مقالاتمقالات مختارة

الفقيه وأسئلة الزمن الكولونيالي

بقلم فاطمة حافظ

 

مثَّل الاستعمار الغربي للبلدان المسلمة لحظة كاشفة مزدوجة، إذ كشف عن ضعف الاستعدادات المادية للمسلمين؛ العسكرية، الصناعية والتجارية. كما كشف عن الجمود الذي اعترى الحياة السياسية، بسبب ضعف وفساد النخب السياسية الحاكمة، وتكلس النظرية السياسية بعد انقطاع التأليف في السياسة الشرعية لقرون عديدة.

هكذا ظلت السياسة الشرعية على حالتها الأولى كما صاغها الفقهاء القدامى، ولم يطرأ على أدواتها ومفاهيمها ونظرياتها تغييرات تُذكر، وباتت عاجزة عن الإحاطة بالمستجدات فضلًا عن التعاطي معها.

وعلى ضوء ذلك، شكلت الموجة الاستعمارية مأزقًا حقيقيًا للفقيه الذي لم يجد بُدًّا من أن يسلك أحد سبيلين للتعاطي معها:-

الأول: العودة إلى المنظومة الفقهية الكلاسيكية وتنزيل الوقائع عليها. لكن الأمر لم يكن ليخلو من المخاطر لاختلاف السياقات الذي يحتم اختلاف النتائج، التي ربما كانت على غير مراد الفقيه.

الثاني: إعادة النظر في المنظومة السياسية الفقهية حتى تصبح قادرة على مواكبة المتغيرات، وهو الاتجاه الذي غلب في نهاية المطاف واستغرق بضعة عقود، حيث استؤنف التصنيف في السياسة الشرعية، واستهل بإعادة تأويل بعض المفاهيم السياسية التقليدية، إلى أن انتهى بإعادة صياغة علم السياسة الشرعية وفق قواعد وأسس جديدة، راعت كون الدولة القومية حقيقة واقعة.

الذي يعنينا من الجدالات الفقهية التي سادت حينئذ أمران:-

الأول: كيفية تعاطي الفقيه مع الموروث الفقهي في أزمنة التغيير، وكيفية التمييز بين الثابت والمتغير.

الثاني: كيفية حدوث التغيير داخل المنظومة الفقهية، ولأجل هذا سنتتبع بعض الآراء الفقهية المبكرة في كيفية التعاطي مع الإشكاليات المصاحبة للاستعمار كتوصيف الدار المحتلة، ومدى شرعية النخب الموالية لسلطة الاحتلال.


إعادة تأويل المفاهيم: دار الإسلام ودار الحرب

كانت أولى الإشكاليات التي فرضت نفسها على الفقيه، هي توصيف «الدار» التي سقطت في يد الاستعمار. هل أصبحت دار حرب، أم لم تزل دار إسلام؟

وهي مسألة مهمة لاختلاف الأحكام الشرعية في الدارين، وقد اختلف العلماء في تعريفهما. فبينما يرى جمهور الفقهاء أن دار الإسلام، هي الدار التي يستولي عليها المسلمون، ويجرون فيها أحكام الدين الإسلامي العامة والخاصة علنًا.

أما دار الحرب، هي الدار التي يُحكم فيها بأحكام الشرك والكفر علنًا، ولا تراعى فيها أحكام الإسلام[1]، فإن نفرًا منهم يرى أن دار الإسلام هي الدار التي يمكن للمسلم إظهار دينه فيها، ولا يخاف فتنة في دينه، لكن هذا التعريف يحمل إشكالات.

فهو يوهم بأن البلاد التي لا يوجد فيها مسلم أصلي، ولا يُحكم فيها بالإسلام كمعظم بلدان أوروبا والولايات المتحدة؛ صارت دار إسلام. كما يوحي بأن البلدان التي يحكمها مسلمون، لكن لا يؤمن فيها الفتنة، ولا يُحكم فيها بالشريعة ربما أضحت دار حرب[2].

ومع بدء الموجة الاستعمارية الغربية برز اتجاهان بين الفقهاء في توصيف البلاد المحتلة:-

الأول: يرى أنها أضحت دار حرب باستيلاء العدو عليها، وحجته تعطل بعض أحكام الشريعة العامة؛ كإجراء الحدود وإعلان الجهاد، والحكم بغير ما أنزل الله من قوانين المحتل، وهو يتشكل من الفقهاء الكلاسيكيين؛ أشهرهم الشيخ «محمد عليش» (1802-1882) في فتواه بخصوص الاحتلال الفرنسي للجزائر.

الثاني: يرى أن الوقوع تحت سلطة الاحتلال، لا يعني تغير وضعية دار الإسلام استنادًا إلى أن هنالك شروطًا تتعلق بانتقال دار الإسلام إلى دار الحرب. كأن تتصل اتصالًا مباشرًا بها، وألا يبقى شيء من شعائر الإسلام وأحكام الشريعة. القائلين بذلك هم الفقهاء الإصلاحيون، وفي مقدمتهم الشيخ «محمد بيرم الخامس» (1840-1889).

وقد ناقش «محمد بيرم» هذه المسألة في رسالته المعنونة «دار الحرب وسكناها»، التي وضعها في ذات العام الذي استولى فيه الفرنسيون على وطنه تونس، وحاول فيها تجنيب أهل تونس الجدل الذي وقع في الجزائر حول هذه المسألة.

وقد ذهب فيها إلى أنه لم يعد ثمة «دار إسلام» بالمعنى الكلاسيكي؛ إذ لا توجد دولة قائم بها الشرع من جميع الوجوه. فبعضها يحتجب فيها ولاة الأمر ويقلد من يخون المسلمين ولا يعرف شعائر الدين، وبعضها الآخر يُعلن فيها بشعائر الكفر كضرب الجرس، وتعطيل الدواوين والمدارس يوم الأحد.

وبعضها الأخير يُحكم فيها بخلاف الشريعة، بل باتخاذ قوانين الكفار والعمل بها علنًا، وولاية الكفار في الأحكام وتعطيل الحدود[3]. وعلى جانب آخر يفترض «بيرم» أن سفر المسلم إلى دار الحرب وإقامته بها جائزة شرعًا بعد قيامه بعملية تأويل واسعة للنصوص الفقهية التي تحظر ذلك[4].

هذا الرأي المبكّر، قدم غطاء شرعيًا للبعثات التعليمية الإسلامية في الغرب التي كانت واقعة تحت حرج شرعي بفعل هاته النصوص، وفتاوى الفقهاء التقليديين. ويتفرع عن هذه المسألة القول بوجوب الهجرة عن أرض احتلها العدو إلى أرض لم يصل إليها. وهو السؤال الذي طرح على العقل الفقهي الحديث مع استيلاء الفرنسيين على الجزائر.

وقد انقسم العلماء حيالها بين من يرى وجوب الهجرة واللحاق بالمجاهدين في مناطقهم الجبلية، وأفتى هؤلاء بأن من لم يهاجر ليس بمحقون الدم، ويسن سَبْي أهله وماله. بينما يرى آخرون أن الهجرة ليست واجبة مستدلًا بقوله تعالى: «إلا أن تتقوا منهم تقاة» وقول النبي صلوات الله عليه: «لا هجرة بعد الفتح». وحسمًا لمادة الخلاف، رفعوا سؤالًا في ذلك إلى فقهاء الإسلام في الأمصار[5].

وممن أجاب عنه الشيخ «محمد عليش» الذي قال بوجوب الهجرة لتضافر النصوص الدينية في ذلك، ولا يسقط هذه الهجرة إلا تصور العجز الكلي من كل وجه. فلا الوطن ولا المال يمكن التعلل بهما للبقاء، لأن ذلك كله ملغي في نظر الشرع، ومن يتخير البقاء فقد آثر موالاة الأعداء التي يترتب عليها: الجرح في الشهادة، القدح في العدالة في الدنيا، والعقاب الشديد في الآخرة[6].

وإذا كانت إجابة الشيخ «عليش» تحمل سمات القراءة الأولية للحدث من حيث الاتكاء على النصوص الدينية والفقهية، وعدم إدراك المتغيرات التي يتعذر معها التنزيل الآلي للنصوص على الواقع؛ فإن تحولًا جذريًا على صعيد النظر الإسلامي ظهر مع «السيد رشيد رضا» في مجلة المنار، بحيث لم تعد المرجعية للنص وحده، وإنما غدت كذلك في عملية تكييفه وتأويله.

وفي محاولة إدراك الواقع الذي يراد تنزيل النص عليه، وهو ما يتجلى في إعادة النظر إلى دار الحرب ودار الإسلام، إذ العبرة فيهما كما يقول بـ«ظهور الكلمة ونفوذ الحكم فإذا كانت الأحكام لأهل الإسلام لا معارض لهم في تنفيذ شريعتهم وإظهار دينهم .. فالدار التي هذا شأنها دار إسلام وإلا فهي دار حرب»[7].

وبموجب هذا التعريف لم يعد ثمة ارتباط بين الاحتلال، واستنادًا إلى هذا أفتى البوسنيون بعدم وجوب الهجرة عن وطنهم بعد استيلاء النمسا عليه، وقد أفتاهم بعض علماء الآستانة بخلاف ذلك[8].

ويمضي «السيد رشيد رضا» في تفكيك أدلة القائلين بالهجرة ذاهبًا إلى أن العلماء اتفقوا على مسألتين فيها:-

الأولى: الهجرة عند تعذر إقامة الدين وخشية الفتنة. وتعني حمل المسلم على الكفر أو مخالفة دينه.

الثانية: الهجرة عند حالة الجهاد المتعلق بحماية الدين وأهله، عندئذ تجب الهجرة فرديًا أو جماعيًا لمن احتيج إلى جهاده لنصرة الدين. وأضاف أنه يدخل في الثانية الهجرة إلى طلب العلم الواجب عند الحاجة، «فإن لم يُهاجر من يتعلم ويعود أثم جميع المسلمين الذين فقدوا هذا العلم في وطنهم»، وكذلك الهجرة من المكان الذي غلب عليه الفسوق والمجاهرة بالمنكر[9].


شرعية النخب الموالية للاحتلال

أما الإشكالية الثانية التي طرحت نفسها على العقل الفقهي، فهي موالاة الغازي الأجنبي. إذ شكلت مواقف بعض النخب السياسية صدمة للضمير الإسلامي؛ بانحيازها السافر له في المواجهة العسكرية الدائرة بينه وبين الوطنيين، وهو ما أثار السؤال حول إمكانية نزع الشرعية عن هؤلاء الحكام «ولاة الأمر»، وقد نوقش ذلك علانية مرتين:-

الأولى: ضمن فتوى «الأمير عبد القادر» الشهيرة التي تشكى فيها من تعديات السلطان «عبد الرحمن سلطان المغرب» الذي فك حصار المجاهدين الجزائريين للجيش الفرنسي، وزوده بالطعام، وصادر عتادًا عسكريًا كان في طريقه للمجاهدين، واستولى على تبرعات المسلمين لدعم الجهاد، وعقد الهدنة مع الفرنسيين.

وقد تضمنت الفتوى ثلاثة تساؤلات: ما حكم الشريعة في هذه الأفعال؟ وما مشروعية الهدنة التي أوقعها؟ وهل يجوز قتاله بعد مهاجمته جيش المجاهدين؟

وقد أجاب الشيخ «عليش» بأن جميع أفعال السلطان السابقة مُحرمة عليه «حرمة معلومة من الدين بالضرورة لا يشك فيها من في قلبه ذرة من الإيمان»[10]، والهدنة فاسدة ولا يجوز أن تقاس على صلح الحديبية لافتقادها الشروط الشرعية، وأهمها أنه وقعها دون عذر شرعي قبل أن يدهم العدو دياره. ويجب على المجاهدين قتاله «وجوبًا عينيًا» إذ هو كالعدو والبغاة القاصدين الأنفس والحريم[11].

أما الثانية: فكانت في مصر إبان الهجوم البريطاني عام 1882 إذ رفع «أحمد عرابي» ورفاقه سؤالًا إلى العلماء بشأن الخديوي «توفيق» الذي انحاز للبريطانيين في حربهم ضد العرابيين. وقد صيغ السؤال بصيغة مجردة لا متعينة.

فهو يسأل عن «حاكم مسلم» اختار ولاية غير المؤمنين على المؤمنين، وطلب من الدول الأجنبية إنفاذ قواتهم في بلاده الإسلامية، وحمل رعاياه على الخضوع لها، ولما دعاه المسلمون للرجوع عن ذلك امتنع «وأصر على المروق من الشريعة» فهل لا يجوز أن يبقى في منصبه حتى يُمكن للأجانب في البلاد الإسلامية ويتعين عزله[12].

وقد أجاب عن الفتوى جمعٌ من علماء الأزهر بقولهم: إنه يتوجب عزله ليحل محله من يقيم شرع الله ويذود عنه، ودعموا ذلك بالنصوص الدينية التي تدور حول وجوب الحكم بما أنزل الله، وتحرم موالاة الكافرين، وبفحص هذه الفتوى تستوقفنا بضعة أمور:

الأول: عدم تضمين الفتوى أي نصوص فقهية، والاكتفاء بالنصوص الدينية، وهو أمر لافت إذا ما قورنت بفتوى «الأمير عبد القادر» السالفة.

الثاني: استخدم العرابيون في سؤالهم مصطلحًا محايدًا لوصف المحتلين، هو «الأجانب». ويبدو أنهم أرادوا الإبقاء على جسور التفاهم معهم مفتوحة. لعل هذا يفسر خلو الإجابة من النصوص الفقهية التي تحمل بالضرورة أوصافًا ومصطلحات عن الآخر، لا ينبغي تضمينها.

الثالث: الربط بين موالاة الاستعمار والمروق من الدين كما تم التنصيص عليه في سؤال الفتوى. ومرجعه الآية الكريمة {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان}، وهو الربط الذي يبدو أكثر جلاء في الفتوى التي وردت إلى لجنة الفتوى بالأزهر من طرابلس الغرب -ليبيا- عام 1947، في أعقاب إعلان إيطاليا نيتها الانسحاب عنها.

وتتساءل الفتوى عن حكم الشريعة في أفراد «يدّعون أنهم عرب مسلمون، ويشذون في الوقت ذاته عن ميول شعبهم المشروعة، ويعلنون عن رغبتهم في أن تتولى الإشراف على بلادهم حكومة أجنبية مستعمرة، لا تصلها بالإسلام والعروبة صلة». وقد نُشرت في مجلة الأزهر تحت عنوان لافت هو «موالاة المستعمرين خروج من الدين».

أجاب عنها الشيخ «عبد المجيد سليم» شيخ الأزهر الذي بينَّ دواعي التشديد القرآني، على تحريم موالاة الكافرين وأرجعه إلى أنها سبيل التفرق والخروج على وحدة المسلمين، وحصول الفتنة. فمن خلالها يتمكن الأعداء من تحقيق أغراضهم، والتسلط على المسلمين، وإضعاف شوكتهم.

لذلك قرر الله أن هذا الصنيع مشاقة لله ولرسوله، واتباع لغير سبيل المؤمنين، وخلص من ذلك إلى

أن هؤلاء المطالبين بإشراف حكومة أجنبية على وطنهم «يخرجون بذلك على الدين… وأن هذا هو حكمهم عند الله وفي نظر الدين». واختتم بدعوة المسلمين عامة إلى أن يكافحوا هذا الصنف من الناس الذين منيت به الشعوب الإسلامية، فزعزع سلطانها وأطمع الأعداء فيها[13].

وصفوة القول في هذه الأمثلة أن الفقيه مع بدء الهجمات الاستعمارية، أعاد النظر في المنظومة الفقهية السياسية. إذ استطاع إدخال تعديلات جوهرية فيما يخص إعادة تعريف دار الحرب ودار الإسلام.

أما مسألة نزع الشرعية بوجهيها الديني والسياسي عمن يود تكريس سلطة الاحتلال، فلم تعوزه الحاجة لإدخال تعديلات عليها لكفاية المنظومة السياسية في هذه المسألة، المرتبطة ببُعد عقدي واضح.

 

(المصدر: موقع إضاءات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى