مقالاتمقالات مختارة

الإسلام والتاثير المصيري.. نشوء الدولة العثمانية وارتقاؤها حتى ظهور الجمهورية التركية

بقلم معاذ السراج

لم يكن نشوء الدولة العثمانية كغيرها من الدول من حيث إن أرطغرل القائد العظيم المحنك ومن بعده ابنه عثمان مؤسس السلالة التي تحمل اسمه لم يكن سوى زعيم لعشيرة تركمانية، ليس لها ما يميزها عن العشائر التركمانية الأخرى المنتشرة في الثغور. ولم يكن أحد ليتصور أن تلك القوة الصغيرة في حجمها ستصبح فيما بعد نواة لدولة من أنجح الدول في التاريخ. كانت قبيلتهم في تلك الفترة تعد نحو ألف أسرة (خيمة)، في حين كان بعض أندادهم من القبائل الأخرى يفوقونهم قوة وسلطانا، ويعدون بين 70 ألف إلى 100 ألف أسرة (خيمة)، بالإضافة إلى وجود عشرات الإمارات التركمانية والعشائر الرحل التي كانت تتقدم وتنتشر في السهول الساحلية من آسيا الوسطى، بيد أن سلالة عثمان وأعقابه كانت هي الوحيدة التي قُيّض لها أن تبقى إلى النهاية وتسود نحو أكثر من ستة قرون.

من يزور تركيا في أي من أقاليمها المنتشرة على امتداد جغرافيتها يندهش لما سيرى عليه المدن التركية من تمسك بالقيم والشعائر الإسلامية وما ورثته عن الدولة العثمانية من التقاليد والسلوكيات الاجتماعية في شتى المجالات، على الرغم من مرور عقود كثيرة على التطبيق الصارم للقيم العلمانية والسعي الحثيث لمحو أي علاقة تربط تركيا الحديثة بتراثها العثماني “الإسلامي”.

إن عوامل اللغة والأرض والعرق قد تكون لها أهمية شخصية أو اجتماعية أو عاطفية لكنها سرعان ما تضعف ووتتلاشى وتندمج ضمن عوامل الأخرى تتعلق بالسياسة والمبادئ والأخلاق، ولعل هذا ما يفسر إلى حد كبير الدور الذي لعبه الإسلام في نشوء الدولة العثمانية وارتقائها، وتجلت في مكانة الإسلام كدين رسمي للدولة أكسبها وحدة العقيدة التي باتت إلى جانب الروح العسكرية الطاغية السمة البارزة في تاريخ الأتراك العثمانيين طيلة سنين دولتهم. تعددت الأسباب ولا شك التي ساعدت العثمانيين في تأسيس دولتهم والتغلب على القوى العديدة التي واجهتهم خلال القرون الأولى قبل أن تبلغ الدولة أوج مجدها في فترة السلطان سليم. لكن المؤكد أن الإسلام لعب دورا أساسيا منذ نشوء الدولة حتى آخر أيامها، كما يرى الكثير من المؤرخين.

في كتابه (ظهور تركيا الحديثة) يؤكد الدكتور برنارد لويس أن  الأتراك حتى القرن التاسع عشر كانوا يرون أنفسهم مسلمين أولا، بحيث يكون ولاؤهم على مستويات مختلفة، إلى الإسلام والبيت العثماني والدولة العثمانية. ولقد ربط العثمانيون أنفسهم بالإسلام لدرجة أن مفهوم القومية التركية نفسه قد اختفى، على الرغم من بقاء اللغة التركية، حتى إنهم لم يحتفظوا بهويتهم الثقافية باعتبارهم جماعة عرقية، كما لم تفعل أي قومية إسلامية أخرى.

ومن المفيد أن نذكر أنه بينما كانت كلمة “تركي” في تركيا تكاد ألا تستخدم فإنها كانت في الغرب مرادفا لكلمة “مسلم”، حتى كان يقال للأوروبي الذي يعتنق الإسلام بأنه “تحول إلى تركي”. وتذكر المؤرخة الألمانية آنا ماري شميل وهي ترصد الانطباعات التي تركها الخطر العثماني القوي عند الأوروبيين والألمان على وجه الخصوص من خلال الأعمال الأدبية والفنية، أن أول كتيب مطبوع بالكامل في مطبعة “غوتنبرغ” كان باسم “تقويم تركي” عام 1454م، وقد طبعت على حاشية التقويم أبيات شعر مقفاة تتغير من شهر لآخر، وتحت شعار “تحذير المسيحيين من خطر الأتراك”، وتقول: “يتبين لنا أن الأتراك منذ ذلك الحين أصبحوا بنظر الأوروبيين هم من يمثل الإسلام ويجسده، وبقي هذا التصور قائما في أذهان الأوروبيين لمدة تزيد عن القرنين من الزمن، وتنقل عن الكاهن “لوثر” -الداعية البروتستنتي- دعاءه وهو يقول: “اللهم احفظنا برعايتك، وأرسل الموت للبابا وللأتراك”. وكانت هذه الأفكار تنتشر في الأعمال الأدبية والفنية والشعرية، وتكثر فيها اللهجة الوضيعة المتدنية. وتضيف: “وما زلنا نلحظ حتى اليوم وجود قدر من الخوف، ومشاعر الكراهية والنفور الدفينة والمكتومة في نفوس الألمان تجاه الأتراك”.

تأثير الإسلام في السلاطين الفاتحين

عندما انتشر الإسلام بين قبائل الترك كانوا مثلما كان عليه العرب من البداوة والخشونة والتباغض والجهل في اليام الأولى للرسالة الإسلامية، ثم انقلبت بعد إسلامهم إلى لين وألفة وعلم وإنصاف، وبالإضافة لما كان عليه الإسلام من فضائل ولما له من نفوذ فإن الأمم التي تكون على الفطرة تصير شديدة التقيد بأوامر الأديان التي اعتنقتها فتتطور على مقربة من مثلها العليا. ومعلوم أثر الإسلام في العرب منذ الدعوة الأولى وأيام الراشدين واستمراره لأجيال عديدة قبل أن يتراجع بعد ذلك تدريجيا، وهكذا كان أمر الإسلام مع الأتراك العثمانيين في مجموعهم وفي أفرادهم على السواء. ينقل جميل بيهم عن ليون كاهن: “إن الإسلام حوّل أولئك الذين كانوا الوسطاء بين الصين وأوروبا في التجارة، إلى جيش شديد أُعد لخدمة دين آسيوي خصم لدين أوروبا. وكان مثيرو أعظم الحروب الدينية في العصور الوسطى هم عناصر لم تكن عدوة من قبل للمسيحية وإنما كانت قليلة العناية بالتدين، حتى قال عنها الغربيون إن ذلك غريزي بفطرتها”.

 كانت شعلة الإسلام تضطرم في نفوس العثمانيين وتدفعهم لشغل ذلك الدور الذي طالما لعبه العرب في حمل راية الإسلام واستعادة روح فتوحاته الأولى. وقد أظهر الأوائل منهم خاصة ميزة في اقتفاء أثر الخلفاء في التقوى والقناعة والإحسان. ولم يكد ينتهِ الأجل بالقائد العظيم المحنك “أرطغرل 93 عاما” حتى شرع عثمان الأول في تأسيس دولتهم، وكان هذا السلطان العظيم على جانب موفور من الفضائل والمكارم، حتى وكانت عطاياه تتحرى المعوز من أرملة ويتيم، فضلا عن أنه ما كان يصادف فقيرا إلا ويواسيه، وكم من مرة خلع رداءه على المحتاج، هذا عدا عن مائدته اليومية التي كان يمدها في قصره للفقراء، ويكاد ألا يكون لها آخر، وكثيرا ما كان السلطان يقف عليها بنفسه، يناول الطعام لأولئك المساكين فيخجلهم لطفه المفرط”. واشتهر بالزهد والتقشف، ولم يخلف بعد وفاته إلا “شعارًا مزركشًا، وبضع قطع من الحرير الأحمر، وملعقة ومملحة وبضعة خيول ثمينة مع جملة قطعان من الغنم”. ودلت وصيته لابنه أورخان على حرصه الشديد على الدين واحترام العلماء والشفقة على الرعية والجهاد في سبيل الله. وعمل أورخان بوصية أبيه، وعرف بالتقوى والصلاح، وكان متواضعا إلى حد أنه لما احتفل بافتتاح إحدى التكايا أشعل بيده مصابيحها، ووقف بنفسه لإطعام الفقراء. وسار العديد من السلاطين على المنهج ذاته، فقد روي عن مدى احترام السلطان مراد الأول للعلماء وتقديره لهم أن أحدهم رفض شهادة السلطان لأنه لا يصلي جماعة، فراق له هذا التأنيب وشيّد في أدرنه المسجد المسمى “مرادية” تكفيرا لذنوبه، وتأثر ابنه “بايزيد” بنصائح العلماء فكف عن اللهو وكفّر عن استرساله فيه، وبنى مسجدين جميلين في بورصة، وكان السلطان “جلبي” محمد أول من رتب “الصرة” إلى شريف مكة لتنفق على فقراء الحرمين، أما خلفه مراد الثاني فقد كان تقيا محسنا يعمر في كل مدينة فتحها مسجدا وزاوية وتكية وخانا، وخضع محمد الفاتح لمؤدبه ومعلمه الشيخ أحمد الكوراني “وختم القرآن في مدة يسيرة” وكان الكوراني موضع إجلال السلطان واحترامه، ويخاطبه باسمه ويصافحه مصافحة ولا يقبّل يده، كما أثر كثيرا في تكوينه الشيخ “آق شمس الدين”، وكان الفاتح كثيرا ما ينزل بالليل إلى الطرقات والدروب ليتعرف على أحوال الناس بنفسه، كما كان يكلف رجال الدين من النصارى بالتطواف في أنحاء الدولة ليعرف منهم كيف تساس أمور الدولة وكيف يجري ميزان العدل، وكذلك بايزيد الثاني ابن محمد الذي كان من عادته أن يثابر على الخلوة في العشر الأخير من رمضان معتزلا للعبادة وحده أو مع الشيخ محيي الدين ياووز، وبلغ من ورعه أنه جمع ما علق بثيابه من غبار في أثناء الجهاد وامر أن يبسط في قبره تحت رأسه. وأما السلطان سليم فإنه لما لقبه خطيب الجمعة بحلب بمالك الحرمين الشريفين أنكر عليه وذلك وقال: “لي الفخر بأن أكون خادما لهما”، ودعي منذ ذلك الحين كل سلاطين آل عثمان بـ”خادم الحرمين الشريفين”، وأما السلطان سليمان ففضلا عن تاريخه المليء بالمفاخر فقد اقترن اسمه بالقوانين التي تنظم الحياة في إمبراطوريته والتي وضعها مع الشيخ أبي السعود أفندي وراعى فيها الظروف الخاصة لأقطار دولته، وأطلق عليه لقب “القانوني” لحرصه الشديد على تطبيقها بعدالة وإنصاف، وبلغ من حماسته للجهاد أنه وهو على فراش الموت أصر على أن يواجه بنفسه مصاعب حملة مجرية أخرى، ويخرج من وسائل الراحة في عاصمته إلى خشونة المعسكر ليواجه موتا محتوما كما ذكر برنارد لويس.

إلى ذلك اتصف السلاطين بالحلم والعفو والرأفة والرحمة، وقد عفوا مرارا عن العديد من الأمراء الذين كانوا ينقضون عهودهم ويحنثون بأيمانهم في التزاماتهم تجاه الدولة. فقد عفا السلطان جلبي عن “أمير القرم”، كما عفا السلطان بايزيد “يلدرم” عن الكونت دي نيفر بن دوق بورغونيا الذي جاء لنصرة سجسموند ملك المجر فوقع أسيرا، ومن ألطف ما يروى عن السلطان سليمان القانوني أنه عندما جيئ إليه بحاكم رودس “فيليب دوليل آدم” أسيرا، وقد كان شجاعا ودافع عن جزيرته حتى أعجز العثمانيين، خاطبه السلطان وقد اغرورقت عيناه بالدموع: “إني لآسف على إخراج مثل هذا الشيخ من داره”، وأمر أن يشيع بمزيد من الإكرام إلى حيث يشاء. هذا بالإضافة إلى سيرتهم مع أبناء الملل الأخرى غير المسلمة في دولتهم، والتي أشاد بها الكثير من المؤرخين. ولا شك أن مثل هذه الأخلاق السامية كفيلة بأن تجعل أصحابها أهلا للحكم ورعاية شؤون الناس. والأخبار في هذا كثيرة مستفيضة، لكننا هنا لسنا بصدد ذكر الحوادث التاريخية وإنما لتوضيح مدى تاثر العثمانيين بالإسلام وأخلاقياته.

وبضدها تتميز الأشياء

ولكي تتضح الصورة أكثر فإن من الإنصاف مقارنة (ولو بإيجاز) ما كان عليه العثمانيون من الأخلاق والفضائل بسيرة من عاصرهم من ملوك أوروبا وزعمائها وسيرتهم في رعاياهم وأثناء حروبهم، وحسبنا هنا أن نذكر ما كان يحدث للمسلمين في إسبانيا ونكبتهم على أيدي ملوكها وبابواتها، وإكراههم على التنصر والطرد والنفي، وما كان يحدث لليهود من اضطهاد واستغلال، بل ما كان يحدث لأهل الدين الواحد والطائفة الواحدة كمذابح الكاثوليك والبروتستانت، وهجرة “البيورتان” الإنكليز في أوائل القرن السابع عشر إلى مستعمرة “إنكلترا الجديدة”، فراراً من مخالفيهم في المذهب.

واما أوروبا “الفاتحة” أو “المستعمرة” فإنها رغم مجيئ زمانها متأخرا عن الفتح العثماني، فإنها لم تحذ حذوهم من حيث أخلاقيات الحروب واحترام حقوق المغلوبين.

ينقل جميل بيهم عن “رامزي ميور”: “أن البرتغاليين كانوا في كل مكان يحتلونه مثالا للعنف وعدم التسامح. ولم تكن روحهم مما يساعد على إيجاد روابط حسنة ودية بينهم وبين أقوام غير مسيحيين، وارتكب البرتغاليون في منازعة منافسيهم من التجار العرب في المحيط الهندي كل أساليب القسوة حتى قضوا عليهم”.

ولم يكن الإسبان في أمريكا أقل غلظة وقسوة، فضلا عما فعلوه بالعرب المسلمين، وكذلك الهولنديون في شمال البرازيل، وأما الإنكليز فأخبارهم في استغلال شعوب الهند والباكستان واستعباد الزنوج وتلكيف رعايا الدول المستعمرة من قبلهم بالأشغال الشاقة والاسترقاق، وارتكاب الفظائع فحدث ولا حرج.

وأما فظائعهم في الحروب فهي مما يندى له الجبين، فعندما اندحرت فرقة من جيوش محمد الفاتح في زحفها على المجر (1479م) “نصبوا على جثث المسلمين موائد الخمر وشيدوا الأهرامات من جثث القتلى، وذبحوا الأسرى كافة”، وفي انتصار آخر لهم سنة 1493م “خيطوا الأكياس على فريق من الأسرى بأمر من “الكونت كينس” وألقوهم أحياء في الماء، وكان نصيب الباقين بين السلخ والطحن بالرحى وتقديمهم للخنازير البرية المتوحشة”، وقام الكونت كينس ميخائيل (من أمراء مولدافيا) لما أخذ حصن تركوفيتز “بخوزقة الحامية وشوى على نار هادئة علي باشا وخوجه بك”.

وبالنسبة للروس فقد عددها المؤرخ “روتيارس” لا سيما ما وقع منها في القرم: “دع الفتك والتمثيل والتعذيب، فقد بلغ منهم التوحش أنهم لما دخلوا مدينة إسماعيل ظافرين ذبحوا أهلها كافة في مدة ثلاثة أيام (1790م) ولم يستثنوا طفلا ولا شيخا ولا امرأة.

وإذا ما قابلنا هذه السلوكيات بالكيفية التي استقبل بها الفاتحون العثمانيون في العديد من المدن والممالك مثل القرم وبعض المدن الخاضعة للبنادقة ونزولهم طوعا تحت سيادة السلطان سليمان، لعلمنا ما كانت عليه أخلاقيات أمراء الغرب وملوكهم وجيوشهم من الانحطاط الاجتماعي والقسوة حتى آل الأمر إلى اشتهار العثمانيين بحسن المعاملة مما ساعدهم في فتوحاتم ويسر لهم سبل العلاقة الحينة مع رعاياهم.

العثمانيون والتطبيق الصارم للشريعة

كانت الإمبراطورية العثمانية منذ تأسيسها وحتى سقوطها دولة مكرسة لنهضة الإسلام والدفاع عن العالم الإسلامي، وعلى مدى ستة قرون في حروب تكاد تكون مستمرة مع الغرب المسيحي، وظهر ذلك أولاً في محاولة نجحت بشكل أساسي في فرض الحكم الإسلامي على جزء كبير من أوروبا. ثم في الفعل الطويل المدى، لوقف أو تأخير الهجوم المضاد الدؤوب من جانب الغرب والذي استمر قبل ذلك ودون توقف منذ القرن الحادي عشر الميلادي. هذا الصراع الذي استمر على مدى قرون قد ترك أثره على البنية التحتية الكلية للمجتمع التركي، والمؤسسات التركية، وبالنسبة للأتراك العثمانيين كانت إمبراطوريتهم التي تضم كل الأراضي الأصلية للإسلام الباكر تعتبر هي الإسلام بنفسه. وفي المؤرخات العثمانية يتم الإشارة إلى أراضي الإمبراطورية على أنها “أرض الإسلام” وتشير إلى حاكمها على أنه “باديشاه الإسلام”، وإلى جنودها بوصفهم “جنود الإسلام”، وإلى رئيسها الديني بوصفه “شيخ الإسلام” وكان أهلها يرون في أنفسهم قوما مسلمين قبل كل شيء. كما أن الأتراك العثمانيين قد ربطوا أنفسهم بالإسلام وأذابوا هويتهم فيه إلى حد ربما أكثر من أي شعب مسلم آخر.”

لقد أولى السلاطين العثمانيون الشريعة الإسلامية درجة أكبر في التاثير والفعالية من خلال سعيهم لجعل الإسلام الأساس الحقيقي للحياة العامة والخاصة، حتى يمكن القول إنهم أول من حاولوا أن يجعلوا الشريعة هي القانون الفاعل في الدولة وأن يطبقوها في جميع أنحاء البلاد، وأن يعطوا الاعتراف الكامل والسلطة التامة للمحاكم والقضاة الذين عملوا بموجبها ووفقا لها. وحين صدر “قانون نامه” الذي وضعه السلطان المشرع “سليمان القانوني” توجه بجملة معبرة وردت في صدره وهي ” القانون نامه السلطاني الذي يتفق مع الشريعة الشريفة”.

ومع ما اتصف به الحكم العثماني من قلة التدخل الحكومي حيث إن الدولة كانت تمارس الحكم في نطاق ضيق جدا لم يكن يتجاوز بضع قطاعات، مثل الإدارة المالية، والمحافظة على الأمن العام، وتنظيم مرفق القضاء، فإن الدولة عمدت إلى تطبيق الأحكام ورسخت الكثير من التقاليد الإسلامية، وبدا الطابع الديني ملحوظا وقويا في نفوس العثمانيين، وامتازت حياتهم الدينية بالحيوية التي ظلت ظاهرة للعيان حتى يومنا هذا، في المساجد والأذان والأسواق والعادات والتقاليد. والحقيقة أننا في هذه الدراسة لسنا بصدد السرد التاريخي، ولو تتبعنا السياسة العليا للدولة فيما يتعلق بالتطبيق الصارم لأحكام الشريعة والدور المهم الذي كان يضطلع به شيخ الإسلام والقضاة لطال بنا الحديث.

الإسلام في فترة تراجع العثمانيين

وبالجملة فقد درج آل عثمان على الاقتداء بسلفهم الأول والتحلي بما كانوا عليه من الخلق والدين، كما دأبوا على التمسك بشريعة الإسلام ورفع شأنها، وتكريم علماء الدين وتعزيز مكانتهم، حتى كان للإسلام التأثير البالغ في مرافق الدولة بأكملها وأخلاق زعمائها وقادتها. ولما تمكنت من آل عثمان روح الحضارة وطبيعة الملك من الزخرف والرفاهية صارت نفوسهم ميادين صراع بين غريزتهم المطبوعة على البساطة والدين، وطباعهم المتأثرة بالحضارة والملك، وعلى الرغم من أنهم كانوا يكفرون عن بدعتهم في الترف بأعمال الخير والإنفاق على الفقراء، وبناء المساجد والتكايا والخانات، إلا أن مظاهر الفساد والتراجع أخذت تدب في أوصال الدولة وتنخر فيها شيئا فشيئا.

يورد الدكتور عبد العزيز الشناوي فقرتين من وثيقتين من الوثائق الرسمية صدرتا عن الدولة العثمانية، صدرت الأولى سنة 1839م وجاء فيها: “إن الدولة كانت تراعي الأحكام الشرعية فبلغت قمة المجد، ومنذ مئة وخمسين سنة أهملت الإدارة الشرعية بسبب الغوائل وما عرض من حوادث…”، وأما الوثيقة الثانية فقد صدرت في سنة 1856م وجاء فيها: “… ولكن منذ مئة وخمسين سنة لم يعد انقياد ولا امتثال للشرع الشريف ولا للقوانين المنيفة، لسبب ما طرأ عليها من الحوادث الكثيرة. ولهذا تحولت تلك القوة من الضعف والعمار إلى الدثار، وأية أمة لا تقوم بحفظ القوانين الشرعية تؤول إلى الاضمحلال…”، وقد صدرت هاتان الوثيقتان في عهد السلطان عبد المجيد الأول (1839-1961) الذي اتفق رأيه مع رأي كبار رجال حكومته على أن المجد الذي حققته الدولة في عصورها الذهبية إنما مرده إلى التزامها بالشريعة الإسلامية وأنها إذا كان قد أصابها وهن أو اضمحلال خلال القرن التاسع عشر فلأنها أهملت لسبب أو لآخر تطبيق مبادئ الشريعة. وهذه القناعة ترسخت عند العديد من السلاطين لكنها لم تجد نفعا في ظل عوامل الضعف والفساد الداخلي والنزعة الشديدة نحو التغريب لدى شريحة واسعة من التراك، بالإضافة إلى العامل الخارجي أي الحروب والتدخلات الخارجية في شأن الدولة كما يذكر جستن مكارثي لم يعط الفرصة لنجاح أي من محاولات الإصلاح، ورغم أن حكم السلطان عبد الحميد استمر ثلاثا وثلاثين عاما استغرقها بأجمعها في محاولة أخيرة لانتشال الدولة لكن الجهود الداخلية المضادة حالت دون ذلك، وبقي الإسلام هو الأساس في محاولات الإصلاح، وكانت فكرة الجامعة الإسلامية من بين العديد من الأفكار الإصلاحية في هذا الاتجاه.

الجامعة الإسلامية

احتضنت الدولة العثمانية حركة الجامعة الإسلامية في القرن التاسع عشر والتي دعا إليها جمال الدين الأفغاني، وكانت تدعو إلى وحدة الصف الإسلامي في محتواه الكبير شعوبا وحكومات بهدف تخليص العالم الإسلامي من سيطرة أجنبية مسيحية، وتدخل أوروبي وأزمات سياسية واقتصادية. وعاصرت حركة الجامعة الإسلامية حركتين أخريين في العالم المسيحي هما حركة الجامعة الصقلبية وحركة الجامعة الجرمانية، وقد دعت الأولى لضم صقالبة أوروبا على اختلاف حضاراتهم ومذاهبهم في شرقي أوربا ووسطها لمناهضة النفوذ العثماني وغرب أوروبا، فيما دعت الثانية، والعناصر الجرمانية. ويلاحظ أن حركة الجامعة الإسلامية أعم وأشمل من حركة القومية العربية التي نادى بها (بشكل أساسي) فريق من القوميين المسيحيين في بلاد الشام ردا على حركة الجامعة الإسلامية، ومهما يكن من أمر الجامعة الإسلامية فإن الدولة العثماني باحتضانها  هذه الحركة تعتبر رمزا حيا مجسدا للتضامن الإسلامي في وجه الزحف الأوروبي الاستعماري على العالم الإسلامي.

وبرأي الباحث الأمريكي لوثروب ستودارد (صاحب كتاب حاضر العالم الإسلامي) فإن “جميع الشعوب النصرانية مجمعة ومتفقة على عداء الإسلام، وروح هذا العداء متمثلة بجهد جميع هذه الشعوب جهدا خفيا مستترا متواليا لسحق الإسلام سحقا”. وفي تعليقاته على كتاب (حاضر العالم الإسلامي) يذكر الاستاذ شكيب أرسلان جهود السلطان عبد الحميد في سبيل الجامعة الإسلامية ولقاءه بالأفغاني “بالمبرة والكرامة” ويرجح أن ما لاقته جهود السلطان عبد الحميد من نجاح في سياسته في سبيل الجامعة الإسلامية إنما كان بفضل الأفغاني. وهو من كبار الدعاة للجامعة الإسلامية كما يذكر أرسلان هو “عالي باشا” التركي الكبير الذي يؤثر عنه قوله: “ما يحتاج إليه المسلمون الاحتياج الأشد إنما هو ازدياد النعرة الدينية فيهم لا تناقصها فاضمحلالها”، كما نقل عنه المستشرق الهنغاري أرمينيوس فامبيري الذي شهد مجلسا من مجالس الجامعة الإسلامية في منزل عالي باشا حضره رسل ووفود ونواب من جميع أقطار العالم الإسلامي.

ويشيد شكيب أرسلان بدهاء السلطان عبد الحميد و”وضعه للخطط الكبرى لتحقيق مشروعاته العظمى” و”تذرعه بالخلافة لبلوغ أهداف سياسية عظيمة” و”تدبير أمر نشر الدعوة للجامعة الإسلامية تدبيرا نائي المضطرب واسع النطاق”، حتى غدت القسطنطينية مكة ثانية يلوذ بها كل رجال الإسلام “المشتهرين بأعمال المقاومة للدول الغربية”، ومن القسطنطينية صارت توفد الوفود وترسل الرسل إلى جميع الأقطار الإسلامية حاملة رسالة الخليفة وهي “رسالة الأمل المحقق في النجاة من حكم الفرنجة الكافرين” كما يذكر أرسلان.

واستمرت دعوة السلطان عبد الحميد تسير بجد ثلاثين سنة حتى حدثت ثورة “تركية الفتاة” عام 1908م، وخلع عبد الحميد وتوقف مجرى الدعوة للجامعة الإسلامية، وعلى الرغم من أن قادة الانقلاب على السلطان عبد الحميد كانوا قد ابتعدوا عن الخط الإسلامي الواضح وتخبطوا بين حركة “الجامعة العثمانية” (وتهدف إلى صبغ الشعوب المختلفة داخل الدولة بالصبغة العثمانية أو ما يسمى بعثمنة الدولة) و”الحركة الطورانية” (التي تهدف إلى تجميع الشعوب التركية ذات الصل الطوراني وإحياء أمجاد الأتراك الأوائل والتخليص مما دخل فيه من المؤثرات الفارسية والعربية)، إلا أن الطابع الديني الإسلامي ظل ملحوظا في الدولة، ثم عادوا ليرفعوا شعار الجامعة الإسلامية بعد العدوان الإيطالي على طرابلس الغرب عام 1911م، بغية الحصول على تأييد الشعوب الإسلامية، وفي أقل من ثلاث سنوات عاد الطابع الديني ليبرز مجددا عقب دخول الدولة في الحرب العالمية الأولى في الخامس من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1914م، من خلال المنشورات الدينية التي تحض على الجهاد ضد الأوروبيين المستعمرين، وإيفاد البعوث والرسل للغاية نفسها، لكن رجال الاتحاد والترقي استمروا نهجهم القومي وفقدوا ثقة الشعوب المسلمة، وآل الأمر بالنتيجة إلى خسارتهم الحرب وتفكك الدولة بصورة نهائية ونشأت الدولة التركية الحديثة عام 1923.

التاريخ يعيد نفسه

في نيسان/ أبريل 1921م أقيمت في إسطنبول المحتلة (من قبل بريطانيا وفرنسا من 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 1918 – وحتى 23 أيلول/ سبتمبر 1923)، احتفالية دينية لمن سقط في حروب الاستقلال في الأناضول، وقد كان “يعقوب قدري قارا عثمان أوغلي” الكاتب التركي البارز حاضرا، ووصف بتعبير لافت للنظر الأفكار والمشاعر التي أثارته، وبينما هو يستمع إلى تلاوة المولد (وهي قصيدة من المدائح النبوية تنشد في ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم)، ورد في خاطره أن سنواته العشر الماضية التي كانت سعيا لتحقيق الحداثة والقومية العلمانية ما هي إلا كابوس استيقظ منه آنذاك، فالمثل العليا التي سار خلفها هو ومعاصروه كانت كاذبة وضارة، وهذه هي الحقيقة، فالبيت الحقيقي لشعبه لم يكن نادياً وطنياً، ومحاضرة ثقافية، واجتماعًا سياسيًا، ولكن المسجد والجماعة هما المنزل والبيت والوطن لهذه الأمة، ولم يكن يفهم هذا سوى الناس البسيطة الجاهلة الذين احتفظوا بالقيم الحقيقية التي نسيها المثقفون مع تقليدهم للغرب.

قال قدري أوغلي: “بالأمس وللمرة الأولى قام عامة الناس الذين كنا دائما نحتقرهم كأشخاص جاهلين وخاملين، بتعليم المثقفين في هذا البلد بعض الحقائق الإلهية، إحدى هذه الحقائق أن القلب أرقى من العقل، والثانية أنه لا توجد وسيلة للخلاص بدون الصدق والإخلاص والإيمان البسيط، والثالثة أنه يجب ألا يكون هناك فصل بين الدولة والمجتمع الديني.

يقول برنارد لويس في كتابه (ظهور تركيا الحديثة): “حققت هذه الكلمات التي كتبت في أبريل 1923م قراءة غريبة في ضوء السياسات العلمانية التي انتهجها المنتصرون بعد اكتمال هذه الانتصارات” غير أن هذه القراءة لم يقدر لها أن تكتمل وتتحقق على أرض الواقع إلا بعد عقود من هذا التاريخ.

(المصدر: ترك برس)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى