مقالاتمقالات مختارة

سورة الفاتحة.. كما لم تقرأها من قبل

بقلم شريف محمد جابر

سورة يقرؤها المسلم كل يوم 28 مرّة على الأقل، ولا تصحّ الصلاة إلا بها، وهي أفضل سورة في القرآن، روى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: “أَتُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَكَ سُورَةً لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُها”؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”كَيْفَ تَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ”؟ قَالَ: فَقَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا”.

وهي فاتحة الكتاب، وأمّ القرآن، والسبع المثاني، قال تعالى في سورة الحجر: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}. وروى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى رضي الله عنه أنّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ قَالَ له: “لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ”. ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: “الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ”.

والسؤال هنا: إذا كانت الفاتحة بهذه المحورية في الإسلام، هل يُعقل أن يكون فقهنا لنا فقهًا سطحيّا، نتمتم كلماتها سريعًا كل يوم، ثم نركع ونسجد ونسلّمُ ولم نخرج بشيء من فوائدها؟ أم يُفترض أن يكون الاعتصام بقيَمها فاتحةَ الخروج من غفلتنا؟

أول ما يلفت الأنظار في سورة الفاتحة، أنّها السورة الوحيدة في القرآن التي تمثل من أولها إلى آخرها خطابًا من العبد إلى الله

تأتي هذه التدوينة باعتبارها “فاتحة” لفكرة كانت تراودني منذ مدّة طويلة، وهي تقريب كتاب الله للمسلم المعاصر، والتعامل معه باعتباره خطابًا من الله لنا نحن البشر. وهي مهمّة صعبة أمام القارئ في ظلّ التفاسير القديمة والحديثة التي غلب عليها التخصص، مع الإغراق في مباحث لغوية وأدبية وفي علوم القرآن، أو التعامل مع الآيات بشكل “ذرّي”، أي بتفسير كل آية على حدّة من خلال فكّ معانيها للقارئ. وهذا المنهج على أهميّته العلمية الكبيرة لفهم معاني الألفاظ والآيات، فإنه لا يؤدي وحده إلى استكناه الخطاب الشمولي الذي تقدّمه السورة أو السياق للقارئ.

سنحاول في هذه التدوينة تقديم خطاب سورة الفاتحة بلغة معاصرة، مع الحذر من أي إسقاط أيديولوجي يحرّف خطاب السورة عن حقيقته، بل المقصود استخدام الأدوات المعاصرة في تحليل خطاب السورة ولفت انتباه القارئ إليه، لمساعدته على استحضاره وتدبّره والعزم على إقامة مضمونه وهو يتلوها ليل نهار.

الفاتحة: خِطابٌ من العبد
أول ما يلفت الأنظار في سورة الفاتحة، قبل الشروع في معانيها، أنّها السورة الوحيدة في القرآن التي تمثّل من أولها إلى آخرها خطابًا من العبد إلى الله. ومع يقين العبد بأنّها من كلام الله، إلا أنّ هذه البنية اللغوية للسورة خير مُعين على جعلها مؤثّرة في قلبه وهو يردّد آياتها باعتبارها خطابَه هو إلى الله بكلام الله. إنّه رفعٌ لجميع الحواجز اللغوية التي قد تحول بين العبد وبين استحضار هذه المعاني والقيم الأساسية التي سيتلوها في السورة؛ فهو الذي يحمد الله ويثني عليه، وهو الذي يقرّ بعبوديّته المطلقة لله، وباحتياجه التامّ إليه، فيطلب إعانته وهدايته. وهذه الخاصّية اللغوية للسورة تتّسق تمامًا مع مضمونها المحوري، ومع كون المسلم يردّدها وجوبًا كل يوم مراتٍ عديدة.
الفاتحة: دليلُ الإقبال على الرحمن
صحّ في أكثر من حديث أنّ الصلاة إقبالٌ على الرحمن، فقد جاء في صحيح مسلم أنّ الرسول صلى الله عليه وسلّم كان إذا قام إلى الصلاةِ قال: “وجَّهتُ وجهي للذي فطر السماواتِ والأرضِ حنيفًا وما أنا من المشركين”. وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن تحريم البصاق قِبَلَ الوجه في الصلاة: “فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى”.

ولمّا كانت الصلاة إقبالا على الله عزّ وجلّ؛ كانت الفاتحة في بدايتها دليل الإقبال على الله عزّ وجل. فإنّ أول ما يستوجبه هذا الإقبال الحمد لله، ثم الإقرار له بالربوبية للعالمين، وتجريد العبودية الخالصة له وحده سبحانه، وطلب الاستعانة والهداية منه.

حين نتأمل سورة الفاتحة نجد فيها من جنس الترديد والتكرار ما نجده في ترتيل القرآن؛ لكونها تُتلى مكرّرةً كلّ يوم دون ملل، مع احتوائها على كليّات القرآن

من المهم أن نستحضر هذا الدور المحوري للفاتحة في الصلاة لنفهم أجواءها ونعيش مضامينها بقلوب حيّة تنبض بها. وإذا كان التربويّون يتحدّثون اليوم عن أهمية معرفة أهداف دراسة المادة العلمية قبل الشروع في دراستها، وأنّ ذلك خير معين على فهمها والاستفادة منها، فحريّ بنا ونحن نتلوا هذه السورة العظيمة أن نقدر لها قدرها، وكونها أحد أركان هذه الصلاة التي نتعبّد الله بها كل يوم خمس مرات. وحين نفهم دور الفاتحة المركزي في الصلاة، نكون قد قطعنا شوطًا كبيرًا في التحقق بمعانيها وتأثير هذه المعاني علينا، وهو المقصود الأعلى من ترتيلها.

الفاتحة: كلّيات القرآن
إذا كان القرآن الكريم يحتوي على كلّيات الدين بعقائده وشرائعه، فإنّ سورة الفاتحة هي التجلّي الأكثر تكثيفا لكلّيات القرآن. يقول الإمام برهان الدين البقاعي (ت 885 هـ) عن الفاتحة إنّها “الجامعة على وجازتها جميع معاني القرآن”. ومن الملاحَظ أنّ الله عزّ وجلّ وصف الفاتحة في كتابه بأنّها “السبع المثاني” كما مرّ معنا، ووصف القرآن كلّه بأنّه “مثاني” كما في قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ}.

وحين نُطالع معنى “المثاني” عند المفسّرين نجده يدور حول التكرار والترديد والتثنية، يقول الإمام البغوي (ت 516 هـ) في معنى “مثاني”: “يُثنّى فيه ذكرُ الوعد والوعيد، والأمر والنهي، والأخبار والأحكام”. ويلخّص الإمام برهان الدين البقاعي ما تدور حوله شروحات المفسّرين لمعنى “مثاني” فيقول في نصّ بديع: “من التثنية؛ بمعنى التكرير؛ أي تُثنّى فيه القصص والمواعظ والأحكام والحكم، مختلفة البيان في وجوه من الحكم، متفاوتة الطرق في وضوح الدلالات، من غير اختلاف أصلا في أصل المعنى، ولا يُمل من تكراره وترداد قراءته وتأمله واعتباره”.

ونحن حين نتأمل سورة الفاتحة نجد فيها من جنس الترديد والتكرار ما نجده في ترتيل القرآن؛ لكونها تُتلى مكرّرةً كلّ يوم دون ملل، مع احتوائها على كليّات القرآن.

الحمد لله:

فأمّا مطلع السورة فهو {الحمدُ لله}، والحمد كما يقول الإمام القشيري (ت 465 هـ) في “لطائف الإشارات”: “حقيقة الحمد الثناء على المحمود، بذكر نعوته الجليلة وأفعاله الجميلة، واللام ها هنا للجنس، ومقتضاها الاستغراق؛ فجميع المحامد لله سبحانه إمَّا وصفًا وإمَّا خلقًا”. واللافت في هذه الإشارة اللغوية التي يذكرها القشيري أنّها تؤكّد ما نذكره من احتواء الفاتحة على كليات القرآن وتكثيفها في هذه الآيات السبع القصار، فكلمة “الحمد” هنا تستحضر جميعَ ما جاء في القرآن من الثناء على الله عزّ وجلّ وذكْرِ أسمائه وصفاته وأفعاله سبحانه، فهذا ما تقتضيه “ال” الاستغراق، فهو الحمد كلّ الحمد. وكلّما كان القارئ لهذه الآية متدبّرا لصفات الله وأفعاله في خلقه، ذاكرًا له في كلّ حين؛ كان هذا الحمد أكثر فاعليّة في قلبه ومن ثمّ في سلوكه.

      

الإيمان بربوبية الله للعالمين:

وبعد الحمد يأتي إقرار المسلم وتصديقه بربوبيّة الله للعالمين، معترفًا بعجزه أمام ربّه ومولاه ومُصلح أمره وأمر دنياه. والربّ: هو السيّد والمالك، ويحمل في مضمونه معنى التربية والإصلاح. يقول الإمام الطبري ملخّصًا ما يدخل في معنى الربّ (ت 310 هـ): “فربّنا جلّ ثناؤه السيّد الذي لا شِبْه لهُ، ولا مثل في سُؤدده، والمصلح أمرَ خلقه بما أسبغ عليهم من نِعَمه، والمالك الذي له الخلق والأمر”.

وفي تضاعيف كلمة الربّ يندرج الإيمان بمشيئته سبحانه للعالمين، وأنّه لا يجري شيء في ملكه إلا بإذنه، وأنّه سبحانه هو مدبّر كلّ شيء، وهو خالق هذا الكون وسننه ونظامه البديع، وهو سبحانه العالم بكلّ ما يجري في العالمين. عبارة موجزة: {ربّ العالمين} تحمل في دلالتها جميع ما جاء في القرآن من أسمائه وصفاته وأفعاله سبحانه؛ فلا يستحقّ وصف “ربّ العالمين” إلا من كان عالمًا بكل شيء، خالقا لكل شيء، مدبّرا لكل شيء، قادرا على كل شيء… إلى جميع ما يليق بكماله وجلاله سبحانه ممّا جاء من أسمائه وصفاته وأفعاله في كتابه، فجميعها ممّا يستلزمه قولنا “ربّ العالمين”، وهي مساحة أساسية وكبيرة جدّا من نصوص القرآن.

الرحمن الرحيم:

أما قوله تعالى {الرحمن الرحيم} فهو يُسبل على القارئ جميع معاني الرحمة، فيستحضر ما جاء من ذلك في القرآن الكريم. والرحمة من المعاني الكلّية في دين الإسلام، يفهم ذلك من يقرأ في كتاب الله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}. كلّ شيء، هكذا بامتدادها الذي لا يحيط به الخيال البشري، ولكنّه يستسلم لهذه الحقيقة الدافئة المؤنسة! ويقرأ في كتاب الله هذه الآية المليئة بالطمأنينة والعطف والإحسان: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}. وفي الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: “إنَّ اللهَ كتب كتابًا قبل أن يخلُقَ الخلقَ: إنَّ رحمتي سبَقَتْ غضبي، فهو مكتوبٌ عندَه فوقَ العرشِ”.

وقد تنبّه الحكيم الترمذي (توفي نحو 295 هـ) إلى هذا المعنى الكلّي لصفة “الرحمن” في أثناء تفسيره للآية الأخيرة في سورة الرحمن في كتابه “نوادر الأصول” حيث قال: “ثم قال تعالى {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}، كأنّه يريد به الاسم الذي افتتح به السورة، فقال {الرحمن}، فافتتح بهذا الاسم، فوصف خلقَ الإنسان والجنّ والشياطين وخلق السماوات والأرض وصنعه، وأنّه {كلّ يوم هو في شأن}، ووصف تدبيره فيهم، ثمّ وصف يوم القيامة وأهوالها، وصفةَ النار، ثمّ ختمها بصفة الجنّة، ثمّ قال في آخر الصفة: {تبارك اسمُ ربّك} أي: هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة، كأنّه يعلمهم أنّ هذا كلّه خرج لكم من رحمتي، فمن رحمتي خلقتكم وخلقت لكم السماء والأرض والخلق والخليقة والجنّة والنار، فهذا كلّه لكم من اسم الرحمن، فمدح اسمه، ثمّ قال: {ذي الجلال والإكرام} جليلٌ في ذاته، كريمٌ في فعاله”.

الإيمان باليوم الآخر:

ولمّا كان الإيمان باليوم الآخر محورًا رئيسيّا في هذا الدين ويغطّي مساحة كبيرة من آيات القرآن، فقد جاء ذكره موجزًا في الفاتحة في قوله تعالى {مالك يوم الدّين}. وهذه الآية أيضًا تستدعي جميع ما جاء في القرآن من أخبار يوم القيامة، بل تستدعي جميع التفاصيل المتعلّقة بذلك: من الموت إلى البعث إلى العَرض إلى الحساب إلى الميزان إلى الحشر إلى الصراط إلى الجنّة أو النار. وأنت حين تقرأ هذه الآية تخاطِب ربّك بهذا الوصف، فينخلع قلبك لأهوال القيامة، وتعتملُ فيه معاني الرجاء في عفوه سبحانه، وتتذكّر ما مضى منك من تقصير، فالآية تذكيرٌ بركن أساسي من أركان الإيمان. وفضلا عن المساحة الكبيرة من تفاصيل القيامة واليوم الآخر في القرآن، فإنّ الآيات التي تذكر الإيمان {بالله واليوم الآخر} هكذا مقرونَين كثيرةٌ جدّا في كتاب الله، وهو ما يبيّن أهمّية تكرار التذكير بهذين الركنين من أركان الإيمان، ويفسّر تكرارهما في الفاتحة التي نردّدها كلّ يوم.

توحيد العبادة:

ثم يأتي ذكر الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق في قوله تعالى {إيّاك نعبُد}. يقول الإمام ابن أبي زمنين (ت 399 هـ) في تفسير معنى العبادة: “معنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع، ومن هذا يُقال: طريق مُعبّد، إذا كان مُذلّلا بكثرة المشي عليه”. ويقول الإمام الواحدي (ت 468 هـ) في تفسيرها: “معنى العبادة: الطاعة مع الخضوع والتذلل، وهو جنسٌ من الخضوع، لا يستحقّه إلا الله عز وجل، وهو خضوع ليس فوقه خضوع، وسُمّي العبد عبدًا لذلّته وانقياده لمولاه”.

من يتأمل الصلاة التي يُقيمها المسلم كل يوم، والتي تشكل الفاتحة ركنا أساسيا فيها، يجد بأنها لا تصحّ دون أن يحقق العبد أركان توحيد العبادة التي ذكرناها

وفي هذه الآية إعلانٌ لخلع كلّ عبوديّه لغير الله عزّ وجلّ، سواء كانت عبودية الأشياء كما هو حال عبدة الأصنام والجمادات، أو عبادة البشر متمثّلة بطاعتهم في ما لم يأذن به الله أو في تقديسهم، أو في عبادة المال وجعله بوصلة الحياة، أو في عبادة الهوى وغير ذلك من أنواع العبادات التي تسلب الإنسانَ إنسانيّته.

وإخلاص العبادة لله كما هو في الآية يتضمّن أركانًا هي: إفراده سبحانه بالطاعة، كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}. يقول الإمام الطبري في تفسيرها: “إنّ الله أمرني أن أعبده مُفردا له الطاعة، دون كلّ ما تدعون من دونه من الآلهة والأنداد… وأمرني ربي جل ثناؤه بذلك، لأنْ أكون بفعل ذلك أوَّل من أسلم منكم، فخضع له بالتوحيد، وأخلص له العبادة، وبريء من كل ما دونه من الآلهة”.

ويتضمّن إفراده تعالى بالولاء، كما في قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ۗ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. يقول الإمام الطبري في تفسيرها: “أشيئًا غيرَ الله تعالى ذكره “أتخذُ وليًّا” أستنصرُه وأستعينُه على النوائب والحوادث؟!”. وولاءُ الله أصلٌ، وموالاة المؤمنين في الله تبعٌ لهذا الأصل.

ويتضمّن إفراده عزّ وجلّ بأنواع النُّسُك والشعائر التعبّدية، كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}. ويندرج في ذلك أيضا أعمال القلوب كالمحبّة والتوكّل والخشية والرغبة والرهبة والرجاء والخوف والتوكل والإنابة والخشوع.. وغيرها، فجميع هذه الأعمال من أعمال التوحيد والعبادة.

سورة الفاتحة تقدم للمسلم “بوصلة” الطريق إلى الله، فاحتوت على كليّات الدين والهداية التي تمثل ركائز الإسلام، وأجابتْ عن أسئلة الفطرة

ومن يتأمّل الصلاة التي يُقيمها المسلم كلّ يوم، والتي تشكّل الفاتحة ركنًا أساسيّا فيها، يجد بأنّها لا تصحّ دون أن يحقّق العبد أركان توحيد العبادة التي ذكرناها هنا (إفراده سبحانه بالطاعة والولاء والنُّسك)؛ فلا تُقبل الصلاة عند جميع العلماء إذا وُجّهتْ لغير الله (النسك)، ولا تُقبل إذا كانت على غير ما شَرَعَ الله من أحكام (الطاعة)، ولا تُقبَل إذا ما كان مؤدّيها يتولّى غير الله ويوالي على المسلمين غيرهم (الولاء)، ولهذا سُمّي المسلمون “أهل القبلة”، لاجتماعهم على الصلاة كعلامة فارقة تميّز ولاءهم ووُجهتهم الواحدة.

الاستعانة بالله وحده:

يقول الإمام برهان الدين البقاعي في تفسير {وإيّاك نستعين} التي أعقبتْ {إيّاك نعبد} مباشرة: “إشارة إلى أنّ عبادته لا تتهيأ إلا بمعونته، وإلى أنّ ملاك الهداية بيده”. والاستعانة بالله عند المسلم منهجُ حياة لا يفارقه، وتتمثّل في مظهرها الأبرز وهو “الدعاء”، الذي لا يُتصوّر أن يعيش المسلم حياته مطمئنّا صابرًا بغيره، فجميع مفردات الدعاء كالاستعاذة والاستغاثة واللجوء إلى الله وغير ذلك هو من جنس الاستعانة بالله.

{اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمتَ عليهم}:

وطلب الهداية من المؤمن يتضمّن طلب الإرشاد والتوفيق، وطلب التثبيت والمزيد من الهداية؛ “لأنّ الألطاف والهدايات من الله تعالى لا تتناهى” كما يقول الإمام البغوي. ويقول الإمام الطبري عن “الصراط المستقيم”: “أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعًا على أنّ الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه. وكذلك ذلك في لغة جميع العرب”. وسواء كان المقصود هو الكتاب أو الإسلام أو الطريق الهادي أو غير ذلك مما ذكره المفسّرون، فلا شكّ أنّ هذا الصراط لا يتحقق إلا باتّباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلّم من الوحي.

يقول سبحانه عن هذا الصراط: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. وسياق سورة الفاتحة يوضّح معالم هذا الصراط، يقول سبحانه: {صراط الذين أنعمت عليهم}، والآية تُحيل إلى ما جاء في وصف هؤلاء الذين أنعم الله عليهم في القرآن، سواء كانوا من الأنبياء أو الصحابة، فجميع ما جاء من أوصاف هؤلاء المنعَم عليهم يندرج في هذه الآية، ومن ثمّ يكون استحضار ما يستطيعه المسلم من تلك الصفات عند تلاوتها خير دافع على التمسّك بها وتحديد موقعه من الحياة مع أولئك الرهط من المؤمنين.

{غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين}:

ورغم أنّ جمهور المفسّرين على أنّ “المغضوب عليهم” هم اليهود و”الضالّين” هم النصارى، فإنّ القارئ المتدبّر لا يقف عند هذه النتيجة، بل يرغب بمعرفة: ما الذي جعلهم مغضوبًا عليهم؟ وما الذي جعلهم ضالّين؟

إنّ هذه الآية تستدعي مجدّدا ذلك المحتوى المفصّل من القرآن حول صفات المغضوب عليهم وصفات الضالّين، ففي سورة البقرة مثلا تفصيلٌ وافٍ عن أفعال بني إسرائيل مع نبيّهم موسى، وعن إيمانهم المتزعزع أمام سطوة الهوى رغم المعجزات الحسّية والنعم الكثيرة، وعن قسوة قلوبهم واستكبارهم وحرصهم على الحياة، لتخبرنا الآيات بعد ذلك عن رفضهم لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلّم، وهو رفض ناتج عن “استكبار” لا عن جهل بحقيقة الرسالة، ولهذا استحقوا الغضب كما تخبرنا الآيات (تُراجع الآيات 40 حتى 103 من سورة البقرة كمثال).

وفي سورة آل عمران والمائدة تفصيل وافٍ حول ضلال النصارى، نجده مسبوقًا بالتعريف بحقيقة المسيح عليه السلام وطبيعته البشرية هو وأمه، وبحقيقة التوحيد ونفي الشرك (تُراجع الآيات 33 حتى 85 من سورة آل عمران كمثال). وهكذا، يستحضر المسلم حين يصل إلى الآية الأخيرة من الفاتحة أصول أنواع الضلالات من اتّباع الهوى والاستكبار والجهل، مع صورها العديدة التي ذكرها القرآن، فيعزم على تجنّبها مستعينًا بالله.

وبهذا تكون سورة الفاتحة قد قدّمت للمسلم “بوصلة” الطريق إلى الله، واحتوت على كليّات الدين والهداية التي تمثّل ركائز الإسلام. وأجابتْ في نفس الوقت عن أسئلة الفطرة إجاباتٍ مُجمَلة سيفصّلها القرآن في أجزائه الثلاثين؛ فالمنشأ من عند {ربّ العالمين}، والمصير {يوم الدين}، والغاية {إيّاك نعبد}، والمنهج {الصراط المستقيم}. وتفاصيلُ ذلك كلّه في كتاب الله، وفي سنّة رسوله صلى الله عليه وسلّم، والتي هي “تفصيلُ مجمله، وبيانُ مشكله، وبسطُ مختصره” كما يقول الإمام الشاطبي في “الموافقات”.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى