مقالاتمقالات مختارة

التكفيريون الجدد!

بقلم أحمد التلاوي

إذا بذل العالمُ المجتهدُ جهدَهُ في ترجيح المسائل العملية أو الخبرية؛ فإنه مأجورٌ، سواءٌ وافق الصواب أم لم يوفَّقْ إليه، ما دام اجتهاده قائماً على نصوص الشرع الحكيم والقواعد الأصولية واللغوية المعروفة. أما المقلّد فهو لا يقدر على أكثرَ من تقليد العالم، “ولا يكلّف الله نفساً إلا وسعها”.

يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله في “مجموع الفتاوى” (3/229): “وإني أقرّر أن الله غفرَ لهذه الأمة خطأها، وذلك يعمّ الخطأ في المسائل الخبريّة القوليّة، والمسائل العملية”.

ويقول في “مجموع الفتاوى” (3/179): “وليس كلّ مَن خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً، فإنّ المنازعَ قد يكون مجتهداً مخطئاً يغفر الله خطأَه، وقد لا يكون بَلَغَهُ في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجّة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيّئاته، وما زالَ السَّلفُ يتنازعونَ في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحدٌ منهم على أحد لا بكُفر ولا بفسق ولا معصية”.

أما من يُعرفون بـ”جماعة الأحباش الهرريين” فلهم رأي آخر؛ فإنك لا تكاد تخالفهم في بعض المسائل العقدية الخلافية التي يتبنونها؛ حتى يخرجونك من دين الله تعالى، وكأنهم أوصياء على جنة الله وناره.

أذكر أن مجلساً جمعني مرةً مع أحد منظّريهم أمام جمع من المتعطّشين لسماع كلمة تقرّبهم إلى الله جل وعلا، ولكنّه جاء ليشنّف آذانهم بتكفيرهم وتضليلهم لأنهم جهلوا أن الله “ليس في السماء فوق العرش” كما يتبنى، طالباً منهم أن ينطقوا بالشهادتين ليدخلوا في (إسلامه العظيم).. قال له أصغرهم سنّاً: أنا لا أعتقد بما تقول! فقال له: أنت كافر. قال: وأبي لا يعتقد بهذا! قال: وأبوك أيضاً كافر.

هذا قولهم في العامة.. أما العلماء؛ فلو رجعت إلى كتاب شيخهم عبدالله الهرري المعنون بـ”التعاون على النهي عن المنكر” (طبعة دار المشاريع) لرأيت العجب العجاب! وإليك بعض عناوينه:

“فصل في التحذير من حزب الإخوان المسلمين، فصل في التحذير من حزب التحرير، فصل في التحذير من الوهابية المشبهة، فصل في التحذير من القرضاوي وعمرو خالد، فصل في التحذير من الدكتور محمد سعيد البوطي، فصل في التحذير من سيد سابق وحسن الهضيبي، فصل في التحذير من فتحي يكن”.

ولو اكتفى المؤلف بـ”التحذير” لقلنا: هان الخطب قليلاً! ولكنه تجرأ على “التكفير” بلا تردد، فقد كفر الإمام ابن تيمية والشهيد سيد قطب (ص27).

ولم يتورع عن تكفير من يسميهم بـ”الوهابية” (ص32) ويقصد بهم كل من ينتسب إلى الدعوة السلفية أو “الوهابية” نسبة للشيخ محمد بن عبدالوهاب النجدي، يقول في معرض تكفيره لهذا التيار (ص41): “.. فلا يجوز أن نسكت – كما سكت أكثر أهل العصر – عن تكفير من يستحق التكفير، لأن في ذلك تعطيلاً لأحكام الردة”.

وفي سياق تكفيره للداعية المصري المعروف عمرو خالد؛ يقول (ص57): “وقال عمرو خالد في شريط له بعنوان (التوبة): إن ترك الصلاة وأكل المال الحرام ينقلب حسنات يوم القيامة”.

قلت: الواضح من السياق أن تارك الصلاة وآكل المال الحرام إذا تابا فإن سيئاتهم تنقلب حسنات يوم القيامة، وإذا رجعت إلى تفسير الطبري لقول الله تعالى: “إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدّل الله سيئاتهم حسنات” لرأيت أن كثيرا من السلف يفسرون هذه الآية بهذا الذي قاله عمرو خالد.

ولكن دعنا نرى تعليق الشيخ الهرري على كلامه.. يقول في الصفحة نفسها: “وهذا فيه تشجيع الناس على الفسق والفجور، وهتك الأعراض، وسلب الأموال، وكفاه بذلك خزياً وشذوذاً. وهذا تغيير لشريعة الله، فقول هذا القائل تكذيب صريح لكتاب الله، وكيف يدعي من يقول مثل هذا الكلام أنه داع للإسلام، بل هو داع لهدم الإسلام”.

وهكذا نرى المؤلف في عامة كتابه يعتمد على نقولات عن الأشرطة يخرجها عن سياقها، أو نصوص في الكتب يحمّلها ما لا تحتمل (انظر مثلاً ص28 و61) أو نقولات عن مجهولين (انظر مثلاً ص33 و83) أو عبارات غير مسندة للأئمة (انظر مثلاً ص37 و50).

ثم تغرق في بحر من العجب عندما تطالعك في أول الكتاب ترجمة المؤلف (ص10) فتجد أن أول ما وُصف به في سياق الحديث عن سلوكه وسيرته: “شديد الورع، متواضع، طيب السريرة، حكيم يضع الأمور في مواضعها”!! فأيّ ورعٍ هذا الذي يجرّئ المسلم على تكفير إخوانه الذين يعلم منهم حبَّهم لهذا الدين، وتسابقهم في الدعوة إليه؟! وأي حكمة هذه التي تصيب القلم بـ”إسهال” التكفير، وتُجري على اللسان مقولات تغضب الله تعالى، وتفرّق بين عباده الصالحين؟!

لمّا انشغل أكثر الدعاة بالسياسة والدنيا والخلافات الجزئية عن الدعوة إلى الله عز وجل؛ خَلَت الساحة لمثل هؤلاء الذين ينهشون لحوم الأمة وعلمائها بأنياب التكفير الحاقدة

ويا للأسف؛ فلَمّا انشغل أكثر الدعاة بالسياسة والدنيا والخلافات الجزئية عن الدعوة إلى الله عز وجل؛ خَلَت الساحة لمثل هؤلاء الذين ينهشون لحوم الأمة وعلمائها بأنياب التكفير الحاقدة.

فيا ضيعة الدعوة! حينما يتصدّى لها هؤلاء التكفيريّون الجدُد، وينشغلَ أهلها المنصفون ببنيّات الطريق وسفاسف الأمور.

يا ضيعة الدعوة! حينما يمارسها أغرارٌ حاقدون على علماء الإسلام، يكفّرون مَن يدعونهم، ثم يطالبونهم بالدخول في الإسلام من جديد.. وأهل الدعوة الحقيقون بها في سُباتهم نائمون، لا يستيقظون من نومهم إلا إذا مُسَّت أشخاصهم بسوء، وطالت أعراضهم ألسنة التكفير والتضليل.. ثمّ لا يلبثُ أن يقتحم أعينهم النُعاس مرةً أخرى، فيدخلون في جولة جديدة من النوم الطويل!!

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى