مقالاتمقالات مختارة

السلطان عبد الحميد الثاني ومشروع الجامعة الإسلامية

بقلم حماد القباج

 

في الذكرى المئوية لوفاة السلطان المجاهد المصلح المفترى عليه: عبد الحميد الثاني؛ المتوفى يوم 10 فبراير 1918.

والذي حكم الدولة العثمانية وتولى منصب خليفة المسلمين 33 سنة؛ من سنة: 1876 إلى عام: 1909.

لا يسعنا إلا أن نستحضر ونجدد التذكير بمشروعه الهام الذي ناضل من أجله وبذل الغالي والنفيس لتحقيقه؛ ألا وهو مشروع “الجامعة الإسلامية”.

وهو مشروع يهم كل مسلم؛ أيا كان قطره الجغرافي أو أصله العرقي أو مذهبه الديني …

وإذا كانت شعوب العالم قد أدركت أهمية الوحدة وضرورة الحفاظ عليها؛ وبنت عليها كيانها وحافظت بها على قوتها السياسية والاقتصادية واقتطعت بفضلها مكانا محترما داخل المنظومة الدولية المعاصرة التي لا تعترف في حقيقة الأمر بشيء سوى القوة؛ ولا تمثل العدالة والإنسانية وحقوق الإنسان والديمقراطية .. بالنسبة لها سوى شعارات لا تحق حقا ولا تبطل باطلا.

من أجل هذا حافظت -على سبيل المثال-؛ دولة الصين ودولة الهند على وحدتهما فتمكنتا من تبوأ منزلة متقدمة بين دول العالم ..

أما روسيا ونسختها السفياتية فقد مكنها حرصها على وحدتها من المحافظة على قدر كبير من القوة التي نافست بها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها الأوروبيين الذين انتصروا في نهاية المطاف متمسكين بعنصر الوحدة وموسعين لدائرة الاتحاد قدر الإمكان ..

لقد أدرك عبد الحميد خان بأن الأمة الإسلامية لن يكون لها مكان محترم بين دول العالم ما لم تؤسس لوحدة قوية تحافظ بها على كيانها وتختط بها وجودا جغرافيا قويا سياسيا واقتصاديا وعسكريا ..

وقد أدرك بأن الإسلام هو الجامع الأهم والأقوى بين مكونات العالم الإسلامي؛ من أتراك وعرب وألبان وبوسنيين ويونانيين .. إلـخ.

ومن أجل هذه الجامعة عمل على ما يلي:

1 المحافظة على الدول والمناطق التابعة للخلافة وعدم تفريطه في أي قطعة من بلاد المسلمين:

وفي هذا الصدد رفض بالقطع تسليم جزء من فلسطين للحركة الصهيونية لتقيم بها دولة مستقلة؛ وقال لهم: “بإمكان اليهود أن يعيشوا بأمان أينما شاؤوا من بلاد الإسلام، لكن لن أقبل -ما دمت سلطانا- أن يؤسسوا دولة داخل أراضينا”.

واستمر على موقفه هذا؛ مع اشتداد الضغط عليه كما هو معروف.

وعمل باستماتة على تقوية الجيش العثماني، وواجه به الأطماع التوسعية لروسيا التي قال عنها بطرس الأكبر: “نشارك النمسا مطلب إخراج العثمانيين من أوروبا، وبعد التسلط على الممالك العثمانية نتفاوض مع فرنسا والنمسا على اقتسام العالم فيما بيننا“.

وقد واجه عبد الحميد هذا العدوان بجيش مؤمن وقادة عسكريين شجعان من أمثال: عثمان باشا وأحمد مختار باشا الذين قاما ببطولات أسطورية، وانتصرا على روسيا وحلفائها في معارك كثيرة؛ ما جعل السلطان يصدر مرسوما في الثناء عليهما والإشادة ببطولتهما ..

كما قاوم السلطان تمرد الأرمن ومحاولات الانفصال في البلقان؛ حيث قاوم محاولة فصل بلاد الهرسك ..

وبعد أن اضطرت الدولة العثمانية لتوقيع معاهدة (سان ستيفانو) عام 1878 مع روسيا؛ أبدى عبد الحميد عبقرية سياسية؛ ووجه ضربة موجعة لروسيا من خلال إفساد علاقتها بألمانيا، التي اضطر للتحالف معها لمواجهة محاولات التمزيق المتواصلة …

2 تشكيل لجان من العلماء والدعاة:

في كل الدول الإسلامية لنشر الوعي وتحسيس المسلمين بأن الوحدة والاتحاد مطلب شرعي يجب الحرص عليه والعمل من أجله ..

وأشهر من عمل معه في هذا الصدد: جمال الدين الأفغاني الذي قال عنه: “لو وزن السلطان عبد الحميد مع أربعة من نوابغ رجال العصر لرجحهم ذكاء ودهاء وسياسة .. ولا عجب إذا رأيناه يذلل ما يقام لملكه من الصعاب من دول الغرب“.

قال الأفغاني: “ورأيته يعلم دقائق الأمور السياسية ومرامي الدول الغربية؛ وهو معد لكل هوة تطرأ على الملك: مخرجا وسلما، وأعظم ما أدهشني: ما أعده من خفي الوسائل وأمضى العوامل، كي لا تتفق أوروبا على عمل خطير في الممالك العثمانية، ويريها عيانا محسوسا أن تجزئة السلطنة العثمانية لا يمكن إلا بخراب يعم الممالك الأوروبية بأسرها“.

ويقول: “أما ما رأيته من يقظة السلطان ورشده وحذره وإعداده العدة اللازمة لإبطال مكائد أوروبا وحسن نواياه واستعداده للنهوض بالدولة الذي فيه نهضة المسلمين عموما، فقد دفعني إلى مد يدي له فبايعته بالخلافة والملك، عالما علم اليقين، أن الممالك الإسلامية في الشرق لا تسلم من شراك أوروبا، ولا من السعي وراء إضعافها وتجزئتها، وفي الأخير ازدرائها واحدة بعد أخرى، إلا بيقظة وانتباه عمومي وانضواء تحت راية الخليفة الأعظم…”[1].

3 استغلال موسم الحج:

كان السلطان قد هيأ لمواسم الحج عددا من اللجان للتوعية بأهمية الاتحاد والعمل على اجتناب أسباب الفرقة والحذر من مكيدة العدو المتمثّلة في إحياء نعرات القومية والطائفية والتعصب العرقي …

وقد كان لهذه الخطة تأثيرا فعالا إلى درجة أن دولا استعمارية كانت تتحايل لمنع ذهاب بعض المسلمين للحج؛ كما كانت تعمل فرنسا في شمال إفريقيا والتي كانت تخوف الناس بوجود وباء الكوليرا ..

4 دعم الأقليات المسلمة المضطهدة:

فمع كون العاصمة مهددة بشكل كبير؛ كان السلطان يرسل أنواعا من الدعم العسكري إلى المسلمين الذين يتعرضون لعمليات اضطهاد ممنهجة تستهدف وجودهم الإسلامي، أو كانوا مهددين بعمليات تطهير عنصري؛ كما كان الحال في الصين وتركستان وجنوب إفريقيا …

5 توظيف الطرق الصوفية:

كان التدين الصوفي للسلطان عبد الحميد أقرب إلى الاعتدال، محافظا على أسس التوحيد وتعظيم الجناب النبوي؛ دون الانزلاق إلى أنواع من الشرك الأكبر..

ومن الغريب أن بعض التيارات التي تهاجم الخلفاء العثمانيين بذريعة: (المخالفات الصوفية)؛ تسكت عن مخالفات حكام دولها التي هي أشد وأخطر في الميزان الشرعي؛ فترى الواحد من هؤلاء -مثلا-يبالغ في إنكار “الذكر بالسبحة” و”مجالس الذكر الجماعي” ..

ويسكت عن: “الظلم” و”أكل المال بغير حق”، بل وقتل المسلم الذي يعارض سياسة ذلك الحاكم …

لم يكن عبد الحميد يتفق مع كثير من انحرافات الطرق الصوفية؛ ولم يكن تدينه الصوفي يقبل بالشطحات الخرافية لبعض المتصوفة ..

ومع ذلك؛ كان مقصد الوحدة الإسلامية يحتم عليه التعاون مع مختلف الطرق الصوفية لقطع الطريق أمام دعاة الفرقة والتمزق؛ ولا ينبغي لعاقل أن يجادل في كون السلطان ملزما بالمحافظة على علاقات جيدة مع أصحاب النفوذ من مشايخ الطرق؛ وإن لم يتفق معهم على كل ما يرونه ..

وبسبب هذه السياسة الحكيمة انحازت طرق صوفية إلى واجب الجامعة الإسلامية؛ كما فعلت الطرق الشاذلية والقادرية والمدنية والحركة السنوسية ..

في مقابل طرق أخرى وقعت في فخ المحتل الذي استطاع استمالتها إلى جانبه بدعاوى غريبة ..

وللإفادة؛ فإن السلطان المغربي مولاي سليمان (المتوفى عام 1822) كان قد انتهج السياسة نفسها وتألف زعماء الطرق الصوفية الكبار مع أنه كان سلفي الطريقة، وعلى هذا درج عامة الملوك والسلاطين …

6 تعريب الدولة:

مع أنه كان أمرا مرفوضا من نخب أتراك كثيرين؛ بما فيهم بعض علماء الدين ..

دعا السلطان عبد الحميد لاتخاذ اللغة العربية لغة رسمية للدولة، ورأى أنها من أهم أسباب تعزيز الوحدة الإسلامية ..

وقد قال عنها: “اللغة العربية جميلة. ليتنا كنا اتخذناها لغة رسمية للدولة من قبل. لقد اقترحت على خير الدين باشا ـ التونسي ـ عندما كان صدرا أعظم أن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية، لكن سعيد باشا كبير أمناء القصر اعترض على اقتراحي هذا. وقال: (إذا عربنا الدولة فلن يبقى – للعنصر التركي – شيء بعد ذلك.

كان (سعيد باشا) رجلا فارغا، وكلامه فارغا. ما دخل هذه المسألة بالعنصر التركي؟

المسألة غير هذه تماما. هذه مسألة، وتلك مسألة أخرى، اتخاذنا للغة العربية لغة رسمية للدولة من شأنه – على الأقل – أن يزيد ارتباطنا بالعرب“[2].

يقول الأستاذ محمد قطب: “ولو تصورنا دولة الخلافة قد استعربت، وتكلمت اللغة العربية التي نزل بها هذا الدين فلا شك أن عوامل الوحدة داخل الدولة كانت تصبح أقوى وأقدر على مقاومة عبث العابثين، فضلا عما يتيحه تعلم العربية من المعرفة الصحيحة بحقائق هذا الدين من مصادره المباشرة: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مما كان الحكام والعامة كلاهما في حاجة إليه، على الرغم من كل ما ترجم إلى التركية وما ألف أصلا بالتركية حول هذا الدين“[3].

7 مقاومة الحركات الأيديولوجية:

وقد كانت هذه الحركات من أهم أذرع الأعداء الذين استهدفوا الاتحاد الإسلامي والخلافة العثمانية التي كانت تمثل أرضية خصبة لتمتين ذلك الاتحاد وتوسيع دائرته ..

وفي هذا السياق وقف عبد الحميد في وجه أفكار العلمنة والتغريب؛ ورأى بأن الديمقراطية الغربية إن كانت مناسبة لدول الغرب؛ فإنها لا تناسب دولة الخلافة التي أكد بأن قوتها رهينة بالوحدة السياسية والتنمية والقوة الاقتصادية والتطوير الصناعي والإداري والعسكري وتطوير التعليم، كما انتقد المفهوم الغربي للحرية، وقاوم مناهج التعليم التغريبيّة؛ وعندما تولى السلطنة صرح بأن المدارس، ونظام التعليم، أصبح متأثرا بالفكر الغربي، وأن التيار القومي: هو التيار السائد في هذه المدارس، فتدخل في شؤونها ووجهها – من خلال نظرته السياسية – إلى الدراسات الإسلامية. فأمر بالآتي:

استبعاد مادة الأدب والتاريخ العام من البرامج الدراسية لكونها وسيلة من وسائل الأدب الغربي، والتاريخ القومي للشعوب الأخرى مما يؤثر على أجيال المسلمين سلبا.

وضع دروس الفقه والتفسير والأخلاق في برامج الدراسة.

الاقتصار فقط على تدريس التاريخ الإسلامي بما فيه العثماني.

وجعل السلطان عبد الحميد مدارس الدولة تحت رقابته الشخصية ووجهها لخدمة الجامعة الإسلامية[4].

وقاوم انزلاق سلوك المرأة المسلمة إلى نمط عيش المرأة الأوروبية المتفسخة من قيم العفة والحياء ..، مع حرصه على تنميتها بالعلم والمعرفة؛ وقد كان يرفض فكرة أن تقدم المرأة وتعلمها رهين بتفسخها الأخلاقي؛ وقال:

“لو كنت عدوا للعقل وللعلم فهل كنت أفتح الجامعة؟ لو كنت هكذا عدوا للعلم، فهل كنت أنشئ لفتياتنا اللواتي لا يختلطن بالرجال، دارا للمعلمات؟“[5].

وقام بمحاربة سفور المرأة في الدولة العثمانية، وهاجم تسرب أخلاق الغرب إلى بعض النساء العثمانيات، ففي صحف إستانبول في 3 أكتوبر 1883م ظهر بيان حكومي موجه إلى الشعب يعكس وجهة نظر السلطان شخصيا في رداء المرأة.

يقول هذا البيان: “إن بعض النساء العثمانيات اللائي يخرجن إلى الشوارع في الأوقات الأخيرة، يرتدين ملابس مخالفة للشرع. وإن السلطان قد أبلغ الحكومة بضرورة اتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على هذه الظاهرة. كما أبلغ السلطان الحكومة أيضا بضرورة عودة النساء إلى ارتداء الحجاب الشرعي الكامل بالنقاب إذا خرجن إلى الشوارع“.

أشير هنا إلى أن السلطان عبد المجيد الأول والد عبد الحميد؛ يعد أول سلطان عثماني يضفي على حركة التغريب في الدولة العثمانية صفة الرسمية،وعُرف عهده بعهد التنظيمات، الذي يعني تنظيم شئون الدولة وفق المنهج الغربي.

وقد وافقه ولده على أهمية التنظيمات والتراتيب الإدارية، دون الحاجة إلى اقتباس نمط العيش الغربي.

8 إنشاء الخطوط الحديدية:

أبدى السلطان عبد الحميد اهتماما بالغا بإنشاء الخطوط الحديدية في مختلف أنحاء الدولة العثمانية مستهدفا من ورائها تحقيق ثلاثة أغراض هي:

1ـ ربط أجزاء الدولة المتباعدة مما ساعد على نجاح فكرة الوحدة العثمانية والجامعة الإسلامية والسيطرة الكاملة على الولايات التي تتطلب تقوية قبضة الدولة عليها.

2ـ إجبار تلك الولايات على الاندماج في الدولة والخضوع للقوانين العسكرية التي تنص على وجوب الاشتراك في الدفاع على الخلافة بتقديم المال والرجال.

3ـ تسهيل مهمة الدفاع عن الدولة في أية جبهة من الجبهات التي تتعرض للعدوان لأن مد الخطوط الحديدية ساعد على سرعة توزيع القوات العثمانية وإيصالها إلى الجبهات[6].

وكانت سكة حديد الحجاز من أهم الخطوط الحديدية التي أنشئت في عهد السلطان عبد الحميد؛ ففي سنة 1900 بدأ بتشييد خط حديدي من دمشق إلى المدينة للاستعاضة به عن طريق القوافل الذي كان يستغرق من المسافرين حوالي أربعين يوما، وطريق البحر الذي كان يستغرق حوالي اثني عشر يوما من ساحل الشام إلى الحجاز، وكان يستغرق من المسافرين أربعة أو خمسة أيام على الأكثر.

ولم يكن الغرض من إنشاء هذا الخط مجرد خدمة حجاج بيت الله الحرام وتسهيل وصولهم إلى مكة والمدينة؛ وإنما كان السلطان عبد الحميد يرمي من ورائه أيضا إلى أهداف سياسية وعسكرية؛ فمن الناحية السياسية خلق المشروع في أنحاء العالم الإسلامي حماسة دينية كبيرة إذ نشر السلطان على المسلمين في كافة أنحاء الأرض بيانا يناشدهم فيه المساهمة بالتبرع لإنشاء هذا الخط[7]، وقد افتتح السلطان عبد الحميد قائمة التبرعات بمبلغ (خمسين ألف ذهبا عثمانيا من جيبه الخاص) وتقرر دفع (مائة ألف) ذهب عثماني من صندوق المنافع، وأسست الجمعيات الخيرية وتسابق المسلمون من كل جهة للإعانة على إنشائها بالأنفس والأموال)[8].

وأسهمت في هذه الحملة: جريدة (المنار) وجريدة (الرائد المصري) وشكلت لجان تبرع للمشروع في كل من القاهرة والإسكندرية وغيرهما من مدن مصر.

وكان مسلمو الهند أكثر مسلمي العالم حماسا وعاطفة وتبرعا للمشروع. وقد تبرع أمير حيدر آباد بالهند بإنشاء محطة المدينة المنورة في المشروع كما تبرع شاه إيران بمبلغ (50.000) ليرة عثمانية.

9  مقاومة حزب الاتحاد والترقي:

يمكن اعتبار جمعية الاتحاد والترقي أول حزب سياسي في الدولة العثمانية، ظهر عام  1890  كحزب سري يهدف إلى معارضة حكم عبد الحميد الثاني والتخلص منه.

وكانت أفكاره للإصلاح مقتبسة من أفكار (أوغست كانت) و(روسو) وأمثالهما من فلاسفة الأنوار الأوروبيين.

وكان الفكر السياسي لجمعية الاتحاد والترقي يؤكد على المفاهيم الطورانية على المستويين الداخلي والخارجي.

والطورانية: تسمية تشير إلى وطن الأتراك الأصلي ونسبته إلى جبل توران الواقع في المنطقة الشمالية الشرقية في إيران[9].

وكان داخل حركة الاتحاد والترقي اتجاه قوي يؤكد أن الترك هم من أقدم أمم الأرض وأعرقها مجدا وأسبقها إلى الحضارة، وأنهم هم والجنس المغولي واحد في الأصل، ويلزم أن يعودوا واحدا ويسمون ذلك بالجامعة الطورانية.

وكان شعارهم عدم التدين وإهمال الجامعة الإسلامية إلا إذا كانت تخدم القومية الطورانية؛ فتكون عندئذ وسيلة لا غاية.

وهذا يعني أن هذا الاتجاه يدعو إلى إحياء عقائد الترك الوثنية السابقة على أسلافهم، كالوثن التركي القديم (بوزقورت) أو الذئب الأبيض – الأسود الذي صوروه على طوابع البريد ووضعوا له الأناشيد وألزم الجيش أن يصطف لإنشادها عند كل غروب، وكأنهم يحلون تحية الذئب محل الصلاة، مبالغة منهم في إقامة الشعور العرقي محل الشعور الإسلامي.

ويستشهد هؤلاء برجالاتهم في التاريخ أمثال: أتلاو وطغرك وجينكيزخان وتيمورانك.

وبعدما اكتشف السلطان أمر الحزب سنة  1897م نفى الكثير من أعضائه إلى الخارج، وهرب بعضهم إلى باريس، ثم اجتمع المعارضون لحكم السلطان في باريس في فبراير 1902م في مؤتمر أطلقوا عليه اسم “مؤتمر الأحرار العثمانية”، واتخذ قرارات مهمة، منها تأسيس إدارات محلية مستقلة على أساس القوميات، وهو ما يعني تمزيق الإمبراطورية العثمانية، غير أن هذا القرار اعترض عليه بعض الحاضرين في المؤتمر، ثم طالب المؤتمرون من الدول الأوروبية التدخل لإنهاء حكم السلطان عبد الحميد وإقصائه عن العرش.

لقد أدرك بعض أقطاب حركة الاتحاد والترقي فيما بعد أنهم وقعوا في فخ الماسونية والصهيونية؛ فهذا أنور باشا الذي لعب دورا مهما في انقلاب عام 1908م، يقول في حديث له مع جمال باشا أحد أركان جمعية الاتحاد والترقي: “أتعرف يا جمال ما هو ذنبنا”؟

وبعد تحسر عميق قال: “نحن لم نعرف السلطان عبد الحميد، فأصبحنا آلة بيد الصهيونية، واستثمرتنا الماسونية العالمية، نحن بذلنا جهودنا للصهيونية فهذا ذنبنا الحقيقي“[10].

وفي الختام:

لا أستطيع أن أقول بأن السلطان عبد الحميد فشل بعدم تحقق مشروع الجامعة الإسلامية ..

بل أرى بأن العالم الإسلامي هو الذي فشل بتفويت فرصة ثمينة قدمها له رجل صالح وسياسي محنك وزعيم إسلامي فريد ..

وها نحن نجني اليوم الثمار المرة لذلك الخطأ الفادح؛ الذي فُتِحَ جرحه العميق بنكبة فلسطين، ولا يزال يتعمق بنكبات قد لا تكون آخرها: نكبة سوريا الرهيبة ..

وإن أدري لعلها سنة كونية فرضت على المسلمين واقعا بسبب ما كسبت أيديهم ..

ولو جاز لنا أن نقر بوصف السلطان عبد الحميد بالديكتاتورية؛ لقلنا بأن هذه الديكتاتورية كانت ستكون أفضل للمسلمين بكثير من مهزلة ما سمي بالديمقراطية في العالم العربي والإسلامي؛ ولو كانت هذه الديكتاتورية ستشرف على مشروع الجامعة الإسلامية لكان حالنا اليوم أفضل بكثير؛ كما هو حال دولة الصين التي تنافس اليوم القوى العظمى بقيادة الحزب الشيوعي الديكتاتوري ..

كما أن (ديكتاتورية عبد الحميد) في ظل جامعة إسلامية؛ كانت ستكون أفضل بكثير من ديكتاتورية جمعية الاتحاد والترقي في ظل طورانية وثنية، ومن ديكتاتوريات أتاتوركية وناصرية وقذافية .. في ظل حكم عسكري نهب البلاد وظلم العباد.

جاء في رسالة وجهها السلطان عبد الحميد الثاني إلى الشيخ محمود أبي الشامات شيخه في الطريقة الشاذلية بعد خلعه وذلك في سنة 1329هـ:

“إن هؤلاء الاتحاديون قد أصروا علي بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة (فلسطين)، ورغم إصرارهم لم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وأخيرا وعدوا بتقديم مائة وخمسين مليون ليرة إنجليزية ذهبا، فرفضت هذا التكليف بصورة قطعية أيضا، وأجبتهم بهذا الجواب القطعي: (إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهبا، فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي، لقد خدمت الملة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد على ثلاثين سنة فلم أسود صحائف المسلمين). وبعد جوابي هذا اتفقوا على خلعي، وأبلغوني أنهم سيبعدوني إلى سلانيك، فقبلت بهذا التكليف الأخير.

هذا وحمدت المولى وأحمده أنني لم أقبل بأن ألطخ العالم الإسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة فلسطين“. [اليهود والدولة العثمانية، ص 223].

اللهم ارحم عبدك عبد الجميد، واجعل جهاده في ميزان حسناته، وتجاوز به عن هفواته وزلاته، وارفع مقامه في مقام صدق مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

[1]  جمال الدين الأفغاني المصلح المفتري عليه، ص 137 و184.

[2]  مذكرات السلطان عبد الحميد الثاني، ص 199.

[3]  انظر: واقعنا المعاصر، ص 153.

[4]  السلطان عبد الحميد الثاني، ص 201.

[5]  مذكرات السلطان عبد الحميد الثاني ، ص 99.

[6]  صحوة الرجل المريض، د. موقف بني المرجة، ص 113.

[7]  صحوة الرجل المريض، ص 113.

[8]  السلطام عبد الحميد الثاني، ص 222.

[9]  اليهود والدولة العثمانية، ص 163.

[10]  اليهود والدولة العثمانية ص 228.

 

 

(المصدر: موقع أ. حماد القباج)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى