عمر المحمودي: باحث في العلوم الشرعية – المغرب
مــقـــــدمــــــة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد، خاتم النبيين وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد
يعتبر علم أصول الفقه من أشرف العلوم الشرعية وأعلاها قدرا وأعمها نفعا وأعظمها أثرا، فهو منار الفتوى، والعمدة في الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية من الأدلة والنصوص، وبه توضع القواعد والأسس التي يستعين بها المجتهد على فهم أسرار الشريعة وغاياتها، وأحكامها وحكمها، وكيف تأخذ الأحكام والتكاليف، فهو العاصم لذهن الفقيه من الخطأ في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وأنجح وسيلة لحفظ الدين وصيانة الشريعة، فلا غنى للفقيه عنه والمفسر والخلافي… فالكل في حاجة إليه.
وأهمية هذا الموضوع تكمن في الوقوف على حقيقة مصطلح من أهم المصطلحات الأصولية وهو: مصطلح الاستدلال.
فالاستدلال بأخص معانيه هو عبارة عن استثمار القواعد والقوانين العقلية، والقواعد الكلية الشرعية المناسبة للتوصل إلى أحكام شرعية مناسبة، لمجموعة من القضايا المستجدة.
فهو نوع من الاجتهاد الذي وضع لاستفادة الأحكام منه، ومن هنا تكمن أهميته نظرا للمستجدات التي يفرضها الواقع المعاصر، خصوصا إذا وضعنا بين نصبي أعيننا الحوادث والوقائع التي لا تنقضي على مر الزمان، والتي لم يرد فيها نص، ولا نظير تقاس عليه، ولا أصل تخرج عليه، وتناهي النصوص الشرعية، فهذا النوع من الأدلة يحل كثيرا من المشاكل التي تقع في حياتنا في العصر الحاضر والتي نحار في تكييفها وإيجاد سند شرعي مناسب وملائم لها، والأليق الرجوع إلى المعاني الكلية المستنبطة من جملة الأصول الشرعية عند الاستنباط إذا لم تف النصوص الجزئية بالمراد.
تعريف الاستدلال لغة واصطلاحا:
عرفه الجرجاني:” الاستدلال: هو تقرير الدليل لإثبات المدلول”[1].
وعرفة الكفوي بقوله:” الِاسْتِدْلَال: لُغَة: طلبا لدَّلِيل وَيُطلق فِي الْعرف على إِقَامَة الدَّلِيل مُطلقًا من نَص أَو إِجْمَاع أَو غَيرهمَا، وعَلى نوع خَاص من الدَّلِيل وَقيل: هُوَ فِي عرف أهل الْعلم تَقْرِير الدَّلِيل لإِثْبَات الْمَدْلُول سَوَاء كَانَ ذَلِك من الْأَثر إِلَى الْمُؤثر أَو بِالْعَكْسِ”[2].
وعرفه التهانوي قائلا:” الاستدلال في اللغة طلب الدليل”[3].
والدليل في اللغة هو:” المرشد إلى المطلوب”[4].
يقال استدل فلان على الشيء: طلب دلالة عليه، واستدل بالشيء على الشيء: اتخذه دليلا عليه، واستدل على الأمر بكذا: وجد فيه ما يرشده إليه.
وإذا كانت الدلالة[5] في اللغة تعني الإرشاد والدليل هو ما يرشد ويوصل إلى المطلوب، فالاستدلال هو طلب الإرشاد والاهتداء إلى المطلوب.
تعريف الاستدلال عند بعض المدارس المعروفة:
الاستدلال عند المناطقة
عرف المناطقة الاستدلال بأنه[6]: استنتاج قضية مجهولة من قضية، أو من عدة قضايا معلومة.
أو: هو التوصل إلى حكم تصديقي مجهول بواسطة حكم تصديقي معلوم، أو بملاحظة حكمين فأكثر من الأحكام التصديقية المعلومة.
وبناء على هذا فقد درجوا على تقسيمه إلى[7]: استدلال مباشر، وغير مباشر.
وعرفوا الأول بصدق قضية على صدق قضية أخرى أو كذبها، أو الاستدلال بكذب قضية على صدق قضية أخرى أو كذبها.
وذلك مثل قولنا: كل برتقالة فاكهة، فإن صدق هذه القضية يستلزم صدق بعض البرتقال فاكهة، لأن صدق الكلية الموجبة يستلزم صدق الجزئية الموجبة، كما يستلزم كذب القضية كون بعض البرتقال ليس فاكهة، لأنها نقيض الأولى، والنقيضان لا يجتمعان.
وعرفوا غير المباشر: هو الذي يحتاج إلى أكثر من قضية حتى يتوصل إلى النتيجة المطلوبة.
وذلك مثل قولنا محمد مؤمن صادق الإيمان، وكل مؤمن صادق الإيمان سيدخل الجنة؛ فمحمد سيدخل الجنة. فلم نصل إلى النتيجة في هذه القضية إلا بالمرور على مقدمتين، ولهذا سمي استدلالا غير مباشر؛ لأننا احتجنا فيه إلى أكثر من مقدمة، بخلاف المباشر فلا نحتاج فيه إلا لمقدمة واحدة.
فالاستدلال إذا عملية عقلية منطقية ينتقل فيها الباحث من قضية، أو عدة قضايا إلى قضية أخرى تستخلص منها.[8]
وعرف علماء الكلام الاستدلال تعريفات عدة، أقتصر منها على:
ـ تعريف أبو الحسن الأشعري قال:” الاستدلال له معنيان، أحدهما: انتزاع الدلالة، والثاني: المطالبة بالدلالة “[9]
والناظر في هذا التعريف يرى: أن الاستدلال عند الأشعري عملية عقلية يقصد بها استخراج دلالة الدليل على الحكم، سواء كان ذلك من شخص واحد وهي التي عبر عنها بانتزاع الدلالة، أو كان من أكثر من شخص وهو المعبر عنه بالمطالبة بالدلالة.[10]
وفي اصطلاح الأصوليين يطلق على أربعة معان:
1 ـ الاستدلال بمعنى إيراد الدليل من قرآن أو سنة أو قياس أو غير ذلك.
2 ـ الاستدلال بمعنى إيراد الدليل الذي ليس نصا ولا إجماعا ولا قياسا.
3 ـ الاستدلال بمعنى الاستصلاح، وهذا الإطلاق قد ورد على ألسنة كثير من الفقهاء والأصوليين كالجويني، والغزالي، والشاطبي وغيرهم.
4 ـ الاستدلال بمعنى الأقيسة التي ليست من قبيل قياس التمثيل، وقياس التمثيل هو القياس الأصولي الذي يسميه علماء أصول الفقه بالقياس الشرعي، وهو إلحاق فرع بأصل في الحكم الشرعي لمساواتهما في العلة.[11]
وفيما يلي مجموعة من تعريفات الاستدلال عند علماء الأصول:
عرف الجصاص: الِاسْتِدْلَالُ: هُوَ طَلَبُ الدَّلَالَةِ وَالنَّظَرُ فِيهَا، لِلْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ.[12]
وعرفه الباقلاني بقوله:” فأما الاستدلال فقد يقع على النظر في الدليل والتأمل المطلوب به العلم بحقيقة المنظور فيه. وقد يقع أيضا على المساءلة عن الدليل والمطالبة به “.[13]
وعرفه ابن حزم:” الاستدلال طلب الدليل من قبل معارف العقل ونتائجه أومن قبل إنسان يعلم”[14].
وعرفه أبو يعلى الفراء:” الاستدلال: طلب الدليل “[15].
وعرفه الجويني بقوله:” اختلف العلماء المعتبرون والأئمة الخائضون في الاستدلال وهو: معنى مشعر بالحكم مناسب له فيما يقتضيه الفكر العقلي من غير وجدان أصل متفق عليه والتعليل المنصوب جار فيه “[16].
وفي التلخيص أيضا قال:” فَإِن قيل: فَمَا الِاسْتِدْلَال؟
قيل: هُوَ يتَرَدَّد بَين الْبَحْث وَالنَّظَر فِي حَقِيقَة المنظور فِيهِ وَبَين مَسْأَلَة السَّائِل عَن الدَّلِيل”[17].
وعرفه الآمدي:” أَمَّا مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ طَلَبِ الدَّلِيلِ وَالطَّرِيقِ الْمُرْشِدِ إِلَى الْمَطْلُوبِ.
وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: فَإِنَّهُ يُطْلَقُ تَارَةً بِمَعْنَى ذِكْرِ الدَّلِيلِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّلِيلُ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا أَوْ غَيْرَهُ. وَيُطْلَقُ عَلَى نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ بَيَانُهُ هَاهُنَا، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ دَلِيلٍ لَا يَكُونُ نَصًّا وَلَا إِجْمَاعًا وَلَا قِيَاسًا “[18].
وعرفه ابن الحاجب:” يطلق عموما على ذكر الدليل وخصوصا على نوع من الأدلة وهو المطلوب، فقيل كل دليل ليس بنص ولا إجماع ولا قياس علة “[19]. وعلى هذا جرى في تعريفه للاستدلال في المختصر[20] الصغير أيضا.
وعرفه الإمام القرافي:” الاستدلال هو محاولة الدليل المفضي إلى الحكم الشرعي من جهة القواعد لا من جهة الأدلة المنصوبة “[21].
وعرفه الإمام الطوفي:” وَهُوَ طَلَبُ الْحُكْمِ بِالدَّلِيلِ مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ.
وَقَدْ يُطْلَقُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى مَاأَمْكَنَ التَّوَصُّلُ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ، وَلَيْسَ بِوَاحِدٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ الثَّلَاثَةِ”[22].
وعرفه الإمام تاج الدين السبكي:” هو دليل ليس بنص من كتاب أو سنة ولا إجماع ولا قياس”[23].
وعرفه الشنقيطي بقوله:” ويطلق في العرف على إقامة الدليل مطلقا من نص، أو إجماع، أو غيرهما. وعلى نوع خاص من الدليل وهو المراد هاهنا، ويطلق ـ أيضا ـ على ذكر الدليل “. ثم قال:” هو دليل ليس بنص من كتاب أو سنة، وليس بإجماع جميع مجتهدي الأمة، وليس بقياس التمثيل ويسمى القياس الشرعي “[24]
فإذا نظرنا في هذه التعريفات نجد أمورا وفروقا تميزها عن بعضها منها:
أولا: أن بعض الأصوليين عرفوا الاستدلال بتعريفات عامة تماثل معناه اللغوي وهو: طلب الدليل، أو طلب دلالة الدليل، أو النظر في الدليل.
وهم:” الجصاص في “الفصول” وابن حزم في “الإحكام” مع كونهم وضحوا كيفية هذا الطلب: فالجصاص وضح أنه الطلب الموصل إلى العلم بالمدلول. وابن حزم وضح أن هذا الطلب يكون ” من قبل معارف العقل ونتائجه، أو من قبل إنسان يعلم”
وأبو يعلى الفراء في “العدة” وإمام الحرمين في “التلخيص” والباقلاني في “التقريب والإرشاد”. حيث وضحوا كيفيته وأنه على نوعين، أحدهما: النظر في الدليل والتأمل، المطلوب به العلم بحقيقة المنظور فيه، والثاني: المساءلة عن الدليل والمطالبة به.
ثانيا: أن بعض الأصوليين عرفوا الاستدلال بتعريفين، أحدهما: عام، والآخر خاص.
فالعام يقصدون به ذكر الدليل مطلقا سواء أريد بذلك الأدلة الأربعة المتفق عليها؛ وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، أم أريد به غيرها.
وبالنسبة لهذه التعريفات العامة التي تماثل المعنى اللغوي، يلاحظ أنها جاءت متغايرة الألفاظ:
فمنهم من عرفه: بطلب الدليل كما عند الجصاص في “الفصول” وأبو يعلى الفراء في “العدة”.
ومنهم من عرفه: بذكر الدليل كما عند الآمدي في “الإحكام” وابن الحاجب في “المختصر” والإمام الطوفي في “شرح مختصر الروضة”.
ومنهم من عرفه: بإقامة الدليل كما عند الشنقيطي في “نثر البنود” كما عبر عنه كذلك بذكر الدليل.
وهذه الألفاظ الثلاثة التي عبروا بها تكاد تكون مترادفة، لأن الطلب عملية يقصد منها الوقوف على حقيقة الدليل ودلالته على الحكم سواء ذكر الدليل بعده وأقيم علامة على الحكم أم لا.
وذكر الدليل قد يكون لإقامة علامة على الحكم، وإقامته تعني نصبه علامة على الحكم الشرعي؛ فالطلب أعم من الذكر والإقامة، والذكر أعم من الإقامة وأخص من الطلب، والإقامة أخص منهما.
وهذا الاختلاف أمر اصطلاحي، فلا بأس بالتعبير بأي من ذلك، لأنها أسماء لمراحل عملية واحدة، فالطلب يسبق الذكر، والذكر يتقدم على الإقامة، وهذا التقديم والتأخير إنما هو بالنسبة للوجود الذهني فقط، فالدليل لا يطلب إلا ليذكر ولا يذكر إلا ليقام علامة على الحكم الشرعي، وأدنى نظر في تعريف الشنقيطي للاستدلال يؤكد أن المراد من هذه الألفاظ واحد.
والخاص من هذه التعريفات هو عبارة عن: دليل لا يكون نصا ولا إجماعا ولا قياسا. والذي على هذا الآمدي في “الإحكام” وابن الحاجب في “مختصره” والشنقيطي في “نثر البنود” وهذه التعريفات الخاصة للاستدلال تعريفات متقاربة الألفاظ إلى حد كبير لا نجد فيها اختلافا مؤثرا.
وبالنظر في هذه التعريفات الخاصة نجدها تعبر عن ثلاث وجهات نظر؛ الأولى لإمام الحرمين، والثانية للآمدي، والثالثة للقرافي.
فيظهر أن هناك علاقة وثيقة بين هذه التعريفات؛ وهي علاقة اللازم بالملزوم؛ فتعريف إمام الحرمين للاستدلال تعريف بالملزوم، وتعريف الآمدي تعريف له باللازم؛ فتعريف إمام الحرمين للاستدلال يشعر وكأنه يتحدث عن البناء، والآمدي يتحدث عن طرق وضوابط هذا البناء.
وإذا أردنا أن نحد الاستدلال عند الجويني فهو: بناء الأحكام الشرعية على المعاني الكلية المناسبة من غير نظر إلى أصولها الجزئية.
وتعريف الآمدي إذا أردنا حده فهو: مجموعة من القواعد الضابطة لطلب الدلالة من الدليل. وهنا تكمن العلاقة الوثيقة بين التعريفين.
وبناء على هذا فمفهوم الاستدلال يضيق عند بعضهم فينحصر في بعض الأدلة، ويتسع عند بعضهم ليشمل ما سوى الأدلة المتفق عليها.
وبالنسبة لتعريف القرافي فمفاده أنه يعبر عن الوصول إلى الحكم الشرعي بالبحث في الدليل من جهة القواعد الكلية والقوانين العقلية [لا من جهة الأدلة الشرعية الجزئية التي نصبها الشارع علامة على الأحكام].
وهذه التعاريف الثلاثة متقاربة لكونها تهتم بكيفية البحث في الدليل من جهة القواعد والقوانين العقلية، إضافة إلى القواعد الكلية الشرعية المناسبة المستخلصة من مجمل الأصول المنصوصة؛ وهذا كله للتوصل إلى أحكام شرعية مناسبة لما يستجد ويتجدد من حوادث لا يفي بحكمها النظر المجرد والجزئي في النصوص دون النظر لما ترمي إليه من معاني وقواعد كلية مناسبة.
التطور الدلالي لمصطلح الاستدلال:
بعد معرفتنا لمعنى الاستدلال، وأنه يطلق على معنيين، أحدهما عام، والثاني خاص، وكل واحد منهما يعكس تطورا دلاليا لهذه اللفظة، فقد درج الأصوليون، منذ تدوين هذا العلم، على استعمال هذه اللفظة بالمعنى العرفي العام، كما تمت الإشارة إلى ذلك في ثنايا هذا الموضوع، وهو ذكر الدليل، سواء كان نصا أو إجماعا أو قياسا أو غير ذلك، وهذا المعنى العام للاستدلال لا يخفى قربه إن لم نقل مطابقته لمعناه اللغوي.
أما المعنى العرفي الخاص للاستدلال فهو اصطلاح حادث، ويعتبر أول من أفرده بالكلام وميزه عن غيره إمام الحرمين في كتابه ” البرهان في أصول الفقه “.
قال الإمام الزركشي:” واعلم أن هذا الاصطلاح حادث، وقد كان الشافعي يسمي القياس استدلالا، لأنه فحص ونظر، ويسمي الاستدلال قياسا؛ لوجود التعليل فيه، حكاه أبو الحسن في المعتمد “[25]
وإذا كان أبو الحسن قد حكى هذا عن الإمام الشافعي فهذا الأخير لم ينص على هذا صراحة، وإنما هو مفاد كلامه في الرسالة[26]؛ إذ جعل القياس والاجتهاد أمرا واحدا، ونص على أنه لا بد لكل نازلة من حكم، أو دلالة موجودة على الحكم، فإن كان تم حكم معين، وجب إتباعه، وإن لم يكن، طلبت الدلالة عليه بالاجتهاد، والاجتهاد عنده معنى عام يقصد به كل ما يتوصل به إلى الحكم الشرعي؛ سواء كان استدلالا أو استنباطا أو غير ذلك.
وإذا تتبعنا مصطلح الاستدلال بعد الإمام الشافعي، وقبل إمام الحرمين، وجدنا أن من الأصوليين من جعل الاستدلال مغايرا للقياس، كأبي الحسن الكرخي فيما حكاه أبو الحسن في المعتمد[27]، وأشار إليه أبو إسحاق الشيرازي[28]، وكذلك فعل أبو بكر الجصاص[29] إذ جعلهما هو الآخر متغايرين؛ ويستشف ذلك من خلال تعريفه لكل واحد منهما وبيان أقسامه.
وما توصل إليه الجصاص، والذي يرجع بدوره إلى شيخه أبي الحسن الكرخي، يعد اللبنة الأولى للحديث عن الاستدلال بمعناه الخاص، وإن لم يسموه بالاستدلال وسموه بغير هذا[30]. وقد أخذ ابن السمعاني الأمثلة التي ذكرها الجصاص وجعلها أمثلة للاستدلال[31]، ومعرفتنا بأن معناه عنده وعند إمام الحرمين الذي سيأتي بعده: هو بناء الأحكام الشرعية على المعاني الكلية، من غير نظر إلى نص جزئي من نص أو إجماع أو قياس، وهذه المعاني تستخلص من جملة الأصول المنصوصة، من هنا ندرك أن ما قام به هؤلاء يعتبر اللّبنة الأولى التي بنى عليها إمام الحرمين ومن جاء بعده.
أما ابن حزم فقد عرف الاستدلال تعريفا عرفيا عاما، مرادفا لتعريفه اللغوي، ولم يكن قد اتضح عنده هذا المصطلح بمعناه الخاص، لكنه تحدث عن شيء آخر وسماه الدليل، وفارق بينه وبين الاستدلال، ثم وضح أنه عبارة عن معاني النصوص ومفهومها، وهي أمور تقع تحت النص لا تخرج عنه أصلا.[32] وما ذكره ابن حزم من أن الدليل عبارة عن معاني النصوص ومفهومها، ولا يخرج عنها، يتضح أن كلامه هذا قريب من كلام إما الحرمين.
وكثيرا من الأنواع التي عدها له تعتبر أنواعا للاستدلال عند إمام الحرمين ومن تابعه ممن جاء بعده، والآمدي كذلك ومن تأخر عنه.
فصنيع ابن حزم يعتبر سلسة مهمة في جانب التطور الدلالي لهذا المصطلح، وإن عبر عنه بالدليل، لكن كلامه فيه يشعر بأن هناك نوع من الأدلة له خصائص تميزه عن غيره، وإن اختلفت التسمية، فهي عنده الدليل، وعند من اعتنى بالتقعيد له بالاستدلال.
ويأتي[33] إمام الحرمين الذي يعتبر أول من أفرد مصطلح الاستدلال بالكلام وميزه عن غيره في كتابه ” البرهان في أصول الفقه “.
فإمام الحرمين رحمه الله يعتبر أول محدد لهذا المصطلح ومميز له، وتعتبر النشأة الحقيقية له على يده، وإن سبقته إرهاصات في كلام من سبقه توحي بشيء من دلالة هذا المصطلح؛ وكل من جاء بعده فهو جار على منواله وراجع كلامه إلى كلام إما الحرمين، كالإمام السمعاني والغزالي فكلامهم آيل إلى كلامه، فهم غير خارجين عليه إلا في طريقة الموضوع والتناول[34].
وإذا كان إمام الحرمين قد تحدث عن ” الاستدلال ” كبناء، فقد استطار به الآمدي استطارة ملحوظة؛ إذ عرفه بأنه:” عبارة عن دليل لا يكون نصا ولا إجماعا ولا قياسا”[35]. وهذا التعريف لا يكشف عن المراد بالاستدلال كشفا تاما، فهو من قبيل الرسوم التي لا تتحدث عن ذاتيات المعَرّٙف، وعليه فلا يتبين المراد به إلا بعد الوقوف على ما حده به من أنواع، وقد عد منها أربعة أنواع[36] بالنظر إليها ندرك أن المقصود بالاستدلال عنده هو: مجموعة من الأدوات الضابطة لطلب الدلالة من الدليل، فالاستدلال عنده مجموعة من القواعد التي تحكم ذهن الفقيه في تعامله مع الدليل الشرعي ليتوصل إلى الحكم منه.
وقد تابعه في ذلك تلميذه ابن الحاجب، وإن كان قد زاد قيدا في التعريف فقال:” ولا قياس علة”[37] فأفاد بأن القياس بنفي الفارق، وقياس الدلالة يدخلان في مفهوم الاستدلال[38]، وهو توسع في مفهوم المصطلح لم يكن عند شيخه، وكان له صنيع مغاير في تعداد أنواع الاستدلال[39].
أما الإمام القرافي فقد كان له صنيع موفق بين اتجاه إمام الحرمين في كلامه عن الاستدلال كبناء، وبين اتجاه الآمدي ومن سار على نهجه في كلامهم عن هذا المفهوم كأدوات وضوابط؛ إذ عرفه بأنه:” محاولة الدليل المفضي إلى الحكم الشرعي من جهة القواعد لا من جهة الأدلة المنصوبة”[40]. فكان تعبيره بقوله:” من جهة القواعد” مفيدا بأن الاستدلال: بحث في الدليل سواء من جهة القواعد والقوانين العقلية، وهو مراد الآمدي كذلك، أم كانت قواعد ومعان كلية مستخلصة من مجمل النصوص، وهو مراد إمام الحرمين، وهو تطور دلالي مهم في مفهوم واستعمال هذا المصطلح.
وأصبح الأصوليون بعد القرافي في نظرتهم لهذا المصطلح إما متابع لإمام الحرمين، وإما متابع للآمدي، وإما جامع بين طريقتيهما في كلامه، ولا شك أن المؤدى واحد.
ومن هنا نرى أن منهم من ضيق في عد ما يدخل في الاستدلال، ومنهم من وسع في ذلك، حتى اعتبر أن الاستدلال هو ما سوى الأدلة المتفق عليها؛ وهذا مرجعه إلى أن الاستدلال حالة عند المستدل يستطيع بها أن يحكم في الوقائع عند فقد أصل شرعي جزئي، من نص، أو إجماع، أو قياس، مستندا في حكمه إلى المعاني الكلية المستخلصة من مجمل الأصول المنصوصة.
أما تاج الدين السبكي، فهو وإن سار على نهج الآمدي في التعريف[41]، إلا أنه استطار بدلالة هذا المصطلح استطارة كبيرة، حيث أطلقه على غير المتفق عليه من الأدلة، وبين أنه عبارة عن إيجاد دليل غير واضح قاله كل إمام بمقتضى أداء اجتهاده.
قال ابن السبكي رحمه الله:” واعلم أن علماء الأمة أجمعوا على أنه ثم دليل شرعي غير ما تقدم، واختلفوا في تشخيصه. وقال قوم: هو الاستصحاب. وقال قوم: هو الاستحسان. وقال قوم: هو المصالح المرسلة، ونحو ذلك من عمل القول والتلازم ونحوهما، وقد علمت توارد ” استفعل ” في اللغة. وعندي أن المقصود منها في مصطلح الأصوليين الاتخاذ، والمعنى أن هذا باب ما اتخذوه دليلا، والسر في جعل هذا الباب متخذا دون الكتاب والسنة والإجماع والقياس؛ لأن تلك الأدلة قام القاطع عليها، ولم يتنازع المعتبرون في شيء منها، وكأن قيامها لم ينشأ عن صنيعهم واجتهادهم، بل أمر ظاهر. وأما ما عقد له هذا الباب، فهو شيء قاله كل إمام بمقتضى تأدية اجتهاده، فكأنه اتخذه دليلا، كما تقول: الشافعي يستدل بالاستصحاب، ومالك بالمصالح المرسلة، وأبو حنيفة بالاستحسان، أي: يتخذ من كلامهم ذلك دليلا، كما تقول: يحتج بكذا، وهذا معنى مليح في سبب تسميته ب ” الاستدلال “.[42] وهذا هو صريح كلامه وبناء على ذلك فقد عنون لغير المتفق عليه من الأدلة بالاستدلال في كتابه ” جمع الجوامع ” وعرفه بما عرفه الآمدي.
وبعد ابن السبكي أتى[43] الإسنوي، والصنعاني، وتابعوا ابن الحاجب متابعة تامة في تعريفه، وعد أنواعه. والشنقيطي، والشوكاني، وقفوا عند صنيع ابن السبكي، وجعلوا الاستدلال علما على جملة الطرق المفيدة للأحكام من غير الأدلة المتفق عليها، وإن ذكر الشنقيطي أن من أنواعه ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه؛ حيث قال:” وهذه الأدلة مختلف في الأكثر منها، ومنها ما هو متفق عليه كالقياس المنطقي فلا خلاف في صحة الاستدلال به، وكالاستقراء التام؛ لأنه قطعي عند الأكثر”[44].
وبعد هذا؛ فقد تبين من عرض كلام الأصوليين منذ نشأة هذا الموضوع على يد إمام الحرمين التطور الذي حدث لهذا المصطلح عبر مراحله، وكيف أن بعضهم كان يقصد به نوعا معينا من الأدلة، وأن البعض الآخر كان يقصد به كل هذه الأمور، وهذا ما اتضح من كلام ابن السبكي ومن تأخر عنه، وأشار إليه القرافي قبله من خلال تعريفه وأنواعه التي حددها له.
ولنا أن نقول بعد هذا إن الاستدلال مظهر وكاشف لحكم الله تعالى، لا منشئ له ابتداء؛ لأن المثبت والمنشئ للحكم هو الخالق المشرع سبحانه تعالى.
فموضوع الاستدلال ـ باعتباره جزءا من أجزاء الاجتهاد ـ هو عبارة عن: إسناد الأحكام إلى المعاني الكلية المستنبطة من النصوص الجزئية التي أثبتها وأنشئها الشارع ابتداء؛ فمحيطه ودائرته الإظهار والكشف عن مكنون ما أودعه الله تعالى من أحكام في المعاني الكلية العامة المستخلصة من نصوصه وتكليفاته الجزئية المنصوصة.
الهوامش:
[1] التعريفات ص 17
[2] الكليات ص 114
[3] كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم 1/ 151
[4] العدة في أصول الفقه (1/ 131)
[5] عرف أبو البقاء الفتوحي الدلالة بقوله: ما يلزم من فهم شيء فهم شيء آخر؛ أي ما يرشد إلى فهم شيء من شيء أخر. انظر: “شرح الكوكب المنير ص 1/ 125 ، وعرفها أبو يعلى الفراء بقوله:” وأما الدلالة: فهي مصدر قولهم: دلَّ يدلُّ دلالة، ويسمى الدليل دلالة على طريق المجاز. العدة 1/ 133 ،الدليل: مأخوذ من الدلالة، ومعناها الإرشاد، الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية (ص: 216)، المعجم الوسيط 1/ 294 .
[6] ينظر المرشد السليم في المنطق الحديث والقديم ص 127ـ ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة عبد الرحمن حسن حنيكة الميداني ص 147
[7] علم المنطق الحديث محمد حسنين عبد الرزاق 1/ 99، 1/ 136 ، ـ المنطق التوجيهي أبو العلاء عفيفي ص 55 والمنطق الصوري منذ ارسطو حتى عصرنا الحاضر علي سامي النشار ص 31 و 361
[8] ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة ص 104
[9] مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري، تحقيق دانيال جيماريه ص 286
[10] مجرد مقالات الأشعري ص 286
[11] نظرية التقعيد الفقهي ص 129
[12]الفصول في الأصول 4/ 9
[13] التقريب والإرشاد ص 1/ 208
[14] الإحكام في أصول الأحكام 1/ 39
[15] العدة في أصول الفقه 1/ 132
[16] البرهان في أصول الفقه 2/ 161
[17] التلخيص في أصول الفقه 1/ 119
[18] الإحكام في أصول الأحكام 4/ 118
[19] منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل ص 202
[20] مختصر المنتهى بشرح العضد ص 2/ 280
[21] شرح تنقيح الفصول ص 450
[22] شرح مختصر الروضة 1/ 134
[23] حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع 2/ 382
[24]نشر البنود على مراقي السعود 2/ 255
[25] البرهان في أصول الفقه 7/ 13 ؛ وحكى صاحب ” الكبريت الأحمر ” عن بعضهم أن القياس والاجتهاد واحد، لحديث معاذ: ” أجتهد رأيي ” والمراد القياس بالإجماع. وقال إلكيا: يمتاز القياس عن الاجتهاد بأنه في الأصل بذل المجهود في طلب الحق سواء طلب من النص أو القياس. وقد قال الشافعي في ” الرسالة ” إن القياس الاجتهاد، وظاهر ذلك لا يستقيم، فإن الاجتهاد أعم من القياس، والقياس أخص، إلا أنه لما كان الاجتهاد في عرف الفقهاء مستعملا في تعريف ما لا نص فيه من الحكم، وعنده أن طريق تعرف ذلك لا يكون إلا بأن يحمل الفرع على الأصل فقط، وذلك قياس عنده. والاجتهاد عند المتكلمين ما اقتضى غلبة الظن في الأحكام التي لا يتعين فيها خطأ المجتهد ويقال فيها: كل مجتهد مصيب، والقياس ما ذكرناه والأمر فيه قريب. وقال ابن السمعاني: هل القياس والاجتهاد متحدان أو مختلفان؟ اختلفوا فيه: فقال أبو علي بن أبي هريرة: إنهما متحدان، ونسب للشافعي، وقد أشار إليه في كتاب الرسالة “، والذي عليه جمهور الفقهاء، أن الاجتهاد غير القياس، وهو أعم منه؛ لأن القياس يفتقر إلى الاجتهاد وهو من مقدماته، وليس الاجتهاد يفتقر إلى القياس، ولأن الاجتهاد يكون بالنظر في العمومات وسائر طرق الأدلة، وليس ذلك بقياس. ( البحر المحيط 7/ 13 ـ 14)
[26] قال فما القياس أهو الاجتهاد أم هما متفرقان (1324) قلت هما اسمان لمعنى واحد (1325) قال فما جماعهما (1326) قلت كل ما نزل بمسلم فقيه حكم لازم أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة وعليه إذا كان فيه حكم اتباعه وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد والاجتهاد القياس
[27] اعْلَم أَن الشَّيْخ أَبَا الْحسن رَحمَه الله لم يكن يثبت الْكَفَّارَات بِالْقِيَاسِ وَكَانَ يثبتها بالاستدلال على مَوضِع الحكم وكذلك في ” شرح العمد”
[28] شرح اللمع 2/ 815
[29] الفصول في الأصول 4/ 9 ، 10
[30] الفصول في الأصول 4/ 11، 12
[31] قواطع الأدلة وجاء فيه:” وقد قالوا: إنه يجوز أن يوجد في الأحكام الشرعية ما لا أصل له بعينه وذلك نحو العمل القليل في الصلاة وما شاكله وذلك لأن الدليل لما دل أن كثير العمل يفسد الصلاة وأن قليله لا يفسدها ولم يثبت بالنص القدر الذى يفسد والقدر الذى لا يفسد وجب الرجوع إلى الاجتهاد…. وكذلك ما يتوصل به إلى معرفة قيم المتلفات وإيجاب قدر القيمة حكم شرعي وقد تعلق بأمارة غير مستندة إلى أصل. وقد قيل: إن الأمارة في هذا عقلية وهى النظر إلى عادات الناس.
[32] الاحكام 5/ 105 ـ 107 ـ” ظن قوم بجهلهم أن قولنا بالدليل خروج منا عن النص والإجماع وظن آخرون أن القياس والدليل واحد فأخطؤوا في ظنهم أفحش خطأ” ” والاستدلال هو غير الدليل ” ” فهذه هي الأدلة التي نستعملها وهي معاني النصوص ومفهومها وهي كلها واقعة تحت النص وغير خارجة عنه أصلا”
[33] تحدث قبله الامام الشيرازي و تلميذه الباجي ويريان أن الاستدلال والقياس شيء واحد لا فرق بينهما.إحكام الفصول للباجي 2/ 457 ، 2/ 603 وشرح اللمع 2/ 815
[34] قواطع الأدلة 2/ 259 وما بعدها، المنخول للغزالي ص 353 وما بعدها.
[35] الإحكام 4/ 118
[36] ينظر الإحكام 4/ 104 ، ومنتهى السول 3/ 47 وما بعدها.
[37] منتهى الوصول ص: 202 .
[38] منتهى الوصول ص: 202 ، 203 ، ومختصر المنتهى 2/ 280 .
[39] منتهى الوصول ص 202 ، 203 والمختصر الصغير 2/ 280
[40] شرح تنقيح الفصول ص: 450 .
[41] جمع الجوامع مع شرح المحلي 2/ 343 .
[42] رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب4/ 482.
[43] هناك العديد من الأصوليين الذين أتوا بعد السبكي منهم الإسنوي، وابن الهمام، والشيخ زكريا الأنصاري، وابن النجار، والصنعاني، والشنقيطي، والشوكاني، ولكن من أجل التلخيص نقتصر في تتبع التطور الدلالي للمصطلح على بعضهم.
[44] نثر البنود على مراقي السعود 2/ 255
(المصدر: شبكة ضياء للمؤتمرات والدراسات)