مقالاتمقالات مختارة

عامة المسلمين بين تجفيف المنابع وتحريف المفاهيم

بقلم أ. أسامة شحادة

كان من كلام السلف الحثّ على اتّباع الفطرة السليمة في المعتقد، والتي عليها العامة من المسلمين كما في قول الإمام سفيان الثوري: “عليكم بما عليه الحمالون، والنساء في البيوت، والصبيان في الكتاتيب، من الإقرار والعمل” وذلك في مفهوم الإيمان وأنه قول وعمل، وإلى ذلك أشار الإمام الفخر الرازي في قوله: “ليتني أموت على عقيدة عجائز نيسابور”، وذلك أن عامة المسلمين كانوا تبعاً لأهل العلم الصادعين بالكتاب والسنة وفهم الصحابة والسلف الكرام، بينما كان أهل البدعة والانحراف في الغالب هم الاستثناء والقلة والشذوذ الذي لا يلقى القبول العام وإنما هو محصور في دوائر ضيقة.

ولكن تبدل هذا الحال لمّا تمكن المعتزلة من كسب الخليفة المأمون لقولهم، حيث أجبر العلماء والفقهاء على قوله بالغصب والإكراه، وضرَب الإمام أحمد وحبَسه بسبب رفضه مذهب المعتزلة بالقول بخلق القرآن، وبقيت هذه الفتنة مدة 13 سنة حتى أبطلها الخليفة المتوكل، وزالت دولة المعتزلة، وانتشرت السنة عموما، لكن بدأت عملية تحول بانحسار سلطة علماء أهل السنة والجماعة عن قيادة عامة المسلمين لصالح جهات أخرى، وبدأت مسيرة غربة أهل السنة والجماعة.

ثم لما انتشر التصوف بين عامة المسلمين وقياداتهم تزعزعت عقائد العامة وتخلخلت قوة الدولة الإسلامية فانتشر الجهل والتواكل، فضاعت دنيا المسلمين ودينهم، وهُدمت الدولة العثمانية وتفتّتت قوة المسلمين، وتسلط عليهم الكفار المحتلون، وانتشرت الأفكار الالحادية بين ملايين المسلمين الذين وقوعوا في قبضة الشيوعية في روسيا والدول الحليفة لها في أوربا وآسيا وأفريقيا، وانتشرت العلمانية في الدول الإسلامية الأخرى، كما ظهرت الفرق الضالة من القاديانية والبهائية وأمثالهما، وصبّت الشهوات على أبناء المسلمين حتى صرخ العلامة أبو الحسن الندوي بصرخته المدوية “ردة ولا أبا بكر لها”!!

ثم شاء الله عز وجل أن تحصل يقظة إسلامية وصحوة مباركة قادها علماء مصلحون من أمثال العلامة رشيد رضا والعلامة الألوسي والعلامة القاسمي قامت على بعث كتب شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب ونشرها في الآفاق، ثم ردفتها جهود الدولة السعودية خاصة بعد الطفرة النفطية ففتحت الجامعات واستقبلت الطلاب وأنشات المساجد والمعاهد وبثّت الدعاة بإشراف كوكبة من العلماء على رأسهم العلامة ابن باز، ورافق ذلك ظهور حركات إسلامية متعددة فردت للمساجد حياتها، وبدأت حلق القرآن والعلم تنتشر وتظهر السنن في منازل المسلمين وشوارعهم شيئاً فشيئاً، حتى أصبح ذلك حالة عامة استدعت من الصحف والقنوات العلمانية أن تفسح في جنباتها مكاناً للإسلام، وأن تذعن البنوك الربوية فتفتح نوافذ إسلامية، وتواكب دور الموضة الحالة الإسلامية فتقدم موديلات إسلامية، وهكذا!!

ولكن هذه الصحوة الإسلامية تضخمت وعادت لتشكل ثقافة إسلامية سنية عامة بعد أن كانت ثقافتها علمانية أو ثقافة دينية فلكلورية يغلب عليها التصوف، فأصبحت تهدد خصوم الإسلام جميعاً بعد أن كانت تتقاطع مع العالم الغربي في صد المد الشيوعي، فتبدل الحال اليوم باتفاق الغرب والشرق على حرب الصحوة الإسلامية لكونها تشكل المنافس والبديل المتوقع، والذي يؤشر لذلك تسارع وتيرة الإقبال على دخول الإسلام من أبناء الشرق والغرب من جهة، وتزايد أعداد المسلمين عبر التوالد، وتَعارض القيم الإسلامية مع نمط الانحطاط الأخلاقي والاستهلاكي والاقتصادي الذي يقوض قوة الغرب والشرق ويضخم قوة الإسلام!

من هنا كانت المشاريع الناعمة للغرب والشرق لتجفيف منابع الإسلام والتدين بينهم ومشاريع تحريف المفاهيم الإسلامية من أهم وأخطر ما يقوم به أعداء الإسلام بعد فشل مشاريعهم العسكرية الخشنة، سواء في مرحلة الاحتلال المباشر أو إدارة الصراعات والخلافات أو الفوضى كما هو حاصل في سوريا اليوم.

ولذلك فإن الحرب اليوم ضد الإسلام هي على دين العامة من المسلمين لفصل الحاضنة الشعبية عن العلماء والدعاة والصحوة الإسلامية، ويتم ذلك عبر مسارين:

المسار الأول: تجفيف منابع التدين والإسلام

عبر تقليص مساحة العلم الشرعي في الجامعات والكليات الشرعية الرسمية والخاصة إما برفع معدلات القبول أو التشدد في معايير القبول، مع تقليص مساحة تعليم الدين والإسلام في التعليم الأساسي، فضلاً عن التحكم والسيطرة في مضمون المناهج التعليمية.

كما تم محاصرة مساحة الدعوة الإسلامية في القنوات الإعلامية حيث أُغلق عدد من الفضائيات الإسلامية المهمة أو خفض سقف ما تبقى ومنع كثير من العلماء والدعاة من الظهور على شاشات الإعلام، بل تم التضييق على مساهمتهم في وسائل التواصل الاجتماعي.

وتم منذ سنوات محاصرة العمل الخيري السني وخنقه وفسح المجال للمشاريع الرافضية والتبشيرية في ديار المسلمين، والله المستعان.

ومن ذلك السعي لمنع العمل الإسلامي السياسي عبر الأحزاب والانتخابات بحجة عدم تسييس الدين!

والجهود متواصلة في محاصرة خطبة الجمعة وإضعاف دورها في توعية المسلمين بإقصاء العلماء والخطباء المؤثرين وفرض الخطبة الموحدة وتحجيم دور المساجد على أداء الصلاة فقط وعدم بث الخطبة والإقامة والصلاة!

وهناك خطط للاستيلاء على ركن الإسلام الرابع وهو الزكاة عبر تقنين إخراجها للمؤسسات الرسمية فقط، بل تم المناداة بتقديم الزكاة لهيئات الأمم المتحدة! والتي تستهلك مصاريفها الإدارية من الأموال الممنوحة ما يزيد عن 50%، ولذلك لم تحلّ مؤسسات الأمم المتحدة مشكلةً في أي بقعة في العالم! إضافة إلى أنها لا تراعي تطبيق المعايير الشرعية في إخراج الزكاة، ولكن الهدف هو تجفيف منابع التدين من خلال خنق روح التكافل والولاء بين المسلمين وإفساح المجال لغير المسلمين مما يسهل عملية التشييع أو التنصير.

هذه أهم محاور تجفيف منابع الإسلام والتدين بين عامة المسلمين.

المسار الثاني: تحريف المفاهيم

وذلك من خلال فرض دعاة للمناهج البدعية والمنحرفة في كليات الشريعة ومناهج التعليم وعلى منابر الإعلام وصفحات الجرائد تطبيقاً لتوصيات مراكز التفكير الغربية والشرقية، لتحريف مفاهيم الإسلام والدين في كافة المجالات، ويشترك في ذلك دعاة البدع والأهواء والعقلانيون والملحدون من أبناء الأمة ومن خارجها من المستشرقين والباحثين ودوائر الاستخبارات.

ومحاولة إحياء التعصب المذهبي وتحسينه وفرضه على الأئمة والمعلمين ومحاربة منهج التمسك بالدليل الصحيح من الكتاب والسنة والفقه المقارن الذي سهل على الأمة دينها وجنّبها المشقة والمخالفة للحق والسنة النبوية.

وحصر المناصب الدينية على من ترضى السلطات السياسية عنهم ويكونون طوع أمرهم لتمرير القرارات والمشاريع بهوى السلطان لا برضى الرحمن.

وفتح المجال لكل العلمانيين والحداثيين واللادينيين للخوض في أحكام الشريعة والقوانين المنبثقة منها في الأحوال الشخصية لتطويعها لمفاهيم اتفاقية سيداو العالمية، التي تتناقض مع الإسلام تماماً في الكبيرة والصغيرة.

والضغط على كثير من الحركات الإسلامية وقادتها التكنوقراط والشرعيين للتنازل عن كثير من الثوابت الشرعية والقيام بمواءمات على حساب الإسلام والدين ليوافق الأهواء العلمانية والإلحادية.

وتم توظيف حالة التطرف والغلو والطائفية الداعشية والميلشيات الشيعية المجرمة لتشويه مفهوم الجهاد والخلافة والحكم الإسلامى لتوليد مفاهيم إلحادية وعلمانية معادية للإسلام نفسه، فشهد العراق حالات من الإلحاد والعلمنة عند قطاع واسع من شبابه -سنة وشيعة- بل وهناك حالات تنصّر، والأدهى من ذلك وجود حالات تحول للزرادشتية تحت وطأة الفقر والحرمان وتشوه المفاهيم.

ما العمل؟

من هنا؛ فإن على العلماء والدعاة وطلبة العلم والأئمة والمعلمين والوالدين وكل عاقل أن يقوم بواجبه في نصرة هذا الإسلام وحماية عامة المسلمين من السحق تحت سندان تجفيف المنابع ومطرقة تحريف المفاهيم بالدعوة إلى الله عز وجل بكل طاقة وسبيل وفي كل مكان وزمان ولأي شريحة كانت.

ويجب على علماء الإسلام أن يتداعوا سريعاً لوضع قائمة بالأولويات الدعوية المشتركة عبر العالم للمسلمين كافة، ثم وضع أولويات دعوية تخص كل منطقة بما يناسب تحدياتها.

ويرافق ذلك حث وتهيئة وإعداد للشباب والجيل الصاعد على تعلم الإسلام وعقائده وأحكامه بشكل سليم والقيام بواجب الدعوة والتعليم بحكمة وإتقان.

وعلى العلماء خاصة التواصي مع ولاة الأمور بالحق وبيان خطورة معاداة الإسلام الناعمة، والتي يقوم بها أفراد أو مؤسسات داخل السلطة على مجموع السلطة كلها، وبيان أن ذلك يزعزع الأمن والاستقرار ويجلب غضب الجبار، وأن يواجهوا مشاريع العدوان الناعمة بمشاريع المقاومة الإسلامية الناعمة والتي أثبتت على مدار تاريخ الإسلام أنها هي المنتصرة دوماً.

فهذه أمم الأرض دخلها الإسلام بنعومته وليس بسيفه، وها هي تتعرض لأبشع أنواع النكال والاحتلال والتخريب والعدوان ومع ذلك تبقى هذه الشعوب مسلمة متمسكة بإسلامها، ولعل ما يحدث اليوم لأهلنا في “أركان” أكبر مثال على ذلك.

وها هي تركيا وأفغانستان وجمهوريات روسيا تسلّط عليها الكفار الشيوعيون أو العلمانيون الحاقدون فجرّموا الإسلام وحاربوا الدين ومنعوا القرآن والأذان وأغلقوا المساجد وفتحوا الحانات وقتلوا الملايين من المسلمين وهجّروا ملايين أخرى، ولكن ما هي النتيجة؟ بقي الإسلام وظهر من جديد، وزال قهر لينين وستالين وأتاتوك وأمثالهم.

إن قوة الإسلام الناعمة غالِبة عبر التاريخ الماضى والقادم، فهل نكون جزءا من هذا الشرف؟ هذا هو السؤال الحقيقي.

(المصدر: موقع أ. أسامة شحادة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى