مقالاتمقالات مختارة

حرب ناعمة تقصف الوعي

بقلم حسام شاكر

 

ما الذي نتوقعه من مقطع مخصص لتوعية المجتمع بشأن التعامل مع الأبناء المصابين بالتوحّد؟ دعونا نتأمل! يظهر في المقطع العربي المعنيّ أشخاص غلاظ في هيئة تشبه “المطاوعة”، كما يسمّون، يباشرون بغتراتهم الحمراء ولحاهم الكثة إخراج الجنيّ المزعوم من جسد فتى التوحّد، مستعملين الزجر والضرب، مع تلاوة آيات من القرآن الكريم تتكرر بإيقاع صوتي فظ، بما يحاكي مشاهد الرعب الدرامية الباعثة على الرهبة والنفور.
ليست هذه حالة نادرة، ففي سياق “التوعية” المزعوم، تتفاعل رسائل مبطّنة في اتجاهات تدمغ مظاهر التديّن التقليدي في مجتمع الجزيرة العربية بإيحاءات كريهة وكأنها مستوحاة من سلسلة أفلام “هالوين”، مع تكثيف هالة إيحائية سلبية حول المقدّس الديني ذاته؛ متمثلا في آيات القرآن الكريم. لا يهم هنا، بمعيار التأثير المعنوي والوَقْع المنطبع في وعي الجمهور، إن كانت الرسائل الضمنية مقصودة بذاتها أم أنها سقطة جسيمة من أصحاب الحملة “الإرشادية”، فالعبرة بالأثر والانطباع.

التسلل إلى الوعي

يأتي مثال المقطع حالة مثالية بمنظور حروب الأفكار والدعاية العقائدية، فهو يتيح لمفاهيم وانطباعات أن تتسلل عبر سياق يُعين على تمريرها وهضمها دون اعتراض أو مقاومة. وإن بدا المقطع عملا بريئا في أصله أم دَسّا للسمّ في العسل أو تمريرا للترياق في كبسولة؛ فإنّ تأثيره ينهض في المحصلة على تسلل قناعات أو انطباعات، لتغدو سهلة الهضم في الوعي الجماهيري بما ينعكس على الإدراك والوجدان والمفاهيم والسلوك. تتطلّب محاولات كهذه تحضيرَ قوالب طريفة وترفيهية، أو سياقات ميسّرة ومحبّبة مثلا، لإدراج الرسالة المقصودة ضمنها بما يتجنّب استفزاز مقاومة صارمة أو يتحاشى استثارة رفض مباشر للفحوى التي قد لا تكون في أصلها مرغوبة.

الهجمة على الوعي العربي تسعى اليوم إلى حشره مجددا في قمقم احتواه في زمن مضى، مع المراهنة على إعادة إنتاج هوية المجتمعات ضمن قوالب محددة، وفرض تغييرات ثقافية واجتماعية جارفة

يعوِّل هذا التأثير على حالة استرخاء الوعي المضاد للفكرة في سياقات الترفيه مثلا، أو على ربط الفكرة ذاتها بروحية إيجابية أو مَرِحة بما يعقد ارتباطا شَرْطيا يتولّى تعميم انطباع إيجابي وَدود بشأنها، وهذا بتأثير السياق. بهذا استحقّت برامج الترفيه بألوانها وأضوائها أن تكون حلبة مثالية لخوض حروب الأفكار، فهي تتيح تسديد الرسائل وبناء المفاهيم، أو هدمها وتقويضها، على نحو انسيابي وغير ملحوظ غالبا وهو يقتحم غرف الجلوس والأجهزة المحمولة ويهيمن على برامج المساء والسهرة.

من القسط القول إنّ خشونة المضمون وحدها لا تقضي بسلبيّته في الأصل، فقد يكون هذا الخيار مثاليا في بعض مقامات الإرشاد والتعليم والتربية والإصلاح والوعظ، وقد تحمل السياقات الناعمة تعبيرا ذكيا غير مباشر عن الفكرة بطرق إيحائية متعددة، كما يأتي في أساليب قصصية توجيهية. وقد تلجأ إلى هذا التأثير مساعي التغيير لتلافي ما قد يعترضها من مقاومة في مجتمعها وبيئتها؛ أو ما تكابده من مناوأة وصدّ من جمهورها الذي تتوجّه إليه وتسعى إلى كسب قلبه وعقله.

لا يتوقف الأمر على هذا الأسلوب وحده، فغيرها كثير مما يستدرج المجتمعات إلى ابتلاع رسائل مبطّنة دون تنبيه مسبق؛ تبقى عصية على الحصر، ويقع توظيفها في حرب الأفكار التي تُقرَع نواقيسها في أرجاء العالم العربي والإسلامي بصفة غير مسبوقة. إنها حرب على الوعي تتجنّد فيها شاشات وشبكات، ومنظمات ومؤسسات، ومراكز ومعاهد، وأقلام وتصريحات، وعمائم وربطات عنق، وتحظى حملاتها برعاية سياسية رسمية ومباركة غربية مُعلَنة وتمويل سخيّ ترتبط بعض ذيوله بقوى وأطراف في الإقليم وخارجه.

تباشر حرب الأفكار الراهنة التجريف المعنوي الواسع من تحت الأقدام، بما يجعلنا شهودا على مدافع تقصف الوعي في أعماقه دون مناقشة، وهذا تأسيسا على خبرات تطوّرت خلال الحرب الباردة في قرن مضى. ومن الواضح أنّ الهجمة على الوعي العربي تسعى اليوم إلى حشره مجددا في قمقم احتواه في زمن مضى، مع المراهنة على إعادة إنتاج هوية المجتمعات ضمن قوالب محددة، وفرض تغييرات ثقافية واجتماعية جارفة.

ليست هذه الحملات شفافة، ولا هي عادلة أو متكافئة، فهي حرب المتنفذين الحريصين على استقالة المجتمعات المستهدفة، وتعطيل قواها الحية، وإشاعة أنماط متذاكية من البلادة التي تحرِّض على تحييد العقول إزاء تدفقات كثيفة مسلّطة على الوعي الجماهيري. يمتدّ التلاعب إلى المناهج المدرسية والإرشاد الديني والمضامين الإعلامية والصناعة الثقافية، علاوة على افتعال شعوب افتراضية بديلة عن شعوب الواقع، كي تُصادِر أولويات الجمهور وتوجِّه اهتماماته في مواقع التواصل الاجتماعي، بفعل الجيوش الإلكترونية وأصحاب الإطلالات الإعلامية والشبكية المأجورة.

الثورات المضادة مثلا

تبدو الثورات المضادة مختبرا مصغرا لحروب الأفكار المكثفة، بما تشتمل عليه من تأثيرات موجّهة وحملات دعاية. ليس خافيا كيف انتظمت الثورات المضادة في الواقع العربي لخنق الأنفاس، وتوجّهت إلى إخضاع وعي المجتمعات بفئاتها وأوساطها وشرائحها ومشاربها وأمزجتها كي تسأم الحرية والانعتاق. برزت في السياق، مثلا، خطابات ساذجة وأخرى مُعَقلنة، وانتظمت في المنحى مقولات تقليدية وأخرى “تنويرية”، وجيء بحجج وذرائع تلائم من يتذرّعون بحَرفيّة النصّ وأخرى تناسب المائلين إلى تعظيم الرأي. قُصِفت المجتمعات المستهدفة لإخضاع وعيها بوسائط عدة ومداخل شتى، مع تكثيف الرسائل بأساليب الإشباع الدعائي الشامل، حتى وجدت كلّ فئة مجتمعية نصيبها من متحدثي الجوقة.

لم يكن مفاجئا أن تنزلق إلى خندق الثورات المضادة عمائمُ وصلبان رسمية وربطات عنق، ودعاة ودهاة، وأكاديميون وأميّون، ومتستِّرات وراقصات، وأن ينتظم في الحالة متحدثو شاشات بالفصحى المقعّرة وبنظيرتها الميسّرة وبالعاميات الهابطة جميعا، ومنها الدراجة في الأرياف والعواصم والأحياء المترفة والبائسة أيضا. انخرط في التعبئة الشاملة شيوخ وكهول وشبّان جمعتهم الجوقة التي نُظِم إيقاعها رغبا ورهبا، وأُغدِق عليها من سخيِّ العطايا وموفور الامتيازات.

لم تستغنِ الثورات المضادة عن مفعول الضغوط المعنوية والصدمات التي تُلجئ الجمهور إلى اختيارات لم يستسغها من قبل، بالإرغام على مواقف وقناعات تحت وطأة قهرية مُفتعلة أو قائمة؛ يجري توظيفها أو تضخيمها وإبرازها في الوعي الجمعي. فإن استبدّ الخوف والهلع بالمجتمع، أو تملّكه الصدّ والنفور؛ قد يستسهل الإقدام على اختيارات أو تفضيلات أو قناعات لم تكن مُتوقعة منه في أحوال سبقت. ومن المألوف استعمال هذا التأثير عبر إشاعة أجواء تشاؤميّة وتكثيف الانطباعات السلبية عن واقع معيّن للوصول بالحسّ الجماهيري إلى قبول ساذج بأي بديل عنه ملاذا من المخاوف والهواجس والحنق السائد، وهو ما برز جليا في إذكاء الردّة عن موسم الحرية والكرامة العربي القصير، مع تطبيقات سبقت في بيئات عدة مثل بلدان أمريكا اللاتينية التي عدّتها الولايات المتحدة فناء خلفيا مُلحقا بها.

تمّ إشعار الجماهير بأنّ أي بديل استبدادي هو خير من واقع يعتريه القلق، وأنّ الفوضى -المفتعلة أساسا- هي قرينة الحرية، وأنّ سطوة الجيش كفيلة باستعادة الأمان والوالدية المجتمعية المفقودة في زمن اليُتم المعنوي المفتعل. ما جرى بعد ذلك كان تحصيل حاصل، ومنه اندفاع بعضهم إلى تقبيل أحذية العسكر على الشاشات العربية، ورفع البيادة فوق الرؤوس في الميادين، والتقاط صور تذكارية تحتفي بهذا التردي الذي سبقه حشو الأذهان بقناعات لا مصلحة للشعوب بها.

حرب أفكار في رمضان

لا تصفِّد حربُ الأفكار شياطينَها في رمضان المبارك، بل تُطلِق أيديهم وأبواقهم في مجتمعات العرب، كما يتجلى في مسلسلات صفراء فاقع لونها تؤذي المشاهدين، تحدّدت مراميها في خنادق الأفكار المفتوحة على أقبية الأمن وصنابير التمويل الذي يفيض به حلفاء الاستبداد.

تتذاكى حرب الأفكار والدعاية السياسية والأمنية خلال هيمنتها المتزايدة على الدراما العربية المتدهورة، كأن تتذرّع بشواغل المجتمع وأذواق الجمهور خلال تقديمها بعض الأعمال المشبوهة. تم بهذه الذريعة إغراق الشاشات بمسلسلات تحكمها إرادة الإخضاع الفكري، فتراهن مثلا على تشويه التديّن بأساليب التصريح والإيحاء، وشيطنة الحركات الإصلاحية، وترهيب المجتمعات من محاولة تشغيل عقلها وإطلاق أنفاسها بفرض سطوة ذهنية عليها، علاوة على التساوق مع محاولات فرض تغيير اجتماعي وإعادة نظم السلوك العام وترتيب أولويات الجمهور على أسس جديدة.

كثير هم أولئك المَدينون لـ”داعش” وأخواتها بالفضل في إحياء أدوارهم الوظيفية وترويج أفكارهم وآرائهم، وإنعاش مدارسهم ومذاهبهم، يجعلون رزقهم أنهم يكافحونها في ظاهر القول دون باطنه

يمتدّ الفعل إلى مساحات أوسع، منها تصنيع القدوات الجماهيرية بتأثير طاغ تمارسه الصناعة الثقافية والإعلامية الاستهلاكية؛ مثل برامج إبراز النجوم الصاعدين طبقا لمقاييس محددة سلفا. تباشر هذه الصناعة حسب أولوياتها انتقاء أشخاص وترميزهم والترويج الجماهيري لأعمالهم وتحقيق الذيوع لحضورهم، مع الحرص على استعمالهم في إشاعة البهجة والرضى الغامر بواقع مفروض بالقهر.

يتحقق للصناعة إياها هذا الامتياز عبر خطوط الإنتاج والتسويق التي يحتكرها متنفذو الباقات التلفزيونية ومؤسسات الإنتاج والتوزيع والإعلان المرتبطة بها، وجميعها ملتصقة بنفوذ سلطوي أعلن خوضه حرب الأفكار بلا هوادة. إنها نخبة الانصياع الصاعدة التي ستنتظم في الجوقة التي سبقت إليها وجوه الفن والثقافة والإعلام، كالتي افتضح أمرها في تسريبات صوتية وهي تتلقى من ضابط مخابرات عربي إملاءات المحتوى الدعائي، الذي ينبغي التعبير عنه على الملأ بإخلاص.

ليس بعيدا عن ذلك، تمّ إنتاج طبقة جديدة من العمائم وربطات العنق لاحتواء الحالة الدينية وتوجيهها، مع حملة واسعة لشراء ذمم بعض المحسوبين على العلم والفكر والاستنارة، كي يجري تحريكهم على الرقعة عبر برامج يُراد لها أن تحظى بأفضل أوقات البث ومن منصّات توجيهية ذات حضور عابر للحدود. ويتمادى القوم على الجانب الآخر في إخراج نخب علمائية وفكرية ووعظية من المشهد بمساعي الوصم والتشويه، والإدراج على قوائم الإرهاب، علاوة على الترهيب والاستبعاد والزج في السجون وإصدار الأحكام القاسية بحق بعضهم. إنه مفعول الهدم والبناء الذي يباشر الانقضاض على اتجاهات مستقلة، بالتلازم مع إنعاش ما يقابلها.

صدمة “داعش” وتوظيفها

ليست “داعش” منظمة مسلحة أو تشكيلا ميدانيا وحسب، فهي تجسيد جسيم لأسلوب كيّ الوعي أيضا. فمنذ أن ارتقى “خليفتها” المنبر الأبرز في الموصل سنة 2014؛ برزت هذه الحالة بصفة مكثفة في فضاءات التناول الإعلامي والسياسي والمجتمعي اليومي عربيا وإسلاميا وعالميا؛ ووقع استعمالها ذرائعيا بكيفيات منقطعة النظير تقريبا، حتى وقع اشتقاق حزمة مصطلحات من وَحيِها، مثل الداعشية والدعشنة والدواعش، مما يجري إسقاطه على خصوم الموقف والرأي والفكر.

بزغت “داعش” هدية مثالية لحرب أفكار مستعرة في العالم العربي، ونحو المسلمين حول العالم عموما، فهي تنطوي على تأثير الصدمة الذي تضافَر مع تضخّم الوعي بحالة فاجعة في حضورها وممارساتها. والرسالة الضمنية التي حملتها “داعش” إلى مسلمي الأرض؛ أنّ هذا هو دينكم وتلكم هي مقدساتكم وشاراتكم ورموزكم، ترونها لصيقة بحزّ الرؤوس ولازمة لحرق الأحياء وباعثة على سحق البشر واقتراف الإعدامات الميدانية المصورة والإمعان في التوحش الذي تقشعر منه الأبدان. لا عجب، إذن، من حفاوة فرسان حرب الأفكار بحالة “داعش” وارتكازهم الذرائعي إليها، فقد منحتهم حججا ساذجة لخطاباتهم، وصبّت الزيت على نار دعاواهم، بما فيها بعض مقولات “المراجعة” و”التصحيح” و”الإصلاح” و”التجديد” الهشّة، التي ينضوي تحتها الشيء ونقيضه أحيانا.

وكأنّ “داعش” كانت صادقة أساسا في منحاها التبريري هذا. لم يسأل القوم، مثلا، عن منحى استعمالي ساذج شهدته الأديان جميعا، والعقائد والأفكار والفلسفات ككل، والقيم والمبادئ والشعارات النبيلة أيضا، تمت بموجبه محاولة توظيفها بلا استثناء تقريبا لتبرير الفظائع والموبقات والانتهاكات، وصولا إلى قيمة الحرية ونشر الديمقراطية التي تذرّعت بها غزوة بوش وبلير على العالم الإسلامي، ومع ذلك فإنّ هذا الاستعمال المارق لا يضير القيم ولا المبادئ ولا العقائد والأديان من حيث الأصل. لكنّ حالة “داعش” وأخواتها برزت منذ سنوات ذريعة مركزية لحمى التراجعات الدينية والهزّات الفكرية والانهيارات المعنوية الموجّهة، وهي عند بعضهم توطئة لحملة محمومة على الإسلام ذاته في بيئات عدة، أو لقمع فهم حرّ ومستقلّ وأصيل للإسلام لا يُقِر بخفض الرؤوس وتمجيد الاستبداد وتبرير الهيمنة والتنازل عن الحرية وكرامة البشر.

كثير هم أولئك المَدينون لـ”داعش” وأخواتها بالفضل في إحياء أدوارهم الوظيفية وترويج أفكارهم وآرائهم، وإنعاش مدارسهم ومذاهبهم، وإبراز مراكزهم ومنصّاتهم، حتى أنهم يقتاتون من تأثيرها، ويجعلون رزقهم أنهم يكافحونها في ظاهر القول دون باطنه. ومن أعراض الحالة أنّ بعض دعاة “مكافحة التطرف” لا يروق لهم الحديث عن بواعث التطرف والاضطراب لدى الموصوفين بالتطرف والإرهاب، فهذا المنحى من التفكير قد يحدّ من حججهم الرامية لشنّ حرب أفكار مسددة بعناية في اتجاهات محسوبة دون سواها، علاوة على مسعاهم الدؤوب لإعفاء أطراف ضالعة في إنتاج حواضن التطرف من المسؤولية عما اقترفته أيديها.

التطرف لا يعني التطرف

من المألوف أن تستعمل حروبُ الأفكار المفردات على غير مقصدها، حتى فقدت كلمات التطرف والإرهاب معناها في الواقع العربي، واستحالت وصمة فضفاضة تستوعب كل ما يُرجَى استهدافُه حسب أولويات كل طرف وطبقا لمصالحه. ومن نافلة القول، بالتالي، أنّ “مكافحة التطرف” قد تعني في بعض السياقات مكافحةَ التديّن، أو لعلّها محاولة لمحاصرة الإسلام ذاته في قوالب متصالحة مع واقع ذميم، أو السعي إلى إعادة إنتاج المجتمع والثقافة بصيغ جديدة منضبطة وخاضعة لا تعترض ولا تناقش، كما يروق للخطابات الصاعدة في زمن ترمب مثلا.

و”الاعتدال” في هذا المقام لا يعني الاعتدال على الأرجح، ومثله التسامح والاستنارة. أما “مكافحة الإرهاب” فقد تأتي إيذانا باقتراف تجاوزات وانتهاكات جسيمة، والسعي لفرض معادلات قسرية جديدة، مع خوض مطاردات مجتمعية وحملات حظر وتقييد تتجاوز حالة “الإرهاب” المجرّدة. فمقولة “الإرهاب” كما تأتي في الخطابات الرائجة هي رأس الشرور جميعا، بما يبرِّر الردّ باستباحة القيم وتعطيل اشتغالها في نطاقات محددة، إلى درجة إخراج بعض البشر من النطاق الإنساني، كما انعقد في نموذج غوانتانامو الواقعة خارج التعريف الجغرافي الأمريكي بصفتها مقتطعة من كوبا، بما أتاح اقتراف ممارسات خارجة على القانون دون انتهاك القانون ذاته!

اتّسع الخرقُ على الراقع، حتى تراشقت العواصم الشقيقة باتهامات “دعم الإرهاب”، بما فضح المنحى الاستعمالي لقاموس المصطلحات الذي تغترف منه حرب الأفكار الراهنة، التي ما زالت في بداياتها على ما يبدو. والثابت أنّ أرباب هذه الحرب الناعمة يراهنون على خوض جولات مديدة من قصف الوعي الجماهيري، دون تحذيرات مسبقة.

 

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى