذريعة الاحتفاء ببرامج الصحة والتغذية وبالخبراء الرائعين الذين يظهرون في الحلقات والشبكات والمقاطع. سيبدو عالمنا رشيقا وباعثا على الاستبشار مع إطلالات المعاطف البيضاء وخبراء التجريب الذي يخاطبون الجمهور باقتدار في مقاطع مجهولة المصدر، تتطوّع بوصفات تمنح ذوي الأسقام وعودَ الصحة والعافية إن تناولوا عشبة مخصوصة؛ دون المسؤولية عن عواقبها.
(المصدر: مدونات الجزيرة)