[مقالة علمية للدكتور عبدالله بن سلمان العودة، نُشرت في مجلّة (Digest of Middle East Studies)، يمكن الحصول عليها من هذا الرابط. وقد نشرها معهد العالم للدراسات بعد أخذ الموافقة من المؤلف بالنشر، ومراجعته للترجمة العربيّة]
ترجمة: محمد صلاح علي
ملخص
تدرس المقالةُ المهامَ التشريعية والقضائية للفقهاء وكيف قاموا بها في البنية الدستورية أو القانونية الأعم. بينما تأثرت التجربة الباكستانية بالنموذج الإيراني لمشاركة الفقهاء في التشريع، اتخذت مصرُ طريقاً مختلفاً، فلم تعطِ أي دور رسمي للفقهاء مع اعتراف غامض بالتشريع الإسلامي. قد يأخذ الدورُ التشريعي شكلَ إدخال فقهاء إلى المجلس التشريعي، أو تشكيل لجنة مكوّنة جزئياً من الفقهاء، أو إحالة مهمة تشريعية ما إلى مؤسسة فقهية. وعلى الرغم من أن الأسلمة كانت استجابةً لمطالب شعبية، إلا أنها وظّفت آليات استبداية وتسلطية. حاول مشروع الأسلمة استبدال فئة الفقهاء المبرّزين مجتمعياً بلجان مُعيّنة أحال إليها التقنين الإسلامي. لذلك، طُعِن في التجربة من جهة مدى كفاءتها أو إسلاميتها، لكنها لم تنتهِ أبداً إلى تأسيس محاكم شرعية إسلامية أو تشريعات “رجال دين” في مصر.
مدخل
إن إشكالية التكوين الدستوري الحديث ودور العلماء([1]) المسلمين في دول الأغلبيات المسلمة يمثلان وسيلة لمعرفة الموقع التقليدي لهؤلاء العلماء؛ وهم يمارسون عملهم في موقع أسميه “المجال ماوراء الدستوري”. تقدّم التجارب الدستورية المختلفة في العالم الإسلامي أمثلةً متنوعة على الكيفية التي يتم بها التعامل مع العناصر الإسلامية والعلماء المسلمين. ونعطي هنا مصر اهتماماً خاصاً باعتبارها حالة للدراسة، بينما يتم التعرض للبلاد الأخرى التي تحمل سمات مشابهة كباكستان في بعض الأقسام([2]).
يتناول البحث أربع إشكاليات في أربع أقسام. فأولاً، تستكشف المقالة السياق الدستوري الحالي للعالم الإسلامي والعربي، والمراحل المبكرة من الدستورية الإسلامية. ثانياً، يشرح دور العلماء المسلمين في الأنظمة الدستورية ووضع الدساتير. سيناقش البحث أيضاً دور العلماء في مساحتين اثنتين: التشريع والحكم القضائي. ويناقش القسم الثالث المواد الدستورية الإسلامية مع تركيز خاص على المادة الثانية من الدساتير المصرية الأخيرة. ثم ينتقل إلى إشكالية سلطة التفسير ويختم بالتطبيق القضائي للشريعة الإسلامية في مصر.
النظام الدستوري الحالي
يحاول هذا القسم عرض بدايات النظام الدستوري الحديث في البلاد الإسلامية والعربية. لقد شهدت هذه التجارب الدستورية المبكرة تأثيراً وحضوراً قاطعاً للفقه والنصوص الإسلامية. وتناقش الصفحات التالية التكوين الدستوري ودور الإسلام في البلدان الإسلامية، وكذلك تأثير التجارب الدستورية الحديثة المبكرة على وضع الإسلام الحالي في هذه البلاد. ستمثل الحالة المصرية موضع تركيز النصف الثاني من هذا القسم، مع الأخذ في الاعتبار التطور السابق في الإمبراطورية العثمانية وأثر العوامل المتنوعة على صنع النظام الدستوري المصري الحالي.
السياق الدستوري
أصدرت الإمبراطورية العثمانية خلال فترة التنظيمات، أي عام 1839م، وثيقة دستورية أولى باسم الخط الشريف ضَمِنَت الحرية الدينية والمساواة في جميع أراضيها (Rafeq, 2005:11; Roder, 2011:325). وبعد عقدين، أي عام 1857م، اتبعت تونس الخطى العثمانية وأصدرت وثيقة مماثلة كانت كإعلان حقوق إنسان باسم عهد الأمان. كان من المفترض أن يكون الإعلان بمثابة استجابة لنداءات الإصلاحيين التونسيين ممن ظلوا يطالبون بصورة أكثر جوهرية بالحكم المقيد بدلاً من الحكم المطلق (Roder, 2011:325).
زاد عهد الأمان التونسي من رغبة الإصلاحيين في الضغط على حكومة الباي من أجل سياسات تشاركية، مما أدى بالفعل عام 1861م إلى قانون الدولة؛ “أول دستور في بلد عربي … يؤسس لمـَلَكية دستورية …” (Roder, 2011:325). أسس الدستور مجلساً أعلى شارك الملك في بعض المسئوليات، وسمح كذلك ببعض المحاسبة. إلا أن هذه التجربة الدستورية كانت قصيرة العمر (1861-1864م) (N. J. Brown, 2002:16-19).
لقد أيد المفكر التونسي خير الدين باشا (ت. 1890م) -والذي كان أبو دستور 1861 التونسي- أسلوب الحكم المقيد عبر إيراد نصوص إسلامية، واستنتج أن السياسة التشاركية والتفويض السياسي وحدهما اللذان يتوافقان مع شرط الحكم الإسلامي (al-Tunisi, 1868:15–18; S. A. Arjomand, 2007:116; N. J. Brown, 2002:19–20).
وكان ابن أبي الضياف (ت. 1874م) محرراً مؤثراً آخر من محرري هذا الدستور. إذ رفض في كتاباته الحكم المطلق سواء كان دينياً أو سلطانياً، وقدّم الحكم التشاركي باعتباره إسلامياً، مؤيداً أطروحته بنصوص واستدلال إسلامي. ففي رؤية ابن أبي الضياف، الحاكم مسئول أمام الله (أي أمام شرع الله ممثَّلاً بالشريعة الإسلامية)، ومسئول أمام الأمة التي تشهد وتوقّع “العهد” (العقد) بينهم وبين الحاكم. (S. A. Arjomand, 2007:116; Bin Diyaf, 2005:15–66). ويختم بأنه “إن نكث السلطان بعهد، يجتمع الناس في بلاطه، ويمثل اجتماعهم هذا نذيراً بخلعه عن العرش” (S. A. Arjomand, 2007:116; Bin Diyaf, 2005:66).
وفي مركز الإمبراطورية العثمانية، دفعت طموحات شبيهة إلى إثارة مسألة وضع دستورٍ للدولة؛ من ثمّ عيّن السلطان لجنةً نخبوية مكوّنة من قادة عسكريين وسياسيين ودينيين لتحرير للدستور، والذي تم إصداره عام 1876م تحت اسم القانون الأساسي. وكالحالة التونسية أيضاً، استمر الدستور في العمل لمدة سنتين فقط. ومع ذلك، أصبح دستور 1876م العثماني “أساساً لكتابة معظم الدساتير العربية في القرن العشرين” (N. J. Brown, 2002:20-26).
وكخير الدين باشا وابن أبي الضياف، أيّد نامق كمال (ت. 1888م) أحد أبرز محرري الدستور العثماني عام 1876م وجود حكومة مقيّدة بنوعٍ ما عبر الفصل بين السلطات ودعم أطروحته بنصوص واستدلالات إسلامية. دافع كمال عن دستور 1876م واعتبره متوافقاً بشكل كامل مع الشريعة (S. A. Arjomand, 2007:116).
قد تمثّل هذه الفترة بدايةً لما أسماه سيد آرجوماند المرحلة الأولى من الدستورية الإسلامية؛ أي الإسلام باعتباره قيداً على الحكم والتشريع (S. A. Arjomand, 2007:115). لم تكن المهمة هي إعادة بناء النظام ليكون “خاضعاً للشريعة”. لكن لم يكن يعني ذلك أن الإسلام كان منفصلاً عن الواقع أو غير ذي أهمية، بل كان الأمر يبدو وكأن الشريعة من المفترض اجتماعياً وسياسياً أنها مسئولية الأمة بأكملها، وأن النظام لا يحتاج إلا رقابة إسلامية شعبية، وليس بناءً إسلامياً شاملاً من الأساس (pp. 115-116; kamali, 2011:31; Roder, 2011:323). ووفقاً لآرجوماند، كانت المرحلة الثانية عندما أصبح الإسلام أساساً للنظام بأكمله، كما بدا في الدول المسلمة ما بعد الفترة الاستعمارية. في هذه المرحلة، كان الافتراض هو أن يكون أساس النظام يقذّم مشروعاً شاملاً يعيد بناء النظام بالكامل وفقاً للإسلام (p. 115). كانت المرحلة الثالثة هي عودة “الدستورية الإسلامية الخالية من الأيديولوجية” عندما عادت فكرة الحكومة المقيّدة. فالقانون ليس “إسلامياً” صِرفاً، بل إن الإسلام هو مجرد عنصر هام و”مصدر” واحد للتشريع من بين مصادر أخرى (p. 115)([3]).
يقدّم روديجر ولفرام تقسيماً آخر يبحث فيه الدستورية الإسلامية أساساً عبر آثارها القانونية والسياسية. فالدول المسلمة تختلف بين من يدعمون اعترافاً رمزياً بالإسلام لكن بآثار محدودة، وعلى الجانب الآخر من يدعمون التزاماً أكثر جوهريةً بالشريعة الإسلامية “يعكس فيه تنظيمُ سلطة الدولة وعملُها إقراراً عميقاً بالإسلام” (Wolfrum, 2011:79).
الإطار الدستوري في مصر
كانت أول وثيقة شبيهة بالدستور في مصر الحديثة هي اللائحة الأساسية عام 1882م، والتي كانت نتيجة للثورة العرابية، لكن سرعان ما ألغاها الخديو توفيق، وأصدر بدلاً منها القانون النظامي عام 1883م. وتحت الاحتلال الإنجليزي، وضع هذا القانون النظامي السلطات في يد توفيق وألغى فكرة وجود مجلس تشريعي منتخب. وقبيل الحرب العالمية الأولى، روجِع القانون النظامي عام 1913م ومُنح المجلس التشريعي سلطةً مقيّدةً جداً، إلا أن التجربة انتهت عام 1915م (N. J. Brown, 2002:26–41; Farahat & Farahat, 2011:100–115; Hamad, 2012:2)([5]).
في أعقاب الحرب العالمية الأولى، نشأت حركة قومية من الوفد الذي تفاوض مع البريطانيين حول الاستقلال المصري. أصبحت الحركة حزباً قومياً باسم “حزب الوفد” تحت قيادة سعد زغلول. ترجم الوفد سخط المصريين على الاحتلال الإنجليزي إلى تعبئة شعبية أدت إلى ثورة 1919م. وبعد فشل مفاوضات مكثفة، اعترف البريطانيون منفردين باستقلال مصر لتكون ملكيةً عام 1922م، وأدت هذه الخطوة إلى صياغة دستور 1923م. منح الدستور بعض السلطة للبرلمان إلا أنه منح الملك اليد العليا من خلال قدرته على حل البرلمان (Botman, 1991:25–55; N. J. Brown, 2002:36–41; Farahat & Farahat, 2011:109–115; Hamad, 2012:2–3; Roder, 2011:343).
وفي عام 1952م، قاد بعض “الضباط الأحرار” ثورةً وأصدروا إعلاناً دستورياً ألغوا فيه الملكية الدستورية وأنشأوا جمهورية. وبحلول عام 1971م، كان قد تمت خلال عهد جمال عبد الناصر (ت. 1970) صياغة ثلاثة دساتير كانت جميعها تخدم الحكومة وتتسم بانعدام المساءلة القانونية والدستورية (N. J. Brown, 2002:78–85; Farahat & Farahat, 2011:115–131). أصدر أنور السادات (ت. 1980م) دستور عام 1971م في محاولةٍ منه لإبعاد الجمهورية عن السياسات الاشتراكية ودمج بعض العناصر الإسلامية في البنية الدستورية، كما سنرى في أقسام قادمة. برهن هذا الدستور على أنه طويل العمر (من 1971 حتى 2011م) وأدخل عناصر جديدة إلى الهيكل الدستوري المصري. كانت المادة الثانية والمحكمة الدستورية العليا من بين هذه العناصر التي لا زالت قائمةً حتى اليوم، والتي سنناقشها في مواضع مختلفة.
عَكَسَ دستور 1971م بعد تعديله عام 2007م نيةَ من قاموا بصياغته لإضفاء الصبغة الدستورية على أعمال غير دستورية. ويعني ذلك أن الإجراءات والمواد الدستورية تم استخدامها لتبرير غايات تكون عادةً غير دستورية في النظم الديمقراطية([6]). وعلى الرغم من أنه يبدو ديمقراطياً من الناحية الدستورية، إلا أن هذا الدستور ألقي عليه اللوم لأنه أسس لنظامٍ تسلطي ودعم يد السلطة التنفيذية الطولى والحزب الحاكم الذي استمر حاكماً لعقود في مصر (Bernard-Maugiron, 2011:373-374). جعل الدستور منصب الرئيس بالانتخاب (المادة السادسة والسبعون)، وأكد أن نظام الدولة “نظام تعددي” (المادة الخامسة)، وأعلن أن “السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات” (المادة الثالثة) (الدستور المصري لعام 1971م، المواد: 76، 75، 73).
منذ 1971م حتى 1979م، كان مفترضاً أن التشريع من اختصاص مجلس الشعب حصراً، إلا أنه في الواقع كان جمال عبدالناصر هو المشرِّع الفعلي. ومن عام 1979 حتى 2014م، تم إدخال غرفةٍ تشريعية أخرى ذات مهام استشارية أكثر من كونها تشريعية باسم “مجلس الشورى”. ففي 1979م، أسفر استفتاء عن إدخال مجلس الشورى ليكون غرفةً عليا للهيكل البرلماني القائم. والسلطة القضائية مقسّمةٌ بين محاكم إدارية وجنايات ومدنية ، و أخيراً ولكن أكثر أهمية: محاكم دستورية.
المحكمة الدستورية العليا
كانت الصورة الجنينية الأولى للمحكمة الدستورية العليا هي المحكمة العليا التي أسسها مرسوم رئاسي عام 1969م في محاولة من نظام عبدالناصر لضبط السلطة القضائية والقضاء على ميولها الاستقلالية. وبذلك، مُنحت المحكمة العليا السلطة الحصرية للرقابة القضائية، وكانت تتحكم فيها السلطة التنفيذية من خلال التعيينات وتنظيم المحكمة وإجراءاتها وهيكلتها (Moustafa, 2007:65-67).
استحدث دستور 1971م الشكل الحالي للمحكمة الدستورية العليا. يشرح الدستور سلطات المحكمة في المواد 174 حتى 178. وشددت المادة 175 على أن المحكمة تملك حق المراقبة القضائية عندما أقرّت أنها “تتولى دون غيرها الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح، وتتولى تفسير النصوص التشريعية …” (دستور مصر 1971م، جزء من المادة 175). رغم هذه المادة، لم تتأسس المحكمة فعلياً حتى عام 1979م للإشارة إلى إيمان الرئيس السادات بالاستثمار في النمو الاقتصادي لمصر وتطبيق فكرة الانفتاح الاقتصادي. فبتأسيس المحكمة، أراد السادات أن يؤكد للمستثمرين الأجانب أن مصر يحكمها القانون، وأنهم يمكنهم التمتع بالاستقرار. ووفقاً لمصطفى تامر وناثان براون وكلارك لومباردي، كانت المحكمة تتمتع باستقلال معتبر (N. J. Brown, 2002:83; Grote, 2011:222; Lombardi, 2006:141–145; Moustafa, 2007:57–89).
تتمثل سلطة المحكمة الرئيسية في أنها المرجع الحصري للفصل بين تفسيرات التشريعات المتنازعة، والحَكَم النهائي في النزاعات القضائية حول الاختصاص، وكانت مشرّعاً سلبياً من خلال ممارسة سلطة الرقابة أو المراجعة القضائية (Lombardi, 2006:145; Moustafa, 2007:79–80). مارست المحكمة أيضاً دور حارس البوابة، إذ يجب على أصحاب الدعاوى أن يقيموا الدعاوى أمام المحاكم الدنيا أولاً، لكي تصرّح لهم هذه المحاكم الدنيا برفع الدعوى أمام المحكمة الدستورية العليا (Grote, 2011:232; Lombardi, 2006:145; Moustafa, 2007:80–81)([7]).
تتشكل المحكمة من أحد عشر قاضياً بمن فيهم رئيس المحكمة، تسمّيهم الجمعية العامة للمحكمة ويعتمدهم الرئيس (Hirschl, 2003:2-3). ولم تغير هذه العملية الكثير فيما يخص سلطة المحكمة أو سير أعمالها أو تعييناتها([8]).
وبعد عرضٍ مختصر للإطار الدستوري، ستعرض الأقسامُ التالية التشريعَ الإسلامي في الهيكل الدستوري كي نفهم موقع العلماء ووظيفتهم في التكوين الحالي.
التقنينات الإسلامية في مصر الحديثة
ترمي مناقشة التقنينات الإسلامية في مصر إلى تصوير الكيفية التي تم بها تصوير الإسلام في الدولة عبر التقنينات، نتيجة وجود مفهوم ضمني عن الحق في التشريع. وعلى الرغم من أنها تأثرت بالأعمال الفقهية، إلا أن التقنينات سهّلت من الانفصال عن قانون الفقهاء.
كانت المجلة العثمانية أحد أكثر مسودات التشريعات الإسلامية المقننة تأثيراً. كان هذا التقنين المكوّن من ستة عشر فصلاً مقدمةً من المفترض أن تتلوها تقنينات مشابهة في ميادين قانونية أخرى ليتم إصدارها باعتبارها قانون الأراضي. وألهم التقنين مشروعات مشابهة في دولٍ إسلامية مختلفة (Arjomand, 2007:123–124; Chambers, 1972:42–44; Goadby, 1939; Lombardi, 2006:70–74; Peters, 2002:87–89).
صدر تقنين مشابه في مصر بحلول سبعينيات القرن التاسع عشر على يد قدري باشا -ناظر حقانية سابق- وعُرف بتقنين قدري (Peters, 2002:89–90; Qadri Pasha, 1893). وفي فترة ما بعد عرابي (بعد عام 1882م)، أرادت الحكومة المصرية تبني التقنين كي تقنع القوة المحتلة بحداثتها، إذ إنها ظلت من الناحية القانونية تابعةً للإمبراطورية العثمانية، لكنها كانت مستعمرةً من الناحية الواقعية (Lombardi, 2006:61–71). وبعد ذلك، تم تجاهل مشروع قدري بشكل كامل، إلا أن فكرة القانون المدوّن كانت قد انتشرت.
وصف رادولف بيترز هذا التحول نحو التقنينات بأنه تحول من قانون الفقهاء إلى القانون الوضعي (Layish, 2004; Peters, 2002:81). وعند لومباردي، بدأت مصر في فترة التقنين قانوناً معلمناً (أي: محوّلاً نحو العلمانية) (Lombardi, 2006:60–71)([9]). وبنهاية ثورة 1919م، لم تتبنَّ النخب المصرية النافذة مشروع الأسلمة، بل دعمت تقنينات ومدارس علمانية، أدت -وفقاً للومباردي- إلى “إضعاف قبضة العلماء على النظرية القانونية” (Lombardi, 2006:72).
ويرى لومباردي أن مصر قد وصلت إلى نقطة إجماع على ضرورة امتلاك قانون وضعي، بحيث يجب أن تكون جميع القوانين الحاكمة -إسلاميةً أو مدنية- مفروضة ومدوّنة (Lombardi, 2006:60–63). إذ لم يعارض الجمهور -باستثناء العلماء وقواهم الاجتماعية- القوانين الوضعية. تمثلت بعض تحفظات العلماء في أن الفقهاء المسلمين التقليديين يجب أن يُسمح لهم بأن يكونوا أكثر انخراطاً في مناقشة القوانين والتشريعات وصياغتها (pp. 62-72). وكان آخرون معارضين بشكل أعمق لوجود قانون مدوّن لأن ذلك سيمهد طريق العلمنة (Layish, 2004:100–102; Peters, 2002:89–91)([10]).
قام مشروعٌ وحيدٌ بمحاولة حل معضلة القوانين المعلمنة هذه من خلال تقديم بديل يقوم على المتطلبات الإجرائية للقوانين المدونة، وفي نفس الوقت يعكس مضمون الفقه الإسلام. كان ذلك هو المشروع الذي قام عليه عبد الرزاق السنهوري (ت. 1971م) الذي كان أحد أهم المنظرين القانونيين في العالم العربي في القرن العشرين.
دعا السنهوري في النصف الأول من القرن العشرين إلى تشكيل لجنة تشرف على تدوين قانون إسلامي شامل يناسب مختلف البلاد الإسلامية (Hill, 1987; Layish, 2004:90–91; Lombardi, 2006). لكنه أخذ على عاتقه وضع هذه التقنينات، وكان القانون المدني نتاج عمل السنهوري مع آخرين.
وفي رد فعل على مشروع السنهوري في الأربعينيات، قاوم علمانيون وإسلاميون التقنين على حد سواء، إذ رفضه العلمانيون لأنه كان إسلامياً جداً بينما رفضه العلماء والإسلاميون لأنه لم يكن إسلامياً بمافيه الكفاية!. ونظر العديد إلى المشروع باعتباره تلفيقاً فاشلاً. وشك الإسلاميون والعلماء في أن مشروعات التقنين ستقصي دور العلماء التقليدي (Lombardi, 2006:109–132). إلا أن دور العلماء لم يكن واضحاً من الأصل، أو على الأقل لم يكت مُتفقاً عليه.
سيناقش القسم التالي المسارات المختلفة التي اتخذتها البلاد المسلمة الحديثة فيما يخص دور العلماء، سواء في التشريع أو القضاء أو خارج أجهزة الدولة بالكلية.
دور العلماء في مؤسسات الدولة
بعد عرض السياق الدستوري للنظم الحالية في البلاد المسلمة، سيناقش هذا الجزء دور العلماء في التكوين الدستوري بالتركيز على حالة مصر.
سيبدأ هذا القسم ببحث المهمة التشريعية للفقهاء المسلمين وكيفية قيامهم بها في الهيكل الدستوري أو القانوني العام. ثم سأناقش انخراطهم في القضاء، سواءً الوضعي أو الشرعي. وسأختم هذا الجزء باختبار فكرة الدستورية الثيوقراطية ومشروعات الأسلمة الدستورية، والتركيز على الكيفية التي لعب بها العلماء دورهم.
الفقهاء في التشريع
سيبحث هذا القسم المهمة التشريعية للفقهاء المسلمين في الدولة المسلمة الحديثة. استلهمت التجربة الباكستانية النموذج الإيراني السابق عليها من انخراط الفقهاء في المجالس التشريعية. بينما اتخذت مصر مساراً مختلفاً عبر عدم الاعتراف بأي دور رسمي للفقهاء المسلمين باعتبارهم فقهاء، مع اعتراف غامض بالفقه الإسلامي في التشريع. قد يأخذ الدورُ التشريعي شكلَ إدخال فقهاء إلى المجلس التشريعي، أو تشكيل لجنة فيها فقهاء، أو إحالة مهمة تشريعية ما إلى مؤسسة فقهية.
كان من المتوقع أن يتم أخذ آراء الفقهاء المسلمين -أي من يعبرون عن الشريعة ويفسرونها- في الاعتبار عند فهم وتطبيق القانون. لكن الكيفية التي يتم بها التعامل مع هذه الآراء في الدول ذات الأغلبية المسلمة اختلفت من دولة إلى أخرى، بل من فترة إلى أخرى ونظام إلى آخر (Fadl, 2011:48; Feldman, 2008:28–74).
استلهمت التجربةُ الباكستانية في النصف الثاني من القرن العشرين ومحاولتها إدماج الفقهاء في التشريع نظيرتَها الإيرانية. فقد قاد الفقهاء في إيران الجماهير إلى الانتصار أثناء الثورة الدستورية (1906-1911م) وأثّروا بشكل واضح على الوضع الدستوري بعد ذلك (S. Arjomand, 2011:147–150; S. A. Arjomand, 2007:117–119; Bayat, 1991:123–143). وكان أحد المطالب الرئيسية هو وضع كل تشريعات البرلمان تحت رقابة كبار الفقهاء. تم دمج شرط موافقة الفقهاء على التشريع هذا في القانون الأساسي المكمل الذي تبناه البرلمان الإيراني عام 1907م (S. Arjomand, 2011:168; S. A. Arjomand, 2007:118, 125)، وأُسنِدت مهمة الرقابة على التشريع إلى لجنة من خمسة فقهاء على الأقل كي يمر أي مشروع قانون في البرلمان.
وباستلهامها للنموذج الإيراني، شملت عملية بناء الدولة الباكستانية بعض عناصر انخراط العلماء في وضع الدستور وإقرار التشريعات. ففي 1949م، شكّلت الجمعية التأسيسية الباكستانية لجنة من العلماء المسلمين للتعامل مع الفقه الإسلامي (Ahmad, 1972:260–261). وفي الخمسينيات، طرح بعض العلماء الباكستانيين ضرورة تأسيس لجنة يناط بها فحص موافقة التشريعات للإسلام، إلا أن الفكرة أثارت معارضةً شديدة. وعام 1955م، ألغت اللجنة التأسيسية أي ذكر للجنة الفقهاء من التقرير النهائي للمبادئ الأساسية (Kennedy, 1992:3; Zaman, 2010:88). فلم تنجح محاولة إدماج العلماء في عملية التشريع الرسمية في باكستان لأسباب عدة؛ من أهمها فيما يخصنا هنا هو “الرفض السني التقليدي للكهنوتية” (Skovgaard-Petersen, 2013:279).
وبعد أكثر من ثلاثة عقود وتغير العديد من النظم، شكّل رئيس وزراء باكستان نواز شريف عام 1991م لجنةً من أعضاء البرلمان والمحامين والعلماء لصياغة مشروع قانون إسلامي يستهدف تسهيل “تطبيق الشريعة”، وتم تمريره في البرلمان وأصبح قانوناً. إلا أنه وفقاً لتشارلز كينيدي، كان تطبيق هذا القانون محدوداً. فقد لعبت القيود الدستورية دوراً كبيراً في تقليل أثره، بالإضافة إلى حدود الاختصاص التي وضعتها المحكمة الباكستانية العليا أمام تطبيقه (Kennedy, 1992:12).
على عكس باكستان، ترجع التجربة المصرية فيما يخص دور العلماء المسلمين في التشريع إلى القرن التاسع عشر. فعندما كانت مصر جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، كان دور شيخ الإسلام مألوفاً في مراقبته للقرارات لجعلها تعكس الفقه الإسلامي. أثّر نظام الفحص الفقهي هذا على مصر، وشكّل فهمها المبكر للتشريع. وفي محاولات تحويل التنظيم نحو القانون الوضعي في أواخر القرن التاسع عشر، تم تعيين العديد من الفقهاء من مذاهب عدة لفحص القوانين وإسلاميتها، على الرغم من أنه لم يكن واضحاً ما السلطة التي يملكونها، أو إن كانت قراراتهم مُلزِمةً أم استشارية (Lombardi, 2006:55–66)([11]).
ولعقود، ظل العلماء لاعبين رئيسيين، إلا أنهم لم يكونوا في موقع تشريعي ثابت. وفي الثلاثينيات، تحالف العلماء مع الملك فؤاد (ت. 1936م) لتقديمه خليفةً في مقابل الضغط عليه ليتبنى نهجاً يأخذ العلماء في الاعتبار عند التشريع. دعمت حركة مصر الفتاة السياسية مشروع العلماء من أجل الرقابة على القوانين وفكرة أن يفحص فقهاء أزاهرة القوانين للتأكد من اتساقها مع تفسيرهم للشريعة (Lombardi, 2006:103–104).
تراجع دور العلماء التشريعي في المجال الرسمي قبل بداية السبعينيات، لعوامل عدة؛ كان من أهمها عداء نظام عبد الناصر لأي خطاب إسلامي يرى فيه “حركة رجعية” قد تعوق الإصلاحات الاشتراكية التي يقوم بها النظام. لكن المزاج “الإسلامي” للسادات أحيا المطالبات الداعية لدمج الفقهاء في التشريع. ففي 1976م، شكّل الأزهر لجنةً كانت ستقترح إصلاحات تشريعية تضمن اتساق القوانين مع الفقه الإسلامي. وهي خطوة دعمتها أكبر جماعة إسلامية؛ جماعة الإخوان المسلمين. وعلى الرغم من أن الاقتراحات كانت مؤثرة، إلا أن اللجنة لم تكن سلطة تشريعية رسمية، ولا تم دمجها في البرلمان (Lombardi, 2006:126–127).
وفي عام 1980م، وبعد تصويت برلماني أقر ضرورة تعديل القوانين وفقاً لمبادئ الشريعة الإسلامية، أصدر رئيس لجنة مقترحات الإصلاح تقريراً يقضي بأن المقترحات تتضمن النظر في النصوص الإسلامية بما فيها القرآن والسنة وآراء أئمة وعلماء المسلمين في الاعتبار (Lombardi, 2006:134–135, 166). لكن ذكر العلماء هذا لم يحدد إن كان مِن المفترض أن يصبح الفقهاء ضمن لجنةٍ تشريعية ملزمة، أو أن تكون آرائهم المنشورة فقط محل نظر من اللجنة المسئولة عن المقترحات. أرسلت اللجنة مسودات القوانين المعدّلة للأزهر، وأحدثت بعض التعديلات بناءً على ذلك، إلا أن فكرة فحص العلماء للتشريعات اُهمِلت بالكلية تدريجياً (pp. 135-137).
بشكلٍ عام في مصر، يبدو أن الاستناد إلى العلماء في التشريع استشاريٌ وانتقائيٌ للغاية. فعلى سبيل المثال، عند محاولة إصدار قانون الأسرة المثير للجدل (المعروف بقانون جيهان)، أرسل السادات (ت. 1981م) المسودة إلى المفتي لاختبار مدى اتساقها مع الشريعة الإسلامية. اتخذ السادات هذه الخطوة ربما لعلمه بالطبيعة الخلافية لهذا القانون، لذلك أراد أن يستبق ويحتوي أي معارضة إسلامية للقانون (Lombardi, 2006:170)([12]).
إن القاعدة العامة في مصر هي منع تمكين أي مؤسسة دينية أو كيان إسلامي من أي سلطة دينية أو حكومية رسمية، حتى في أمور الفقه الإسلامي أو تفسير الشريعة. حتى محاولات نقل السلطة التفسيرية إلى الفقهاء كانت إما استشارية تفتقر إلى أي سلطة ملزمة، أو انتقائية في موضوعٍ معين تعلم الدولة مسبقاً نتيجته، وتحتاج فقط إلى ختم الشرعية من الفقهاء (Backer, 2009:169–170).
وتمثّل بلاد المغرب نموذجاً طويل العمر ومثيراً للاهتمام. إذ لا يوجد مفتون للدولة في المغرب ولا تونس ولا الجزائر، ولا توجد مؤسسة إفتاء إسلامية رسمية تعترف بها الدولة أو تمثل جهازاً من أجهزتها. وعلى الرغم من وجود مجالس إسلامية عليا، إلا أنها ليست مؤسسات الدولة الدينية ولا تملك أي سلطة دينية خاصة على التفسير إلا فيما يخص احترام الناس وتقديرهم لها (K. Brown, 1972:127–148; L. C. Brown, 1972:47–91; Burke, 1972:93–125; Roy, 2011:116).
الإسلام في القضاء (الفقهاء في القضاء والمحاكم الإسلامية الشاملة)
استكشف القسم السابق المهام التشريعية أو المحاولات التي سعت إلى تضمين الفقهاء في المجلس التشريعي أو إسناد مهمة تشريعية إلى مؤسسة إسلامية أو لجنة فقهية. وسينظر هذا القسم في المهام القضائية المـُسندة إلى الفقهاء سواء في المحاكم العامة أو المحاكم الإسلامية المعروفة عادةً بالمحاكم الشرعية.
يدعي أحد الباحثين أن البنية السنية في القرون الوسطى عرفت الازدواجية القضائية، حيث يتجاور نوعان من المحاكم في نظام واحد: كان الأول هو نوع يقف فيه القاضي والمحاكم التي يقيمها الفقهاء، والتي يشمل اختصاصها مواضيع متنوعة، إلا القضايا ذات الطابع الإداري. النوع الثاني كان المحاكم الإدارية المحضة، التي يشمل اختصاصها القضايا الخاصة بفرمانات ومراسيم الحكام. ولم يكن القائمون على هذه الأخيرة من الفقهاء (Lombardi, 2006:54)([13]).
تمثل باكستان في العصر الحديث حالةً بارزةً على هذه الازدواجية القضائية في الإسلام السني. مر الفقهاء في المحاكم الباكستانية ودورهم القضائي بمرحلتين؛ الأولى بدأت في السبعينيات واستمرت حتى عام 1980م، إذ كان هناك دوائر شرعية تعمل داخل المحاكم العامة. لم تكن هناك نيابة أو محامون في هذه الدوائر، بل بدا أن الفقهاء يمثلون مايسمى ب”شهود خبراء” أكثر من كونهم قضاةً أو محامين. كان مفترضاً أن تعمل هذه الدوائر باعتبارها كيانات إسلامية استئنافية تفصل في القضايا بالقانون الجنائي الإسلامي. ولكن إن أراد أحد أطراف القضية أن يستأنف، عليه (أو عليها) أن يذهب بالقضية إلى الدائرة الشرعية في المحكمة العليا خلال ستين يوماً. ولا تقتصر هذه الدوائر على الفصل في القضايا وفقاً للقانون الجنائي، بل إنها أيضاً تملك سلطة إبطال القوانين التي تراها غير إسلامية، وهي صلاحية توجد حصراً في يد المحاكم الدستورية أو العليا في دول سنية أخرى كمصر (Ahmad, 1972:261–267; Grote, 2011:232; Lau, 2005:122–124; Lombardi, 2006:145; Moustafa, 2007:80–81).
عام 1980م، حُلَّت الدوائر الشرعية وتم استبدالها بنظام قضائي إسلامي سُمّي بالمحاكم الشرعية الفيدرالية. باشرت المحاكم حديثة الإنشاء سلطات الدوائر الشرعية بما فيها سلطة الحكم على القوانين بمنافاة الشريعة الإسلامية. يجري الإلزام بأحكام هذه المحكمة على جميع المحاكم الأخرى، ولا يمكن الاستئناف ضدها إلا في المحكمة الفيدرالية العليا (Backer, 2009:164; Lau, 2005:143, 196–147)([14]).
كان التطور الملحوظ في إنشاء المحاكم الشرعية الفيدرالية في باكستان هو اشتمالها على علماء شرعيين في هيكلها. وبعد 1985م، حدث تثبيت رسمي للعلماء في هذه المحاكم من خلال تعديل دستوري اشترط وجود بعض العلماء في المحاكم الشرعية. نص التعديل على أن يكون من بين قضاة المحاكم الشرعية الفيدرالية ما لا يزيد عن ثلاثة من العلماء المتبحرين إلى جنب خمسة من القانونيين (Kennedy, 1992:5; Lau, 2005:130; Zaman, 2010:89–90). وفي الواقع، انتهت أحكام المحكمة الباكستانية العليا – وفقاً لتشارلز كينيدي – إلى تجريد هذه المحاكم الشرعية الفيدرالية من العديد من سلطاتها، وأنكرت عليها “اختصاصها في العديد من المجالات التي تهم الإصلاحيين الإسلاميين فيمايتعلق بنظامهم القانوني الباكستاني المقترح” (Kennedy, 1992:5).
وفي ماليزيا، أسس النظام القضائي محاكم شرعية إلى جانب المحاكم العليا والمحاكم الفيدرالية. لكن يمكن للمحكمة العليا أن تتجاوز المحاكم الشرعية وتقبل استئنافات على أحكامها، على عكس المحاكم الفيدرالية التي لا يمكنها الفصل في القضايا المرتبطة بالشريعة الإسلامية. ولذلك، وعلى الرغم من الوظائف الغامضة التي تقوم بها المحاكم الشرعية خارج مساحات قانون الأسرة، تشرف المحكمة العليا العلمانية على النظام القضائي بأكمله بما فيه المحاكم الشرعية. فعلى عكس باكستان، حيث العلماء قضاةٌ كغيرهم، أو السعودية حيث كل القضاة في المحاكم العامة من العلماء أو خريجي الكليات الشرعية، لا يبدو أن ماليزيا تشترط أمراً كهذا (Backer, 2009:174; Esmaeili, 2009:33–40; Vogel, 2000:3–165).
يبدو أن تجارب المحاكم الإسلامية هذه أو وجود بعض الوظائف القضائية المـُسندة إلى علماء شرعيين لم تعمل بشكل جيد، أو على الأقل لم تأخذ فرصتها في العمل نتيجة لقيود دستورية أو قضائية عليا. وعلى الجانب الآخر، لم تشهد مصر الحديثة المحاكم الشرعية أبداً ولم تنظر في أمرها بجدية. قد يكون السبب في تجنب فكرة المحاكم الإسلامية في مصر هو الذكرى السيئة المتعلقة بالمحاكم المختلطة التي ارتبطت دائماً بالمحاباة والفساد فضلاً عن امتيازات الأجانب وغير المصريين (Sherif, 1998:12–15).
استكشف هذا القسم العلماء ودورهم في القضاء الإسلامي. وعلى الرغم من وجود محاكم إسلامية عاملة، إلا أنها كانت جزءاً من نظام مدني أشمل لم يقتصر على التخفيف من إسلامية النظام، بل حدد أيضاً ماهو الإسلام والقانون الإسلامي. ويقودنا ذلك إلى مناقشة العلمنة في مقابلة الأسلمة في النظم القانونية، ومفهوم الثيوقراطية الدستورية.
السلطة الفقهية والثيوقراطية الدستورية
دائماً ما يثير النقاش حول دور العلماء الشرعيين في التشريع أو القضاء الخوفَ من الثيوقراطية أو أيٍ من أشكالها. لكن لأن مشروع الأسلمة في الدول ذات الأغلبية المسلمة كمصر لا يتسق مع الفكرة التقليدية عن الثيوقراطية، يحاول مفهوم الثيوقراطية الدستورية أو الدستورية الثيوقراطية تقديم تحليلٍ لهذه الظاهرة الدستورية. يعرض هذا القسم لبعض المفاهيم المرتبطة بالأسلمة الدستورية، ويحاول دراستها ويختم بمشروع الأسلمة ودور العلماء فيه.
بنهاية القرن العشرين، كان هناك انطباع شائع في عالمية القانون الدستوري والدستورية التي تتجاوز البلاد والثقافات. بدا هذا النظام العالمي وكأنه مبدأ الحكم الدستوري الوطني الشرعي الوحيد، والذي يجب على الجميع اتباعه واحترامه. إلا أنه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بزغ توجهٌ جديد وفهمٌ أكثر تعددية للحكم الدستوري في الدوائر البحثية الأمريكية والعالمية. وكما أرادت المبادئ الدستورية العالمية المتجاوزة محاربة التطرف وإحداث حالةٍ من التناغم الدستوري، أراد التيار الأكثر تعددية وتجزئاً أن يصل إلى الاستقرار ويحارب التعصب بشكل غير تقليدي (Backer, 2009:3–15)([15]).
أحد الاتجاهات الكبرى الجديدة نسبياً في الحكم الدستوري يقوم على نظام يقبل مبادئ الدستورية الأساسية كوجود الدساتير والفصل بين السلطات وإرادة الشعب، وفي الوقت نفسه يتضمن بعض المبادئ الدينية المحلية. يمثل العالم الإسلامي المسرح الأساسي لهذا النوع من الحكم الدستوري الديني المنتشر. يصف ران هيرشل هذا النظام بأنه “ثيوقراطية دستورية”. فيشير إلى أنه بينما تُركّز الثيوقراطيةُ التقليدية السلطةَ في يد رجال الدين أو المؤسسات الدينية، توجد ظاهرةٌ جديدة من “الثيوقراطية الدستورية” التي يقوم عليها رموز سياسية من غير رجال الدين، ومتفقةً مع القيود الدستورية ولكنها في بعض أجزاءها أو كلها مستوحاة من الدين (Hirschl, 2008:3–4).
وعلى عكس الدرجات المختلفة من الفصل بين الدين والدولة، تتبنى الثيوقراطيات الدستورية ديناً محدداً بشكل رسمي وهيكلي لكل دولة توسف بأنها ثيوقراطية دستورية. وعلى الرغم من وعي هيرشل بالنمط الذي تتبعه بعض الدول الأوروبية في اعترافها بدين واحد في الدستور، إلا أنه يفسر هذا الاعتراف باعتباره كيان جماعي أو قيد اجتماعي في حين أن الثيوقراطيات الدستورية تشترط أن تكون القوانين ملتزمةً دينياً (Hirschl, 2008:5, 2011:3). ووفقاً لهيرشل، لكي نصف أي نظام بأنه ثيوقراطية دستورية يجب أن تتوفر فيه سمات أربعة: 1) الالتزام بكل الجوانب الضرورية للدستورية الحديثة، 2) وجود دين للدولة تعترف به وتقرّه باعتباره الدين الوحيد المهيمن، 3) التأسيس الدستوري للدين باعتباره مصدراً للتشريع، 4) وجود علاقة معترفٍ بها دستورياً بين القضاء والكيانات الدينية ذات نوع معين من الاختصاص في قضايا بعينها (Hirschl, 2008:3, 2011:5).
وبعد استقصاء بلدان مختلفة تمثل ثيوقراطيات دستورية، يميز هيرشل بين تسع مقاربات فيما يخص العلاقة بين الدين والدولة([16]): 1) دولٌ معادية للدين كالشيوعية الملحدة، 2) دول لادينية كفرنسا وتركيا الكمالية، 3) دول النموذج المحايد كالولايات المتحدة، 4) نموذج مخفف من الفصل الرسمي بين الكنيسة والدولة ككندا، 5) اعتراف فضفاض بالدين وتأسيسه باعتباره “دين الدولة” الرمزي كالنرويج والدنمارك وفنلندا وأيسلندا واليونان وقبرص وإنجلترا، 6) هيمنة فعلية لدين ما كإيرلندا ومالطا وبولندا وشيلي وكولومبيا والمكسيك والأرجنتين، 7) استيعاب انتقائي للدين في مساحات قانونية معينة كالهند ونيجيريا، 8) ترسيخ كامل للدين مع وجود جيوب علمانية معينة كالسعودية، 9) نظام مزدوج من الاعتراف بالمبادئ الدينية باعتباره أساساً للقانون، وبالمبادئ الدستورية العالمية، كباكستان ومصر (S. A. Arjomand, 2007:115; Hirschl, 2008:6–7, 2011:26–54; Jelen, 1993:2–5; Rabb, 2008:531).
وفي “الدستورية الثيوقراطية” لدى باكر، من الممكن تطوير نظام ملتزم بالمبادئ الدستورية العالمية، مع الحفاظ على بعض عناصر الدستورية الثيوقراطية (Backer, 2009:160)([17]). ويبدو أن باكر أكثر وعياً بأن التدين التقليدي موجودٌ في الأنظمة العلمانية (pp. 104-105, 108-127). ومع ذلك، يُفرِد الرجلان (هيرشل وباكر) الأديان التقليدية باعتبارها ساحةً معرضةً للثيوقراطية، ويقللان من شأن التدين غير التقليدي بالدين المدني الذي تقوم عليه الدستورية العلمانية العالمية. وعلاوة على ذلك، الدين العلماني أكثر دينية في التعامل مع غير المؤمنين بنظامه وقيمه (Gentile, 2006:16–45). ويمكننا القول إن العقلية الثيوقراطية للأنظمة تامة العلمانية تؤكد على تدينها العلماني؛ وهي عبارة قد تبدو متناقضة إن لم نكن قد رأينا أدياناً سياسية متعددة لم تنشأ من الأديان التقليدية كاليهودية والمسيحية والإسلام بل من مباديء علمانية تمّ التعامل معها بنفس الطريقة الدينية (pp. 16-45).
وقد يشير ما يسميه تيد جيلين بالدول “الحازمة في الفصل” (Jelen, 1993:2–5) والتي يصفها هيرشل بأنها دول “معادية للدين”، بالإضافة إلى “الدول اللادينية” (Hirschl, 2008:6–7, 2011:26–27) إلى ظاهرةٍ دستورية أخرى؛ يمكننا تسميتها “دستورية لاثيوقراطية”. فكما ينفي الإلحادُ الدينَ من نسقه القيمي، تنفي الدستوريةُ اللاثيوقراطية الدينَ -بمعناه التقليدي- من مجالها العام([18]).
يمكن اعتبار تركيا الكمالية مثالاً على هذه الدستورية اللاثيوقراطية في العالم الإسلامي. ففي عام 1928م، وبعد سنوات قلائل من تفكيك نظام الخلافة (الإمبراطورية العثمانية)، أزال نظام مصطفى كمال أتاتورك (ت. 1938م) أي إشارة إلى الإسلام أو الشريعة من الدستور والقانون. وفي المقابل، تم تبني العلمانية، ودخلت كلمة “العلمانية” في دستور 1937م. ومن المفارقات أنه تم تأسيس وزارة علمانية (رئاسة الشئون الدينية) لإدارة الأوقاف الدينية والشئون الدينية المباشرة وفرض خطاب ديني معين يقبله النظام العلماني (Ozbudun, 2011:136–139). وباختصار، وكما يعبر عن ذلك إرجون إزبودان، “تبدو العلمانية التركية نظام دين تتحكم في الدولة، أكثر من كونه فصلاً بين الدين والمؤسسات الدينية” (p. 139). وقد وصلت إلى هذا المستوى عندما جعل نظام 1982م الكمالي العلماني التعليمَ الديني إلزامياً من أجل تقديم تفسيرٍ تنويريٍ للإسلام، وهي خطوة لم تعارضها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (p. 139). تمثل الحالة التركية نموذجاً لما يسميه أحمد كورو “العلمانية الحازمة” في مقابل “العلمانية السلبية”. تمتلك العلمانية الحازمة خطاباً وتوجهاً دينياً، أو بالأحرى معادٍ للدين، ضد الأديان التقليدية، وبالتالي يتحكم في تعليمه وحركته. وفي الناحية الأخرى، تمثل العلمانية السلبية ما يسميه البعض الحياد الديني، مع التأكد من عدم ترسيخ الدولة لأي دين (Kuru, 2007:568–572; Ozbudun, 2011:138).
ففي حين أن الدستورية الثيوقراطية والثيوقراطية الدستورية تحاولان تفسير موجة الأسلمة، هناك دستورية معاكسة تميل إلى نفي دينٍ معين، وتتبنى باسم العلمانية خطابات دينية مماثلة ضد إرادة الشعوب. ومما يثبت ظاهرة مناهضة الدين هذه هو الرفض الممنهج للمظاهر الإسلامية باعتبارها جزءاً من الحرب على الثيوقراطية. ويظل السؤال عن كون مشروع الأسلمة يمثل شكلاً من أشكال الثيوقراطية سؤالاً مطروحاً. وسيناقش القسم التالي الأسلمة، وخاصةً آلية التقنين ودور الإسلاميين والفاعلين الآخرين إلى جنب العلماء.
المنافسون على الإسلام من غير العلماء
اتخذ مشروع الأسلمة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية أشكالاً عدة، إلا أنها تشاركت في معظمها أفكار الإحيائية الإسلامية التي وسمت هذه الفترة (Lau, 2005:5). ولدى سيد آرجوماند، اتسمت أسلمة هذه المرحلة بـ ” التعامل الأيديولوجي مع الإسلام والدستور كليهما” (S. A. Arjomand, 2007:119). فمثلاً، يصف آرجوماند الأسلمة الباكستانية في الفترة من 1949م حتى 1956م بأنها تحول من نظام الراج القانوني البريطاني الموروث إلى سيادة الله (p. 120). كان من المفترض أن باكستان تتبنى الإسلام وشريعته، لكن لم يكن واضحاً كيف يتم تنفيذ ذلك (Kennedy, 1992:3).
لقد كان هناك خياران لتنفيذ مشروع الأسلمة؛ إما إعلان هيمنة الشريعة الإسلامية وترك تطبيقها للقضاء، أو اتخاذ سبيل التقنين. فضّل تقيّ العثماني -عالم باكستاني نافذ وقاضي سابق بالمحكمة الشرعية- التقنين لأسباب عدة منها ضعف القضاة المحدثين في الفقه الإسلامي. وعلى الرغم من أن تقيّ العثماني اعترف بأن التقنين ليس هو الآلية التقليدية لتعميم الشريعة الإسلامية في العصر ما قبل الحديث، إلا أنه لا زال يرى أن التقنين هو الطريقة المثلى لضمان تطبيق الشريعة الإسلامية في الدولة الإسلامية الحديثة (Zaman, 2010:93–98)([19]). بدأ العلماء الباكستانيون في التقنين ودعموا مقترحاته باعتباره شكلاً مقبولاً من الأسلمة. ولم يُنظر إلى تقنين الشريعة في باكستان باعتباره يمثل خطراً على سلطة العلماء الفقهية. ومع ذلك، ظلت الأعمال الفقهية المؤلَفة خارج مؤسسات الدولة ذات تأثير (Zaman, 2010:93–98)([20]).
لقد صيغت العديد من الدساتير الإسلامية في باكستان وأُبطِلت، وتعاقبت أنظمة متنوعة؛ إلا أن وجود الإسلام في القانون كان أمراً لا جدال فيه. وكان الانقلاب العسكري الإسلامي عام 1977م بقيادة ضياء الحق (ت. 1988م) نقطة تحول نحو التسلطية الإسلامية (Kennedy, 1992). إذ أصدر قرارات بمحاربة الأنشطة غير الإسلامية، وقوانين تجرّم “المذاهب المنحرفة” (S. A. Arjomand, 2007:122). وضع ضياء الحق مع الجمعية الوطنية مخطط التقنين الإسلامي، إلا أنه سرعان ما ضجر من “تقدم الأسلمة البطئ” وحل الجمعية الوطنية بأكملها (Kennedy, 1992:10).
يمثل نموذج ضياء الحق مشروع الأسلمة عبر الاستبداد. فقد تم إصدار تقنينه عبر قرارات رئاسية. وكانت الشريعة المقننة كما قدمها نظام ضياء الحق أداة في يد صاحب السلطة من أجل إحكام القبضة على كل أفرع الحكومة والقطاع الديني. وتحققت محاولة نقل السلطة الدينية من شبكات مجتمعية إلى مؤسسات حكومية عبر تقنين الشريعة الإسلامية ولجانها المعيّنة. وعن باكستان، يشير محمد قاسم زمان:
“لقد عَمِلت الأسلمة أيضاً على إحكام سيطرة الدولة على المجتمع، وتوسعة نفاذها إلى مساحات جديدة وتعميقه، بما في ذلك صور من الحياة الدينية. وعَمِلت أيضاً باعتبارها أداة تقوية سلطة الحكومة الخاصة … (Zaman, 2010:101)”.
وفي مصر، كانت الأسلمة عام 1971م ودستورها أيضاً تغييراً قام بها نظام السادات الاستبدادي. كان هناك نوعين من الحضور الديني في خطة السادات الإسلامية: مؤسسات العلماء الدينية خاصةً الأزهر، والأحزاب السياسية والحركات “الاجتماعية” الدينية وخاصةً جماعة الإخوان المسلمين. مثّل العلماء السلطة الدينية التقليدية التي حملت الإسلام والشريعة وعلومها عبر التاريخ، في حين نشأت الجماعات السياسية الاجتماعية كالإخوان المسلمين باعتبارها ظاهرةً حديثة تشكلت من إسلاميين عوام. قد تكون الحركات الإسلامية والإسلاميون المعاصرون قد نشأوا من هيكل نظام الأخوّة في الطرق الصوفية في التاريخ الإسلامي. تراوحت العلاقة بين هذين الفصيلين (العلماء والإسلاميون) بين المنافسة على السلطة والتعاون من أجل تعزيز حضور الإسلام في المجتمع.
بينما قد تشكل الحركات الإسلامية تحدياً لدور العلماء التقليدي باعتبارهم حاملي الإسلام، يمكن للإسلاميين أيضاً أن يكونوا لاعبين سياسياً يساعدون مؤسسة دينية كالأزهر في القيام بدورها الفعال (Ahmad, 1972:257; Crapanzano, 1972:327; Gellner, 1972:307; Hirschl, 2003:2; B. G. Martin, 1972:275; R. Martin & Barzegar, 2010; Skovgaard-Petersen, 2013; Wickham, 2002).
على الرغم من أن الأسلمة في مصر يفترض أن تكون لإحياء الفقه الإسلامي، إلا أنه في الواقع كانت آلية تلك الأسلمة هي الجمع بين إعلان الشريعة الإسلامية من جهة وتقنينها من جهة أخرى وهي الأشياء التي كان يسيطر عليه نظام السادات الاستبدادي ويتحكم فيه. وعلى الرغم من شيوع الفكرة التي ترى أنه كان متعاطفاً مع الاتجاه الإسلامي وجماعة الإخوان المسلمين بالأخص، إلا أن الطريقة التي تمت بها إدارة مشروع الأسلمة كشفت عن شك وارتياب عميقين، فبعد إصدار المسودات الإسلامية المقننة، لم يتسامح النظام مع أي نقد، وخاصةً من الإسلاميين (Lombardi, 2006:116–136; Moustafa, 2000:3–7; Sherif, 2011:125–126). وكان مشروع الأسلمة المصري على المحك عند اغتيال السادات عام 1981م. فبمجرد أن تسلّم الرئيس حسني مبارك السلطة، أُلغيت خطة الأسلمة، ووضعِت القوانين الإسلامية على الرفوف (Lombardi, 2006:136–139).
خاتمة
تمثل مسألة التكوين الدستوري الحديث ودور العلماء المسلمين في الدول ذات الأغلبية المسلمة طريقةً لاختبار الموقع التقليدي لهؤلاء العلماء. وتقدّم التجارب الدستورية المختلفة في العالم الإسلامي أمثلةً متنوعة على الكيفية التي يتم بها التعامل مع العلماء والعناصر الإسلامية. أخذنا مصر باعتبارها حالةً دراسية، وذكرنا بعض البلدان الأخرى التي تشاركها بعض الخصائص المتشابهة في بعض الأقسام، مثل باكستان.
وبعد استكشاف السياقِ الدستوري الحالي في العالم الإسلامي والعربي، والمراحلِ المبكرة للدستورية الإسلامية، شرح البحث دور العلماء في النظم الدستورية ووضع الدساتير. درسنا دور العلماء في مساحتين؛ التشريع والأحكام القضائية. وعلى الرغم من حقيقة أن مشروعات الأسلمة كانت وفقاً لمطالب شعبية، إلا أنها وظّفت آليات استبدادية وتسلطية. وحاول المشروع استبدال الطبقة النموذجية من الفقهاء المبرّزين اجتماعياً باللجان المعيّنة المـُسند إليها التقنين الإسلامي، فلذلك يُطْعنُ في عملِها و”مدى إسلاميتها”.
المراجع