وتمضي الاقتباسات إلى طرح أسئلة أو إدلاء بمواقف هادئة وعميقة عن الله والغيب والقوة الجبارة التي أنشأت العالم وتدبره، حيث كان الإيمان بالله في صفوف علماء الطبيعة الغرب منقصةً وقدحاً في علميتهم، أو في الأقل تفرض المرحلة إقصاء الإيمان عن المختبر والبحث العلمي، والوقوف على الحياد أو الانحياز إلى الإلحاد أثناء التأمل العلمي في الكون وقوانينه. وتلك كانت مفاصلة اعتباطية، وصفها بعض مؤمنيهم بالغباء والعبثية، إذ لا مبرر لها ولا سنداً علمياً او فلسفياً عاقلاُ لهكذا إقصاء، إذ العلم في توارثه النظرية الظافرة يقف بطبيعته مندهشاً من الإعجاز الذي يكشفه ويقدمه للبشرية، ولكن تيار الإلحاد كان متحزباً بعنفوان وشراسه، يستقطب كل ما من شأنه تقوية موقفه ضد الله والغيب والآخرة، ولكن سرعان ما تداعت ادعاءاته، وتهافتت على يد أرباب علم ومخترعين دوّت أسماؤهم، وخلدوا إنجازاتهم دون أن يتبنوا الإلحاد أو يدسوه في نظرياتهم لخدمة مرحلة فلسفية لا دينية، بل كانوا أحراراً مستقلين رافضين إرهاب الإلحاد وغلوائه.
في تضاعيف هذا الكتاب يرتبك الفلاسفة والعلماء حيال الكون وأسئلته، وينقسمون طرائق قدداً ما بين ساكت أو متحدث عن سكوته أو مشاغب للنظرية الإلحادية، دون أن يعتنق قناعة إيمانية، ومنهم من صدع بأيمانه بإله غير محدد المعالم كعقيدة وحدة الوجود أو الربوبية دون الألوهية، أومن آمن بالله الواحد المدبر المعجز دون استحضار الأنبياء أو الكتب المقدسة وتعاليمها وتأويلها الكونَ والإنسان. ولأن القائمة العُلمائية التي أدلت بهذه المقولات الحكيمة المقتضبة انتمت إلى الغرب المسيحي، كان يتبادر إلى أولية الذهن أن ينهض الإيمان بكليته إلى السماء بكل متعلقاته المسيحية من الثالوث المقدس عندهم، والإنجيل الذي يدعوهم إلى الإيمان، ثم لا يلبث أكثرهم أن اختاروا الإلحاد، وكأنهم لم يجدوه الإنجيل والثالوت واسطة مقنعة بالله وأسرار الغيب، حيث يتكشف للقارئ المتأمل في التفاصيل الدقيقة لهذه الآراء غياب أي مؤثر للعقيدة المسيحية في شهادات العلماء على علاقة العلم بالله والغيب، لا سيما شخصية المسيح – عليه السلام – وأمه البتول – عليها السلام – في الهداية الجديدة التي سطرها العلماء في مقولاتهم ضد الإلحاد، وكذلك غياب المؤثر التوراتي عن اللغة الإيمانية، كما هو شأن آينشتاين الذي كان ساخراً من الإلحاد، لا معارضاً له فقط، غير أن الأقلية اليهودية في العالم لا تتيح مجال المقارنة في تحسس الدافع العقدي المباشر من الدين اليهودي نفسه، وهذا لا يصدُق على المسيحية التي دوت في العالم من قبل ومن بعد، وما زالت واسعة الانتشار وتتمدد في مناطق الاستجابة المحدودة، لكن الخطاب الكنسي حاضر في الإعلام والوجدان بثالوثه وصليبه، وهذا أمر يثير الأسئلة بشأن غيابه في عودة النصارى الملاحدة إلى الإيمان بوجود الله خالقاً ومدبراً، وهذا يتبدى جلياً في هذا الكتاب. تُرى لماذا غاب اسم المسيح عن مقولات النصارى المدافعين عن وجود الخالق؟ وهل رمز المسيح هو الطرف الأضعف في الثالوث، كونه ابناً لا أباً في عقيدتهم، لا سيما الاضطراب الرياضي الذي يستبد بهذه المعادلة الشائكة (1 = 3).
من الجلي أن إقصاء شخصية المسيح من لغة الدفاع عن وجود الخالق عند علماء الطبيعة النصارى هو غفلة بدهية تنأى بالوضوح المتفاعل مع الكون الواضح عن الغموض والطلاسم التي تلغّم التوحيد الثالوثي الذي يشوش حالة التلقي العقلي والوجداني لإعجاز الكون حقيقةً وجمالاً، حيث الجمال يعكس الرضا التام عن بناء الكون المُعدّ سكناً للإنسان. كما أنه اعتراف ضمنى ببشرية المسيح وضعفه إزاء خالق مطلق متفرد يصفونه بـ(الأب)، إذ إن العالِم ينهض بعقله وحسه القلق المطلق شاخصاً تلقاء كون عملاق، يبث الخوف والأسئلة المرهبة والموهوبة الجانب حول قوة جبارة تخلق وبالتالي تدمر وتقتل وترسل الصواعق وتأمر البراكين والزلازل ما يزيح فكرة (الصلب) و(الصليب) ولو مؤقتاً عن طبيعة الفهم، والتواصل والتفاعل بين الإنسان الذي يعترف الأن بضعفه وضآلته اعترافاً ينطوي على تناقض فج بين رب مصلوب وشريك مهم في خلق العالم الجبار وتدبيره في الأن ذاته.
قد يعمد هؤلاء العلماء النصارى إلى تجاهل واقصاء المسيح عن حالة الدهشة الإيمانية البناءة التي تبلغ بالعقل والقلب إلى عمق الحقيقة واليقين؛ لأن تشويش الثالوث يعكّر التواصل الحق الأعلى الكلي؛ لا سيما أن المسيح في المسيحية لم يكن أعلى ولا كلياً.
بعض هؤلاء العلماء يعتقدون أن المسيح ليس مهماً في إعجاز الخلق، وأنه مرحلة لاحقة، نهض بمهمتها. والأمر يعوزه مزيد البحث والتأمل لتأكيد دواعي غياب المسيح عن هجوم العلماء المسيحين على الإلحاد.
هل نحن بإزاء نقلة جديدة في عقيدتهم، تقلل من حضور المسيح في مقام الألوهية؟
(المصدر: موقع المثقف الجديد)